قبل نحو ثلاثة أشهر، كان أعضاء المؤتمر الوطني العام في ليبيا يعقدون جلسة تشريعية عندما دخل أحد النواب وحذر الجميع من قدوم فرقة مسلحة نحو البرلمان. قال إن السلاح من العيار الثقيل، ومن بينه دبابات وأسلحة مدفعية.
غادر معظم النواب الرجال القاعة، فيما اصرّت نساء المؤتمر على البقاء "مهما كلف الأمر".
بقي مع البرلمانيات نائبتان فقط، من أصل مئتي عضو، هم عديد مجلس النواب الليبي. يومها، ووفق ما روته لي النائبتان فاطمة محمد العباس ونجاح صالوح عبد السلام، اتفقت النساء على مواجهة المسلحين والتحاور معهم: "قلنا إن الليبيين قدموا الكثير من أجل ليبيا، ونحن لسنا أفضل من كل الشهداء الذين سقطوا في الثورة".
انتظرت النساء المسلحين ليتفاجأن بقدوم مجموعة من شباب ليبيا المثقف الذي قصد المؤتمر ليطالب بوضع حد للتسيّب الأمني، وكل الفلتان الناتج عن إمساك الميليشيات والكتائب المسلحة بليبيا بعد الثورة. جلس الشباب مع البرلمانيات، في حوار ونقاش وتبادل للهموم المشتركة إثر استشهاد أربعين مواطناً في تظاهرة "الجمعة السوداء". ويومها، خرج الشباب ليقولوا للإعلام إن إشاعة واحدة أطاحت بالحضور الذكوري في المؤتمر، وأنهم لم يجدوا غير النساء بانتظارهم.
ملتقى إقليمي للبرلمانيات
كانت معظم الشخصيات التي شاركت في "الملتقى الإقليمي للبرلمانيات والقياديات العربية الشابة" الذي انعقد في تونس مؤخراً، منشغلة في طرح قضايا نسوية، وإن ارتبطت بالأوضاع السياسية والأمنية التي استجدت إثر التغييرات في المنطقة العربية. لكن نساء ليبيا اللواتي مثلتهن العباس وعبد السلام، من أصل ثلاث وثلاثين نائبة تمكنّ من الوصول إلى المؤتمر الوطني العام، كان لديهن هموم مختلفة. طغى همّ بناء الدولة الليبية، وكيفية هذا البناء، على القضايا المطروحة.
وجد الليبيون، نساء ورجالاً، أنفسهم في مواجهة اللادولة بكل ما تحمل الكلمة من معنى. لا جيش ولا قوى أمن داخلي أو شرطة فعلياً، لا مؤسسات يمكن البناء عليها. والأسوأ ان البلاد وقعت في قبضة الميليشيات والكتائب المسلحة التي عرفت بذورها الأولى خلال أحداث الثورة، ونمت وتكاثرت بعد إجراء الانتخابات، وتشكيل المؤتمر الوطني العام ايضاً. وعليه، بدأت قضايا نساء ليبيا، التي طرحت خلال الملتقى الذي نظمته هيئة الأمم المتحدة للمرأة بالتعاون مع مركز المرأة العربية للتدريب والبحوث ("كوثر") في تونس، من "ألف باء" بناء الدولة الليبية. فالمهم بالنسبة لليبيين اليوم هو "النجاح في تحقيق الأمن بالدرجة الأولى". ويكمن الخلل الأمني "في انتشار السلاح وتكوين ميليشيات مسلحة بعد أحداث 17 شباط /فبراير، حيث نشأت "كتائب كثيرة، منها الحقيقي ومنها الوهمي، وتنتمي إلى مختلف مكونات ليبيا". فهناك "الكتائب التابعة للإسلاميين، وكتائب القبيلة، وتلك المحسوبة على الجهات (كمدينة معينة مثلا). كما شكل الفارون من السجون كتائبهم الخاصة لحماية مكتسباتهم، ورفضاً منهم للعودة إلى السجن والمثول أمام العدالة.
ومما يزيد الأمر تعقيداً، وفق العباس وعبد السلام، هو عدم وجود جيش ليبي بمعنى الجيوش في الدول التي تحترم نفسها. إذ "لا بد أن يكون ولاء الجيش بعد الله للوطن فقط، لا لشخص معين، ومن دون اي ارتباطات بأي جهة". في المقابل، فكك القذافي جيش ليبيا وأضعفه وهمشه "واستبدله بكتائب امنية خاصة به لحمايته". طبعاً هناك رئاسة اركان ووزير للدفاع، ونحو مئة ألف جندي تقريباً يقبضون رواتبهم وموجودون، ولكنهم غير فاعلين. لا يمكن للجيش مثلاُ، ولا لقوى الأمن الداخلي، البالغ عديدها نحو 15 الف عنصر، "أن تقمع كتيبة مسلحة". ويتمتع الجيش "بركن جوي وآخر بحري، ولكنه بلا قوات برية فعّالة، ولذا لا معنى له وفق شهادات كبار ضباطه الذين تحدث النواب معهم". ويتساوى الجيش وقوى الأمن بـ"سوء سمعتهم قبل الثورة، إذ كانوا بمثابة مرشدين (مخابرات) وموالين طبعاً للنظام السابق، ولا يمكن إعادتهم اليوم إلى العمل وتفعيلهم قبل وضع عقيدة جديدة للجهازين منسجمة مع أهداف الثورة والمرحلة الجديدة، ومن شأنها إعادة بناء الثقة بينهم وبين المواطنين".
ويحتاج بناء الجيش والقوى الأمنية في ليبيا "إلى وقت طويل جداً". فقد "أخذت الكتائب المسلحة أمكنتها واستقوت، ومع ذلك فإن الحراك الشعبي، في طرابلس وبنغازي ومدن ليبية أخرى، يرفع الصوت بقوة، ويخرج الناس بالآلاف للمطالبة بإخراج المسلحين، وبسيادة الشرعية وترك الأمن للجيش والشرطة".
ولكن هذه المهمة ليست بالسهلة. تروي العباس وعبد السلام كيف "هجم المسلحون على البرلمان عندما كان النواب بصدد مناقشة تشريع يقضي بدمج كل التشكيلات المسلحة في الجيش، وإلزام الحكومة بإيجاد آلية لهذا الدمج". عندها حاولت بعض "الأطراف المسلحة أن تستعمل القوة لإرغامهم على اتخاذ القرارات".
والأسوأ أن بعض أعضاء المؤتمر كانوا منحازين لإحدى الكتائب التي دفعت المال لعناصرها لتأمين العاصمة طرابلس، وكانوا يريدون أن تكبر هذه الكتيبة المدعومة من مسؤول كبير، لتصبح جهازاً رسمياً. وبرغم ذلك، كان العديد من النواب يعارضون بقاءها خارج الجيش. عندها حاصر مسلحون مبنى المؤتمر والنواب في داخله، وبدأوا بإطلاق الرصاص. كما قدمت مجموعة أخرى مؤيدة لحل الكتيبة، وحصل تبادل لإطلاق النار وتلاسن بين المجموعتين. ولكن المهم أن النواب أصروا على القرار واتخذوه، ولكن من سينفذ؟
سجون المسلحين و...
تحمل نساء ليبيا هموماً مختلفة. ينقلن هواجس الناس وغضبهم من ممارسات التشكيلات المسلحة التي "تقبض على مواطنين، وتحقق معهم تحت التعذيب"، مما يفاقم أوضاع حقوق الإنسان، بالإضافة إلى عمليات الخطف أيضاً. وتقيم الكتائب سجونها الخاصة، تسجن من تريد، وتعذب من تشاء، وليس هناك جهة رسمية يمكن العودة إليها للسؤال عن مصير أي مفقود او مخطوف او سجين. وبرغم الظروف الصعبة يقاوم الليبيون التسيب الأمني، يصرون على الخروج إلى أعمالهم، ولا يرضخون للانكفاء في بيوتهم. لكن حياة الناس تغيرت.
خفت الحركة جداً عند منتصف الليل، ويظهر المواطنون شعوراً كبيراً بالقلق. ويترك الاضطراب الأمني ارتدادات كثيرة أخرى، كالهجرة غير الشرعية التي تجعل من ليبيا محطة للمهربين وللإتجار بالبشر. كما هناك "تحركات لقوى غريبة وخصوصاً في الجنوب الليبي".
يتخوف الناس مثلاً من "أزلام النظام الذين فروا إلى دول مجاورة ويدفعون المال لعناصر مرتزقة من تشاد ومالي والنيجر للقدوم إلى ليبيا لاستعمالهم عند الحاجة، وساعة تعطى لهم التعليمات لخلق بلبلة امنية وحوادث معينة". وكان القذافي قد استغل هؤلاء سابقاً بطرق شتى: "من أجل القتال معه، أو دعمهم للقتال ضد انظمتهم". ووفق العباس التي تمثل مدينة من الجنوب، يحدث التغير الديموغرافي في "الجنوب الغربي والجنوب الشرقي، في سبها ومرزق وأوباري ، وهي منطقة مكونة بالدرجة الأولى من ثلاثة أطياف، التابو والطوارق والعرب. وهم جميعا مسلمون من المذهب السني. وينتشر التابو والطوارق أيضاً في مالي والنيجر، مما يسمح لهم بالدخول عبر مناطق التماس. ويستفيد هؤلاء من العيش في ظل التفلت الأمني بطرق تناسبهم، ترتكز على التكسب والتنقل. ويتواجد هؤلاء في أوباري أكثر من غيرها.
تغيير إيجابي وآخر سلبي
تحتسب نساء ليبيا حصيلة التغيير الذي شهدته البلاد: "تحسنت الأمور المتعلقة بحرية التعبير، والإقرار بحقوق بعض الفئات التي كانت مظلومة في عهد القذافي، ومنهم الأمازيغ. كان هؤلاء ممنوعين من التحدث بلغتهم ومن تسمية أبنائهم بأسمائهم ومن تدريسهم في مدارسهم، على سبيل المثال. أما اليوم فقد نالوا حريتهم بممارسة حياتهم كما يريدون، ورئيس المؤتمر الوطني اليوم أمازيغي". وشكل حصول الانتخابات أبرز تغيير، إذ تمكن الشعب الليبي من اختيار ممثليه، ووصلت 33 امرأة إلى البرلمان.
وتتمثل ابرز السلبيات في تدهور الوضع الأمني كثيراً مع بداية العام 2013. لم تكن الكتائب قوية قبلاً كما هي عليه اليوم. ومع ذلك، ما زال الشرق الليبي آمناً، أي مدن أجدابيا وبنغازي والجبل ألأخضر وطبرق والكفرا، وهو ما يشكل نصف مساحة ليبيا تقريباً. إذ أن الكتائب المسلحة حريصة على الإمساك بالغرب الليبي، وخصوصاُ طرابلس كونها مركز صنع القرار، وبالتحديد حول مقر الحكومة ومركز المؤتمر الوطني. وقد تؤدي بعض التهديدات وبعض الممارسات إلى التأثير على قرارات عضو في المؤتمر او في الحكومة. شهدت ليبيا "حالات خطف لأبناء أو لأقارب أعضاء من البرلمان، كما تعرض أحد النواب لإطلاق نار، والنائب انسان في النهاية"، كما تقول العباس وعبد السلام.
قضايا النساء
وبرغم الوضع الأمني وهاجس بناء ليبيا وتحديات تفعيل قطاعات الصحة والتعليم والزراعة المدمرة في البلاد، تجهد المرأة الليبية لتكريس بعض المكتسبات الحقوقية في مرحلة التأسيس. نجحت قوى المجتمع مدعومة من بعض الأحزاب، برغم عدم وجود مجتمع مدني حقيقي في البلاد، في اشتراط اعتماد قوائم تبادلية أفقية وعمودية لترشيح النساء، مما أدى إلى وصول 33 نائبة من أصل مائتي عضو في المؤتمر الوطني.
ومع ذلك لم تتمكن النساء من اعتماد "كوتا" تتجاوز الستة في المئة في تكوين لجنة صياغة الدستور. وضمت اللجنة ست نساء من أصل ستين عضواً. وقطعت المرأة شوطاً مهماً مقارنة بما كان عليه الوضع ايام القذافي حيث كان التمثيل، كما عند الرجال، محصوراً بالموالين له، وكانت وصمة سيئة تعلق بالمرأة المشاركة سياسياً برغم عبور بعض الكفاءات، مما أدى إلى عزوف النساء عن السياسة.
وتطغى تأثيرات الفلتان الأمني على بعض مشاريع القوانين المتعلقة بالنساء أيضاً. ويناقش المؤتمر مشروع قانون خاص بالمغتصبات خلال الأحداث، وهن كثيرات. هنا، لا حديث عن قانون للعنف الأسري، على سبيل المثال لا الحصر، طالما أن المجتمع يعاني بأكمله من عنف عام يشل الحياة ويعيق استئناف بناء الدولة. "نبني ليبيا الدولة السيدة والحرة والمستقلة التي تحتضن جميع أبنائها، من دون أن ننسى أموراً كثيرة أخرى ستأتي لاحقاً".