«نظام الدعم غير الفعال والرجعي في مصر يطيح بالتدخلات الأكثر إنصافاً، ويستفيد منه الميسورون بشكل غير متناسب. فعلى سبيل المثال، وفقًا لتقديرات العام 2009، ذهبت نسبة 60 في المئة من الدعم على الوقود إلى الشريحة الخمسية الأغنى. وعلى النقيض من ذلك، شكّلت خطط الحماية الاجتماعية غير المتعلّقة بالدعم (مثل التحويلات النقدية والقروض الصغيرة والتأمينات الصحية، الخ..) نسبة 0.11 في المئة من الإجمالي فقط، وهي نسبة قليلة جداً مقارنة بالدول الأخرى في المنطقة. لكن على الرغم من عدم كفاءة أنظمة الدعم في البلاد، فإن إزالتها ستؤدي إلى آثار إفقارية كبيرة. بدلاً من ذلك، يتعيّن على الحكومة إعادة هيكلة إطار الحماية الاجتماعية للوصول إلى أولئك الذين هم في أشد الحاجة إليها». هذا ما أورده «المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية» في نشرته «تصوير الحقوق»، الصادرة في 2013 في ضوء مثول مصر أمام لجنة الأمم المتحدة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
ولمثل ما ذهبت إليه النشرة اتجهت توصيات كثير من المختصين، للتوكيد على ضرورتين: الأولى هي حتمية تجاوز نظام الدعم القائم، والثانية هي بحث كيفيات استثناء الفقراء من ذاك التجاوز.
عَمَايَة القرارات
فعلياً، لم تنحُ الحكومة الى محاباة الفقراء بالدرجة المأمولة عند خفض الدعم، في ضوء الأرضية القاتمة التي هبطت إليها القرارات. مثلاً، في ما يخص المحروقات، بدأت الحكومة بإقرار خفض الدعم الذي صوحب بزيادة 78 في المئة على سعر البنزين من عيار 80، وزيادة على سعر السولار بنسبة 64 في المئة (وهي المحروقات المستخدمة في وسائل النقل العامة والسيارات المتواضعة)، في مقابل 7 في المئة زيادة على سعر البنزين عيار 95 (المستخدم في السيارات الفارهة). وفي حضرة القرارات الجديدة، لم تنقشع الضبابية التي تغلف نظام «البطاقات الذكية للبنزين» الذي بدأ تطبيقه في 2013.
فبعكس ما أُشيع عن ذلك النظام، لم تستخدم تلك البطاقات كوسيلة لتوجيه الدعم للفقراء وتدريج خفض الدعم طبقاً لمعدل الاستهلاك، كما لم توجه لضبط السوق السوداء ومنع تهريب الوقود، بل إنه حتى الآن لم تنته إجراءات تعميمها، كما لم تفعّل بعد! وحسب ما نُقل عن رئيس «شعبة المواد البترولية»، د.حسام عرفات، فإنه «الآن ليس للبطاقات الذكية أي دور. حينما تكتمل المنظومة يصبح لها دور كبير في الرقابة على البنزين»، ولم يتضح بعد متى ستكتمل المنظومة. لذلك بدت القرارات سابقة عائدة لمعطيات ربما كان من الأوَلى أن تلحَق عليها.
ولعل شح المعلومات الذي تعانيه الحكومة بخصوص بيانات المستهلكين ومعدلات الاستهلاك في المناطق المختلفة، كان سبباً في العماية التي صاحبت القرارات. فلا هي دعمت الفقير ولا هي ضبطت السوق السوداء. ليس هذا فحسب، بل إن الحكومة حتى لم تبالِ بضبط آلية جادة لتفعيل سبل الرقابة التي تمنع انفلات أسعار النقل والبضائع لأضعاف ما زادته أسعار الوقود، سوى خدمة «الخطوط الساخنة»، الوسيلة البالية التي تلجأ إليها حين تعوزها البدائل المجدية. وقد أضيف إليها لقاء رئيس الوزراء ببعض السائقين، الذي ـ نقلت الصحف أنه ـ أوصاهم من خلاله بعدم مخالفة تعريفة الركوب المقررة، الأمر الذي أضاف استفهامات جديدة: كيف يُصنف هذا اللقاء، وهل يمكن إدراجه ضمن آليات ضبط الأسعار، أم أنه من قبيل إثبات «بذل الوسع» للتصوير الإعلامي؟
المراوغة سبيلٌ
وعلى صعيد السلع التموينية، كانت المراوغة في التصريحات سبيلاً لتمرير صدمة القرارات الجديدة. فجاء الخبر ـ المفاجأة: «أن نظام الدعم الجديد يوفر الدجاجة بخمسة وسبعين قرشاً للمواطن، وكيلو اللحم بجنيه واحد، بل وإن النظام الجديد يتيح بدائل أكثر من السلع الغذائية يختار من بينها المواطن». ذلك مع غض الطرف عن تخفيض الحصة التموينية المستحقة للمواطن سابقاً إلى الثلث تقريباً: كان المواطن يحصل سابقاً على ما يقرب من خمسة كيلوغرامات من السلع التموينية الأساسية (الزيت السكر- الأرز)، أما النظام الجديد فيتيح ما يقرب من اثنين كيلوغرام فقط من مدى أوسع من البدائل السلعية. ناهيك عن أن الدجاج واللحم لا يمثلان السلع الأساسية للمواطن الذي ينتظر الدعم. فقد كشف «مرصد الغذاء المصري» في نشرته ربع السنوية (تموز/يوليو ـ أيلول/سبتمبر 2013)، عن أن الزيت والأرز والسكر هي أكثر السلع التي تقوم بصرفها على البطاقة التموينية الأسر «الأكثر احتياجاً»، كما أشار إلى عدم كفاية المخصصات التموينية المدعّمة من تلك السلع، حيث تلجأ 74.5 في المئة من الأسر إلى استكمال حاجتها من الزيت بالشراء الحر، وكذلك تفعل 79 في المئة من الأسر في ما يخص الأرز، و67.9 في المئة منها في ما يخص السكر، ما يسلط الضوء على المعاناة المتوقعة لتلك الأسر في ظل النظام الجديد.
كذلك كشف المرصد عن انخفاض معدل استهلاك الأسر الأكثر احتياجاً من البروتين الحيواني لأقل من مرة أسبوعياً، بينما سُجلت «مقاطعة» ثلث العينة محل الدراسة (34.9 في المئة) لتناول اللحم لمدة خمسة شهور في المتوسط، إضافة إلى أن خُمس الأسر (18 في المئة) قاطع الألبان لمدة أربعة شهور في المتوسط! فضلاً عن أن 89.8 في المئة من الأسر «الأكثر احتياجاً» لا يكفيها دخلها الشهري، وتعوّض ذلك بالسلف المالية والغذائية والهروب للسلع الغذائية الأرخص، وتخفيض معدل الاستهلاك. والسلعة الغذائية الوحيدة التي اتفق 94 في المئة من أسر العينة محل البحث على مناسبة سعرها لقدرتها الشرائية، كانت الخبز البلدي، الذي لجأت الحكومة مؤخراً لرفع سعره سبعة أضعاف (من خمسة قروش إلى خمسة وثلاثين قرشاً) مع بقاء المدعّم على البطاقة التموينية، التي كشفت النشرة ان 17 في المئة من الأسر الأكثر احتياجاً.. لا تمتلكها!
هزال الأجور مقابل ..
في مقابل الطفرة الحادثة في ارتفاع الأسعار، حظي موظفو الدولة وأرباب المعاشات بزيادة العلاوة الدورية (10 في المئة من قيمة الأساسي)، تالية لزيادة الحد الأدنى التي أقرت لموظفي الدولة بموجب قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 22 لسنة 2014، اعتباراً من مطلع 2014 (1200 جنيه مصري). لكن، ونظراً لنظام الأجور المعقّد في مصر، فقد كان الواقع أن ما يتقاضاه الموظف من الدرجة السادسة وحتى بعض موظفي الدرجة الثالثة لا يصل فعلياً إلى 1200 جنيه تلك المذكورة، بسبب جملة الاستقطاعات الضريبية والتأمينية التي تلحق بالأجر.
وبغض النظر عن تأخر نظام الأجور في مصر عن المعمول به في الأنظمة الحديثة التي تُعرِّف الأجر على أنه «كل ما يتقاضاه العامل»، فإنه كذلك بصفته القائمة ينضوي على كثير من التدليس والتمويه للحقائق. ومع ذلك، وعلى أية حال، يبقى موظفو الدولة الفئة الأقل حجماً والأكثر دلالاً، حيث تفلت من تطبيق الحد الأدنى نسبة العمالة الأكبر، التي تتوزع بين القطاع الخاص الذي يتّسع عن قبضة الدولة (المعلوماتية والقانونية)، وكثيراً ما تُضرب فيه قوانينها عرض الحائط، ويتمدّد التوصيف الوظيفي للعامل فيه ليشمل «كل ما يُطلَب منه»، كما يتجرأ كثيراً أصحابه على مصادرة إجازات العمال وحقوقهم في الزيادات الدورية، فضلاً عن الحد الأدنى. ومن ناحية أخرى، فإن القطاع الخاص غير الرسمي، والذي قدرت عمالته بـ 40 في المئة من قوة العمل الإجمالية لعام 2007، يشكل جحيماً موازياً تتضاعف فيه معاناة الموظفين وتُسلب حقوقهم وتنحدر دخولهم تحت وطأة غفلة الدولة عنهم.
... بينما يبقى العاطلون عن العمل خارج نطاق الزمن، وقد زادت نسبتهم إلى 13.2 في المئة في الربع الأول من 2013، وكان للشباب النصيب الأكبر فيها إذ زادت نسبتهم عن 25 في المئة تبعاً لإحصاءات الدولة الرسمية. لذلك فإن أحوال العمال عموماً في مصر تشير إلى أن يد الغلاء امتدت لجيوب خاوية.
المؤيدون على بياض..
ومع ذلك، لم يخلُ الشارع بعوامه وفقرائه من مصفِقين، يمتدحون شد الحزام كسبيل للنهوض، تملأهم طاقة تتلهف لإشارة بدء في الاتجاه الصحيح، يتخذون من ممارسات السوق السوداء لتهريب السلع المدعومة على مدار التاريخ مؤشراً واضحاً على سلامة الطريق الجديد، وضرورة «التحمّل من أجل النجاة»، يدركون بوعي فطري أن ردود الأفعال إزاء القرارات الاقتصادية أُلبست أثواب التحيزات السياسية بين دعم النظام ومعارضته، وأنه كثيراً ما يُزَج بحقوقهم لتحقيق مكاسب سياسية سواء للنظام أو للمعارضة. هؤلاء يوازيهم آخرون يسألون عن البدائل، ويطمحون في تفاوض يحقق أخف الضررين، ويقدمون مقترحاتهم وتنازلاتهم الخاصة، ويطالبون بمحاسبة الحكومة ومراجعتها، وبحقهم في معرفة المآلات والمشاركة في صنع القرار.
وعلى الرغم من زخم الجدل الذي اتسمت به ردود الأفعال المتباينة، إلا أن الحكومة انصرفت إلا عن هؤلاء المؤيدين على بياض. عليهم اتكأت، ومن جَلَدهم ودعمهم استمدّت قوتها وجرأتها. ولكن يبقى رهانهم عليها عالقاً إلى أجل غير معلوم، ويبقى ما بصروه من نتائج ليس بعدُ إلا القريب. فهل تكفيهم مثلما كفوها؟ وهل نصرٌ ينتظرهم أم الخذلان؟