المناهج الدراسية واحد من أهم جوانب أزمة التعليم في مصر، هذا من دون تجاهل تبعات عدم استقرار الأوضاع ومشكلات الكثافة وتدهور المباني التعليمية وخفض الإنفاق على التعليم. والمقصود إصلاح المحتوى التعليمي والعلمي للكتب الدراسية وليس الإصلاح المتعلق برفاهية الكتب الملونة المطبوعة على أوراق فاخرة بتكلفة عالية، قد لا نملك لها طاقة.
بين العلم والعمل
لوضع المناهج الدراسية أصول يعنى ببحثها وشرحها علم المناهج وطرق التدريس الذي تفرد له الكتب ولا تنتهي فيه الأبحاث. من جهة، قد لا يبدو مقبولاً التعدي على المختصين بآراء عامة وانطباعات، ومن جهة أخرى يبدو غير ممكن إلزام العاملين في الحقل التدريسي بنظريات صحيحة على الورق عصية على التطبيق، الأمر الذي يسلط الضوء على حتمية الصلة بين واضعي المناهج والعاملين عليها، وضرورة توفير قدر من المرونة يمكن معه إجراء التعديلات التي يتطلبها العمل، ذلك لأن استمرار نواحي القصور في المناهج الدراسية لسنوات عديدة يفقد المعلم الإيمان بما يصنع كما يفاقم إحساسه بالتهميش ويمثل له ضغطاً إضافياً. وهو ما يلاحظ بعد أن تتنزل الكتب المدرسية من عليائها وتتلقفها أيدي المعلمين، فيُسجل غموض هنا وخطأ هناك، وقصور في صفحة وحشو في أخرى، بل وتناقض بين معلومتين في صفين أو مادتين أو حتى في الكتاب نفسه، ولكن لمن المشتكى؟ تبقى الحال على ما هي عليه لحين إشعار آخر لا يأتي أبداً.
صعوبة المناهج: مشكلة يخفيها الحياء
يتضافر الحشو والرتابة وعدم الترابط والانفصال عن الواقع لرسم الملامح العامة للمناهج المصرية، وهو ما يكثر الحديث عنه بصوت حاد عالِ. أما صعوبة المناهج - خاصة في مجال العلوم الطبيعية - فهو الملمح الذي يخفيه الحياء ولا يُهمس به إلا سراً، كما لا يمكن رصده إلا من خلال المعايشة القريبة والحوارات التلقائية مع فئات المعلمين المختلفة. وفي ذلك تبدو شكوى عامة من صعوبة بعض أجزاء مناهج العلوم واستعصائها على الفهم بالنسبة للمعلمين أنفسهم، حيث كثير من المعلومات لا يتوافر لها شرح واف في المراجع العربية وإن وجدت تفاصيل وافية في المراجع الإنكليزية، تحول عدم إجادة اللغة بين المعلمين والاستفادة من تلك المراجع، وتتعاظم المشكلة حينما تتعارض معلومات الكتاب المدرسي مع خبرات المشاهدات اليومية. فالزجاج في الكتب المدرسية لا يوصل الحرارة بينما في الواقع يلسع الزجاج الساخن من يلمسه. المشكلة هنا ليست في طبيعة المعلومة، التي لها بالطبع أسباب علمية تفسرها، ولكنها تكمن في اختيار المثال، الذي يناقض التجربة البسيطة، ما يعقد الفهم بدلا من الايضاح.
تبدو صعوبة المناهج طبيعية مع غياب التأهيل المستمر للمعلم وتواضع مهاراته في التعلم الذاتي، ذلك رغم الدور الإيجابي الذي تقدمه "الأكاديمية المهنية للمعلم" والتي أنشأت بالقرار الجمهوري 128 عام 2008، لتُعنى بالأساس بتحقيق التنمية المهنية لأعضاء هيئة التعليم. ومع ذلك، فمنذ نشأتها وحتى الآن، يقتصر دورها على تنظيم دورات تدريبية تختص بالتأهيل التربوي فقط، فهل نحتاج لإنشاء أكاديمية أخرى لتختص بالتأهيل الأكاديمي الذي يتضمن المواد التخصصية والتي يمثل غياب التأهيل فيها نقطة ضعف عند عدد غير قليل من المعلمين، خاصة في مراحل التعليم الإعدادي والثانوي؟
الدروس الخصوصية
من ناحية، تقتات شركات "الكتب الخارجية" على ضعف الكتاب المدرسي وتجتهد في معالجة تعقيد المنهج وغموضه، تفرد في ذلك صفحات لتكمل الناقص وأخرى لتوضح الغامض وتضيف التدريبات المنوعة للتقييم، فتمد بذلك يد العون للتلميذ، ومن قبله للمعلم الذي لا يجد له مرشداً في ما يستعصي عليه من مسائل الكتاب المدرسي، حيث إن دليل المعلم الذي تصدره الوزارة أعز من الماء في الصحراء. نعم قد يسمع عنه المعلم ولكن هيهات ان يجده!
ومن ناحية أخرى، يقتات المعلم المحدود الدخل على ضعف الكتاب المدرسي ويقدم المفكرات المختصرة له والمهمشة لدوره وربما اللاغية لأهدافه، وهو في ذلك يتفنن في الاختصار الذي يفتقده الكتاب واختزال المنهج وابتذاله أحياناً كما يتفقد مواطن الأسئلة ليعد تلاميذه لاجتياز الامتحان الذي صار الغاية الكبرى وربما الوحيدة من التعليم في مصر.
وإن كانت الدروس الخصوصية حاجة المعلم لرفع دخله المحدود، فهي حاجة التلميذ لفك شفرة المنهج المعقد، وهو ما ينبئ بأن رفع دخل المعلم فقط لن ينهي مشكلة الدروس الخصوصية، فتعقيد المناهج الدراسية يبدو مسؤولاً عنها بدرجة كبيرة.
رغم صيحات التعازي للخاسر الأكبر في هذه الدورة، وهو من يدفع مرة للكتب الخارجية ومرات للدروس الخصوصية، فإن الواقع ينطق أنه "لم يكسب أحد".
... "حين لا يكون إلا الكلام"
بيد أن حل مشكلة المناهج الدراسية في مصر لا يكمن فقط في وصف العلاج الأمثل، وإنما التأكد من تعاطيه وإعادة التشخيص الصادق مرات ومرات للوقوف على النتائج.
"حين تتحول الأفكار إلى أفعال" هو الشعار الذي يتبناه مركز تطوير المناهج والمواد التعليمية التابع لوزراة التربية والتعليم المصرية، بل إن رؤية المركز تتبلور في "تنقيح المناهج التعليمية بصورة متكاملة ومتوازنة ومرنة ومتطورة، ملائمة لمجتمع المعرفة مصرية الهوية، عالمية المستوى، واقعية التنفيذ، تلبي الاحتياجات اللازمة للحياة والتعلم ومتطلبات التنمية المستدامة وفق أحدث النظريات والأساليب التربوية والعلمية المعاصرة لإعداد مواطن مبدع قادرعلى المنافسة محلياً وإقليمياً وعالمياً".
تنتهي الرؤية ونصحو لتباغتنا الأسئلة: أين تقع المناهج المصرية من رؤية مؤسستها؟ وما مدى تحقق تلك الرؤية في الواقع؟ وهل ما نشرته وزارة التربية والتعليم مؤخراً وروجته وسائل الإعلام المختلفة، بأن ثمة تعديلات للمناهج الدراسية الموجودة حالياً، يتم إجراؤها استناداً إلى نتائج الاستطلاعات الميدانية، يعني أن تعديلات ذات بال ننتظر؟
ولأن المنهج الدراسي هو الأداة التي يستخدمها المعلم في أداء عمله ("رسالة التعليم النبيلة")، فإن أي عوج في الأداة قد يصحبه خلل في إتمام العمل أو تعطيل له على نحو يزيد وينقص بحسب قدرة الأدوات المساعِدة على تعويض عطل الأداة الأساسية. ولأن تلك الادوات المساعِدة عاطلة مثلاً بمثل بل تزيد، تبدو بلورة تصور عام لإصلاح المناهج الدراسية المخرج الوحيد.