البحث العلمي في مصر: بلا هدف؟

هل في مقدورنا أن ننظر لطلاب الدراسات العليا كموارد بشرية غنية يمكن استثمارها في خدمة المجتمع؟ أم أن شهادات الماجستير والدكتوراة ستنضم لرصيد الشهادات الورقية الشكلية التي صارت جزء من ديكور الحوائط بالمنازل؟
2014-01-15

بسمة فؤاد

باحثة من مصر


شارك
(عن الإنترنت)


يبدو واضحا لكل من اقترب من الجامعات المصرية توجه عدد غير قليل من الشباب الخريجين صوب «الدراسات العليا».

والمرجح أن ذلك يحدث فراراً من البطالة. فالشاب، خاصة الجاد المجتهد، يجد نفسه أمام محاولة جديدة لتحسين مستواه التعليمي علّه يجد من خلالها مكاناً في المجتمع يوافق طموحه. هناك 226 ألفاً من جملة خريجي التعليم الجامعي للعام 2010/2011 والبالغ عددهم حوالي 484 ألف (أي نصف الخريجين!) اتجهوا نحو الدراسات العليا في العام الجامعي الذي تلاه مباشرة، وفقاً للإحصاءات الواردة في تقرير «واقع التعليم في مصر» الصادر عن «مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار».

ولكن هل يصلح البحث العلمي باعتبار الدراسات العليا أحد أشكاله - كمأوى للخريجين المتفرغين، وهل يسعهم؟ وهل يمكن لشهادات الماجستير والدكتوراه أن تصبح مؤهلاً للحصول على وظيفة؟ تتوالى الأسئلة وتنحصر الإجابات بين الأمل بأن تكون تلك المعطيات إشارة واعية بما يمكن أن يحمله العلم من خير للبلاد، وبارقة أمل لإدراك إمكانية الارتكاز على العلم للنهوض بالمجتمع، وبين إجابة أخرى مناقضة، وهي تسجيل ركون أبحاثنا العلمية على أرفف المكتبات لتتحالف عليها حشرات الورق والأتربة!

أرقام لها دلالات

تقبع مؤسسات البحث العلمي تحت مظلة واسعة. هناك من ناحية وزارة البحث العلمي التي تضم ثلاثة عشر مركزاً بحثياً يتوزع أغلبها في العاصمة وتقف في مقدمتها «أكاديمية البحث العلمي».

ومن ناحية ثانية، تمتد وزارة التعليم العالي لتغطي الجزء الأكبر من هذا القطاع، ما بين جامعات ومعاهد ووحدات بحوث، ذلك فضلاً عن المراكز التابعة للوزارات الأخرى، ليصل إجمالي عدد المراكز البحثية والجامعية للعام 2011 الى حوالي 121 مركزاً، منها 30 في مجال الزراعة، و25 في مجال الطب، بالإضافة إلى 14 في مجال المياه، و8 في مجال الطاقة، بالإضافة إلى 6 في الصناعة والتنمية التكنولوجية. وتتوزع بقية المراكز على المجالات المختلفة، وذلك وفقاً لما جاء بتقرير البحث العلمي المذكور أعلاه.

ومن ناحية أعداد الباحثين في مصر، يشير تقرير معهد الإحصاء باليونسكو خلال عام 2007 أنه يوجد 617 باحثا لكل مليون نسمة من السكان، بينما يوجد حوالي 4 آلاف باحث لكل مليون نسمة من السكان في البلدان المتقدمة.

ورغم ضآلة عدد الباحثين في مصر، إلا إن الأمر الذي يبدو أكثر وضوحاً واستفزازاً هو عدم الاستفادة من الإنتاج العلمي للباحثين الموجودين بالفعل، وعدم احتضان المنتج الجيد من أبحاثهم، الأمر الذي تؤكده قيمة مؤشر جودة مراكز البحث العلمي في مصر خلال عام 2010 / 2011 - والمحددة بـ 2.8 وفقاً لتقرير مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار- بينما يتراوح مدى المؤشر بين (1-7)، حيث يدل الواحد على التدني التام في مستوى المراكز البحثية. يتبع ذلك بالضرورة، ويبدو ناتجاً عنه، هجرة العقول النابهة حيث المناخ في البلاد طارد والبيئة فقيرة.

المعوقات

رغم توافر الموارد البشرية وضخامة عدد المؤسسات العلمية إلا أن غياب الرؤية وهشاشة الإدارات وتشتتها يعدان الركيزة الأساسية التي تقف وراء حالة اللاجدوى التي تصم البحث العلمي في مصر رغم الانتشار النسبي له. من ناحية أخرى يلاحظ ضعف نسبة الإنفاق الحكومي المخصصة للبحث العلمي (والتي بلغت 0.8 في المئة من ميزانية البحث العلمي في الموازنة العامة للدولة في العام 2012 2013 مقابل 0.68 في المئة لعام 2009 / 2010).

من ناحية أخرى، فإن بديل الإنفاق الحكومي، الممثل في القطاع الخاص، يعاني «أزمة ثقة» مع منتجات قطاع البحث العلمي، ما يدفع برجال الأعمال بعيداً للاستثمار في المجالات الواعدة بربحية أكبر. لذلك احتلت مصر المرتبة 106 بين 142 دولة على مستوى العالم من حيث نسبة إنفاق الشركات على البحث العلمي وتطويره. وفي ظل هذا المناخ، يبدو طبيعياً أن تحصل مصر على مركز متأخر ( 74 بين 133 دولة) في مؤشر براءة الاختراع لكل مليون نسمة عن عام 2010، فيما احتلت الصين وتايوان المركز الأول تلتها اليابان في المرتبة الثانية.

بيد أن كلمة السر تكمن في تحديد الألويات، وتوزيع المهام، كذلك تنسيق العمل بين مراكز الأبحاث المختلفة، وإرساء نظام تقييم موضوعي صادق من جهة، وفتح الباب لإجراء التعديلات المستمرة بحسب طبيعة النتائج من جهة أخرى. ولعل هذا هو ما أنشئت من أجله «الهيئة القومية لضمان جودة التعليم والاعتماد»، بموجب قانون 82 لسنة 2006، الذى حوى 25 مادة منظمة لعمل الهيئة وسلطاتها ومسؤولياتها، فنرى جرائد الصباح تزف إلينا بين الفينة والأخرى أخباراً عن اعتماد كلية هنا وأخرى هناك ليتجاوز عدد الكليات المعتمدة حتى الآن العشرون. فهل ستكون هيئة الجودة خطوة على طريق التطوير الحقيقي للتعليم العالي والتمكين الفعلي للبحث العلمي، خاصة التابع منه لوزارة التعليم العالي، أم أن مارد المؤسسات العقيم ازداد طولاً مع بقاء ضعف قدرته على الإنتاج؟

«حسب التساهيل» هي الجواب

بين ما تحمله فرضيات البحوث وأرقام الإحصاءات التي تبعث تارةً على الاطمئنان وتثير الرعب تاراتٍ أخرى، يقف صوت الواقع حاملاً ملمحاً مختلفاً للمشهد، ممزوجاً بعرق الباحثين عاكساً لأحلامهم وآلامهم. ومن خلال محاورة بعض الباحثين وجدنا أن عدم تقدير الوقت هو الشكوى الأولى لجل الباحثين في مصر، فلا يمكن وضع خريطة زمنية ولو تقريبية لنقطة بحثية.

من ناحية أخرى، يُعَد المشرفون على البحث العلمي حجر عثرة يواجه الباحثين، حيث البيروقراطية المتجذرة في المناخ المصري العام تضربهم من حيث لا يشعرون. فبخلاف الاستعلاء المستند على آثار التفوق القديمة، يراهم طلابهم مقيدون في مساعدتهم، مترددون حد الارتعاش في تسجيل النتائج المختلفة، يحثون طلابهم على البحث في نقاط بحثية مستبقين نتائج محددة ما يدفع الباحث لإعادة البحث مرات ومرات ليقع على النتيجة المحددة مسبقاً، وفي كثير من الأحيان يُشترط ألا تتعارض مع ما نُشر سابقاً، بغض النظر عما تحصل عليه من نتائج فعلية!

من ناحية أخرى تقف قلة الإمكانات حائلاً بين الباحث وبين تجويد بحثه، فهو يعمل في أضيق الحدود وقبل أن يحسب مسائله علمياً يحسبها اقتصاديا، متفادياً التكلفة المرتفعة ما استطاع، باحثاً عن المنتج الأرخص ما كان لذلك سبيلا، لأنه في كثير من الأحيان يكون الباحث متفرغاً للدراسة عاطلاً عن العمل، وهو بذلك يعاني انخفاض الحافزين المادي والمعنوي في آن واحد. لذلك فإن الباحث في مؤسسات البحث العلمي المصرية لا يجد له مُعيناً إلا الله يحارب في كل الجبهات منفرداً، إلا من بعض التوجيه من المشرفين ممن بقى فيهم خيراً. لذلك فإن «حسب التساهيل» هي الإجابة السائدة لجل الباحثين حين يُسألون عن الموعد المتوقع لإعلان نتائج البحث ومناقشتها.

الخبراء

يرد د.يحيي القزاز أستاذ الجيولوجيا بكلية العلوم جامعة حلوان أن «هناك فارقاً بين أن يشغل الطالب وقت فراغه بالالتحاق ببرنامج الدراسات العليا للحصول على شهادة أعلى، وبين ادعاء العمل بالبحث العلمي، ذلك لأن البحث العلمي له مقومات غير موجودة في الجامعات المصرية». يعضد د.سيف الإسلام على مطر الأستاذ بكلية التربية، (قسم الإدارات التربوية وسياسات التعليم، جامعة الإسكندرية) هذا الرأي مضيفاً «إن تأخر سن الزواج بالنسبة للطالبات يعد سبباً لإقبال غالبيتهن على الدراسات العليا ملأً للفراغ من ناحية وبحثاً عن شريك الحياة من ناحية أخرى».

يستكمل القزاز: «في الأغلب تكون الرسائل المقدمة من الطلاب ركيكة، الهدف منها الحصول على شهادات، وإن وجدت أبحاث ذات معنى ومغزى فلا يستفيد منها أحد لأن كل مسؤول يسعى لتطبيق وجهة نظره وليس الاستعانة بالأبحاث العلمية التي تخدم المؤسسة التي يعمل فيها، ومن هنا يأتي الخلل بين البحث والتطبيق». ويضيف مطر: «أن هناك حالة من الانفصام والانفصال بين البحث العلمي واستخدامه في مجال السياسات. يمكننا القول أن هناك فجوة أو جفوة بينهما فهذا في واد وذاك في آخر. وعلى سبيل المثال، فلدينا هنا في كلية التربية أبحاث درست مشكلات التعليم في مصر في كافة المراحل، ولكن لم يستفد منها القطاع التعليمي على أرض الواقع البته!».

وعن التصورات الممكنة لتفعيل البحث العلمي في مصر، يقول القزاز «أولاً، يجب أن يوجد نظام وطني يحكم الدولة، يؤمن بأهمية البحث العلمي ويدرك أنه لا تقدم للدولة ولا خروج من أزماتها إلا من خلال تعظيم دور البحث العلمي.

الأمر الثاني ضرورة زيادة ميزانية البحث العلمي المخصصة لتجهيز المعامل وتوفير المواد المطلوبة والتقنيات الحديثة من برامج كمبيوتر وحاسبات ومكتبات رقمية وورقية، كذلك توفير مكاتب للباحثين، ثم زيادة رواتب من يعملون بالبحث العلمي، حتى يصلون إلى مستوى العيش على الكفاف ـ وليس العيش برفاهية، لأن من يفكر في تنمية تدابير موارده المالية لا يمكن أن يفكر في الإبداع أو التطوير ـ ولكن المطلوب من الزيادات تحصين الأستاذ الجامعي ومسائلته حتى يتفرغ تماماً للبحث العلمي».ولأن الارتقاء بالبحث العلمي يعتبر خطوة رئيسية على طريق النهضة ومخرج من التأخر نحو التقدم، يبقى دائماً تقييم الوضع العلمي لمصر وتحديد مشكلاتها خطوة مهمة باتجاه تقديم الحلول.

ويبقى السؤال: هل في مقدورنا أن ننظر لطلاب الدراسات العليا كموارد بشرية غنية يمكن استثمارها في خدمة المجتمع؟ أم أن شهادات الماجستير والدكتوراة ستنضم لرصيد الشهادات الورقية الشكلية التي صارت جزء من ديكور الحوائط بالمنازل؟

مقالات من مصر

العاصمة المصرية في مفترق طرق..

رباب عزام 2024-11-21

على الرغم من الأهمية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، بالنسبة إلى المواطنين، للمنشآت والمباني المقامة حالياً على أراضي "طرح النهر"، خاصة في العاصمة القاهرة، إذ يشمل أغلبها كثيراً من الأندية الاجتماعية التابعة...

للكاتب نفسه