في شهر العبادة.. هل تكفي إقامة الشعائر؟

اتخذتْ الزاوية المجاورة لبيتي هيئة مسجد عتيق بعد أعمال الترميم والتوسيع التي طالتها. ولما زِيدت ألوان الطلاء والزخرفة الإسلامية، بات الشكل الجديد محبوكاً، خاصة بعدما انتصبت المئذنة أعلى السطح. تكفّل جارٌ ثري بتكلفة أعمال البناء ومواده، حيث يدخل التبرع لبناء المساجد في أحب السبل التي يفضل المصريون الإنفاق فيها تقرّباً لله. وإمعاناً في الخير زيدت مكبرات الصوت، فعلا المسجد أربعة منهم
2014-07-09

بسمة فؤاد

باحثة من مصر


شارك
بانتظار موعد الإفطار في خان الخليلي في اقلاهرة (تصوير خالد دسوقي - أ ف ب)

اتخذتْ الزاوية المجاورة لبيتي هيئة مسجد عتيق بعد أعمال الترميم والتوسيع التي طالتها. ولما زِيدت ألوان الطلاء والزخرفة الإسلامية، بات الشكل الجديد محبوكاً، خاصة بعدما انتصبت المئذنة أعلى السطح. تكفّل جارٌ ثري بتكلفة أعمال البناء ومواده، حيث يدخل التبرع لبناء المساجد في أحب السبل التي يفضل المصريون الإنفاق فيها تقرّباً لله. وإمعاناً في الخير زيدت مكبرات الصوت، فعلا المسجد أربعة منهم بدلاً من الواحد. جدير بالذكر أن المسجد الجديد يتوسط مسجدين لا يفرق بينهما سوى بضع مئات من الأمتار القليلة.
كان حلول شهر رمضان إيذاناً بالافتتاح، وعلت الأصوات المتضاربة من المساجد المتجاورة، وانتشرت في السماء تقبض الأرواح بفظاظة عِليَها، وتجهر بالإشكالات التي طالت مفهوم العبادة قصراً وتحريفاً.
الاشباع بدل...
كما تبعث نفحات شهر رمضان على إحياء آمال الاستجابة السماوية للدعوات المؤجلة، وتُجدِّد تراثاً اجتماعياً فريداً، فإنها تؤشر على قصورٍ في فهم العبادات. قصورٌ لم يخص العموم وحسب بل طال بعض دعاة الدين، خاصة هؤلاء الهواة الذين يعتلون المنابر ويتصدرون لوعظ الناس.
«شهر العبادة». هكذا يمكن التعريف بشهر رمضان. ورغم اتساع مفهوم العبادة في الإسلام ليشمل حتى العادات الطيبة إن قُصدتْ لوجه الله، فقد اختص الشهر الفضيل بالإكثار من التعبد بالدعاء إيماناً وتعلقاً - مشروعاً - بالحديث الشريف «للصائم عند فطره دعوة لا تُردّ». كذلك، فإن قراءة القرآن عبادة يجّلها الصائم ويحرص عليها، ومصحف الجيب سبيله لاختلاس الأوقات الفارغة في المواصلات العامة، وربما في مؤسسات العمل، من أجل انجاز ختمة واثنتين... وفي الزيادة خير. كما تدخل مجاهدة النفس للحفاظ على يومية صلاة التراويح في أشكال العبادة الراسخة في الأذهان، يتبعها ما أمكن قيام الليل والاعتكاف وإنْ بالنذر اليسير.
ولطالما كانت الخلطة السلوكية المتناقضة التي يجددها حلول شهر رمضان، مادة ثرية تتناولها أقلام الكتاب وتتناقلها أعين المتابعين بالتعجب تارة وبالسخرية تارة أخرى. فالمناسبة دينية بالأساس تجنح غايتها الكبرى نحو تهذيب النفس وتقويض شهواتها، بينما تتجه مظاهر الحفاوة المجتمعية في مجملها نحو تمام الإشباع! تكتسي الأسواق بصنوف الأطعمة الرمضانية الشهية، وتزدان نوافذ البيوت وشرفاتها بالفوانيس والمصابيح الملونة، فيما تُعبأ الشاشة الصغيرة بالوجبات الإعلامية والفنية الدسمة التي تظل تلفظها صبح مساء، بما يوقع الصائم اسيراً لفيض المغريات التي تصرفه دوماً نحو تسديد فاتورتها. وبينما تمثل تلك العادات الاجتماعية نزوحاً عن مقاصد الشهر الفضيل، تبقى على هامش آخر «شنط الخير» و«موائد الرحمن» التي ينظمها المقتدرون، وهي تحمل مظاهر للتضامن الاجتماعي الذي يعد غاية أصيلة للشهر الكريم.

قصور التكافل الاجتماعي وعبادة بلا عمل

من جهة أخرى، ينفي ضجيج وتضارب الأصوات الصادرة من المساجد المتقاربة إمكانية أن يشتمل التضامن الاجتماعي الذي يقصده الشهر الكريم على التضامن مع المريض والنائم بل والمتعبد ببيته. كذلك، فإن امتداد فرش الصلاة كثيراً لخارج المسجد، بما يسد معه الطريق، يؤكد أن حدود التضامن الاجتماعي في الشهر الفضيل استقر وقوفها اجتماعياً عند مشاركة الطعام وحسب.
الأدهى أن هذا وذاك يتمان بتوجيه ومباركة أئمة تلك المساجد ومعتلو منابرها، رغم مخالفة تلك السلوكيات لأصول ونصوص الدين. فقد جاء النهي واضحاً في الحديث الشريف «لا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن»، وقد قال الباجي في الشرح: «أن في ذلك إيذاءاً ومنعاً من الإقبال على الصلاة، وتفريغ السر لها».
كذلك، فإنه بشكل عام لا يمكن ملاحظة فروقات واضحة على مستوى الإنجاز في العمل تسجل لصالح الملتزمين بإقامة الشعائر على غيرهم. فقد يُنهَك قائم الليل من السهر كما ينهك متابع وجبات الاعلام الرمضانية الدسمة. كلاهما يسهر وإن كان لأغراض مختلفة، وكثيراً ما يعوض كلاهما ذاك السهر بغفوات خاطفة في ساعات العمل المخفّضة، حيث ظل تخفيض عدد ساعات العمل من طقوس الاستعداد الثابتة في الشهر الكريم، ما دفع بعض الرافضين لاستهجان الخسارة الإنتاجية والاقتصادية التي تصيب الشهر الفضيل، بما يبدو معه أن اتقان العمل خَرَج من العبادات الحصرية لشهر رمضان، وذلك رغم وفرة النصوص الإسلامية التي تحث على العمل وتوجب إتقانه، باعتباره عبادة، والحديث الشريف «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه» يعد دليلاً دامغاً على ذلك، إضافة إلى انتفاء أية مصادر تستثني شهر رمضان من القاعدة العامة، الأمر الذي يعضده تاريخ المسلمين الأوائل وإنجازاتهم المسجلة في الشهر الكريم. ومع هذا يندر في الحاضر أن يمتد مفهوم العبادة عموماً ليطال إتقان العمل، سواء بتعزيز الخدمات للمؤسسات الخدمية أو بزيادة الإنتاجية في مؤسسات الإنتاج.

خطاب المسجد وضوابط قانونية لشعائر دينية

تتحمل محدودية الخطاب الديني في شهر رمضان شطراً كبيراً من المسؤولية، حيث يبدو منصرفاً إلا عن التأكيد مراراً وتكراراً على وجوب إقامة وإحياء شعائر رمضان وكأنها كل ما في الأمر. وحيث تمثل خطبة الجمعة لقاءاً دورياً مع الخطاب الديني، فإنها عادة ما تستهل الشهر الكريم بالتفصيل في فضل الصيام والتحذير من مبْطلاته، وكثيراً ما تفرط في قصر التحذير على الانشغال بمتابعة الأعمال الفنية كأخطر المحظورات! بينما يتوسط الشهر خطاباً يدعو غالباً لتدارك ما بقي من الشهر واغتنام العشر الآواخر منه حيث الفوز بالوعد الإلهي بالعتْق من النيران، فيما ترسل الخطبة الأخيرة الحسرات على انقضاء الشهر الكريم وتنبه على ضرورة الاستمرار على النهج ذاته لأن رب رمضان هو رب كل الشهور. وتمثل الدعوة المستميتة للاستمرار على هذا النهج جوهر المشكلة التي يعانيها بعض دعاة الدين، حيث الانصراف شبه التام عن جوانب استقر تفلتها من مفهوم العبادة الشامل، بما حصره في الالتزام بالشعائر بدعوى الامتثال لبعض النصوص، وبما يبدو وكأنه انحياز نحو نصوص بعينها عن أخرى!
فيما ينتشر بين آن وآخر أخبار عن شروع وزارة الأوقاف في تقنين بعض المسائل الإشكالية، مثل تحديد محتوى الخطب ومنع الإطالة بالمصلين، وضبط معدلات ارتفاع الصوت، وتوحيد الآذان، فسرعان ما يلتبس الأمر بصراعات سياسية، وغالباً لحسم الصراع لصالح السلطة، فيما يروق تفسير الأمر عند آخرين على أنه الحرب المنتظرة على الإسلام!
في مصر عموماً، يعجز القانون عن حل مشكلات كثيرة، وهذا مؤسف بحد ذاته. والأكثر أسفاً ان يمتد عجز القانون عن تقنين الأزمات الكبرى ليتدخل في تنظيم ممارسات يبدو ضبطها تلقائياً واجباً بضوابط الذوق العام وبديهيات الفطرة السليمة، بل وبنصوص الدين... التي يجافيها بعض دعاته.
 

مقالات من مصر

ثمانون: من يقوى على ذلك؟

إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.

في مصر يمكنك فقط الاختيار بين سجن صغير وآخر أكبر

إيمان عوف 2024-12-09

تحوّل القانون رقم (73) لسنة 2021، الذي يتيح فصل الموظفين المتعاطين للمخدرات، إلى أداة لملاحقة العمال والنشطاء النقابيين العماليين، والنشطاء السياسيين والصحافيين. وعلى الرغم من اعتراض النقابات والجهات الحقوقية على...

للكاتب نفسه