سنوات غيّرت وجوه السوريين

وجوه السوريين تغيّرت بعد آذار 2011، صارت ملامحها أكثر تحفّزاً وهي تقترح مساءلاتٍ خاطفة كلّما تبدّل لون البلاد، وازدادت أصبغتها كثافةً، وزاد معها عبث الدول بمصير سوريا المتكوّر عاجزاً تحت ظلّه.. وهذا استطالَ من جَدَلٍ دوليٍّ أعمى لم يَقُد إلا لموت الخطوات، خطوات السوريين المنقسمة بين معارِضةٍ للنظام أو مواليةٍ له. خمس سنوات رَصدت فيها وجوه الناس يقيناً لا يجيء. فلا النظام سقط، ولا عادت
2016-03-17

أيمن الشوفي

صحافي من سوريا


شارك
سمعان خوّام - سوريا

وجوه السوريين تغيّرت بعد آذار 2011، صارت ملامحها أكثر تحفّزاً وهي تقترح مساءلاتٍ خاطفة كلّما تبدّل لون البلاد، وازدادت أصبغتها كثافةً، وزاد معها عبث الدول بمصير سوريا المتكوّر عاجزاً تحت ظلّه.. وهذا استطالَ من جَدَلٍ دوليٍّ أعمى لم يَقُد إلا لموت الخطوات، خطوات السوريين المنقسمة بين معارِضةٍ للنظام أو مواليةٍ له.
خمس سنوات رَصدت فيها وجوه الناس يقيناً لا يجيء. فلا النظام سقط، ولا عادت قبضته محكمة على عنق البلاد، والحراك الذي صار ثورة، سرعان ما غدا نزاعاً مسلّحاً بين الجيش النظامي والجيش الحرّ، ثم حرباً تسوسها قوى إقليميّة ودولية. جاء كثير من "المجاهدين" (أو "المعارضين") من خارج الحدود، كما جاء المقاتلون "الموالون" من خارج الحدود أيضاً. العسكرة هضمت المجتمع، فإن لم تكن مسلّحة، كانت سياسية. صار الانقسام وعكةً وجدانيّة لا شفاء منها، ووجوه السوريين تراقبه بعيونٍ مبتلّة، تكاد تكذّب غباشَ المشهد المتدلّي بوحشية أمامها.

في بورصة الانقسام والتقسيم

توغّل السوريون داخل عتمة الأعوام الماضية من دون انتباه، جذبهم الانقسام السياسي والعسكري إلى لجّته، ثم تلظّوا منه تحت الفيء الواهي لمؤتمراتٍ دولية خدّرتهم وحسب. لم تأتهم بأي حلّ، بل أنبتت لهم المزيد من الخوف، وهم على حالهم وقد أعياهم هذا القهر، فنصّب معظمهم أنفسهم متفرجين على القتال فوق أرضهم، قتال يحمل في شكله الرتيب معنى الانقسام وهواجسه أيضاً. الحواجز العسكرية انتشرت مثل مرض "الجُدري" فوق بشرة البلاد. كلُّ حاجزٍ يدين بعقيدة صاحبه، حواجز النظام تقطف الشباب للخدمة الإلزامية أو الاحتياطية، وتتربّص بأسماء المطلوبين السياسيين. حواجز "داعش" و"النصرة" تطالع خانة القيد على البطاقة الشخصية، تبحث عن دين حاملها، ثم تبحث في نواياه وما إن كان متعاوناً مع النظام أم لا. حواجز أخرى تمارس الخطف أو تمتهن التهريب وتفتح جيبها على وسعهِ لترتشي، وهذا في مناطق سيطرة النظام كما في خارجها.
بات الخلاص الفردي صومعة يلجأ إليها أغلب السوريين الذين لم تشدّهم البندقية صوب ميليشياتٍ بأسمائها المعروفة ليجنوا من وراء اللحاق بها دخولاً شهريّة بائسة تشبه بؤسهم أو تزيد عنه. ثم ازداد اليقين بأن من يدير السياسة الدولية يريد استدامة هذه الحرب. الجميع تقاسم هذا اليقين خلال هذا العام والعام الماضي على الأقل، من دون أن تهدأ الهواجس المتنازَعة. ظلّت مدارات الانقسام تنْصب فخاخها للجميع، وتوقع بهم. ظلّ الانقسام قائماً في منتصف الطريق. استمر المعارضون يصفون الثورة السورية بالثورة اليتيمة حين أشاحَ العالم بوجهه عنها، وتركها حائرة تقارع خطوب الغيب، والموالون استمروا يتمسّكون بنظرية المؤامرة الكونية على نظامهم، يرددونها في مجالسهم، ويناقشون معها الفساد. ينتظرون أيضاً شهر نيسان ليقصدوا صناديق الاقتراع فينتخبوا برلمانهم، وكأن دمار السنوات الماضية لا يخصّهم بشيء، وكأنه لم يقع على أرضهم من أصله.

التأقلم وجدان الجيوب الخاوية

تَحِفُّ السنوات وهي تمرّ بالوجوه أيضاً، تترك شحوباً إضافياً وتمضي، فحراك آذار/ مارس 2011 صار مناسبة تحتفل بها مواقع التواصل الاجتماعي فقط. صفحات المعارضين على موقع التواصل الشهير "فيسبوك" عكفت هذا العام، كما غيره من الأعوام، تسترجع أصل الحدث، تذكيرٌ رمزي لا أكثر. فيما يحتكرُ الواقع الحقيقةَ لنفسه، فيتصارع على أطرافها الممسكون بالأرض، لا يعنيهم الهذر الالكتروني للداعمين لهم، فأغلبهم صار خارج البلاد، والكلام عندهم كثير، وفيه استسهالٌ للفعل أو دَرْءٌ له، حتى أن الشأن العام للسوريين لم يعد يعني أحداً من المتقاتلين بشيء. جيوب الناس لا تعنيهم، وقد أفزعها التضخم بصلافته القاسية، وأفرغها من محتوياتها، وهو يجرجرها إلى عتبات أسعار صرفٍ لم تهجع منذ سنوات، منذ كان سعر صرف الدولار 48 ليرة في آذار/ مارس 2011، ثم صار 425 ليرة في الشهر نفسه من العام الحالي، بذلك تكون تكاليف الحياة قد ارتفعت أقل قليلا من عشرة أضعاف خلال خمس سنوات.
الفقراء ازدادوا عدداً ويقيناً بأنهم فانون في تلك المعادلة، لم تعد الحياة تحمل إليهم أيَّ لغطٍ يؤرقهم، يعقلون فقرهم ويتوكلون. فيما واظبت قاعدة الطبقة الوسطى الواسعة على تهالكها، منقادةً عنوةً إلى خط الفقر الأعلى (صار منذ بداية هذا العام 25 ألف ليرة للفرد الواحد شهرياً) مخدّرةً بالتهامه التدريجي لها، عاجزةً عن نفي هويته عنها، فاستعار الناس مهناً لم يألفوها من قبل، وأضافوها إلى عملهم الأساسي علّهم يَرْتِقون بها دخولهم. أو أن نزالهم المضني مع الحياة جعلهم يقصدون لبنان للعمل هناك، حيث أجورهم تُحتسب بالدولار، فلا يهتمون إن انخفضت قيمة الليرة أم ارتفعت في بلدهم الأم، يرسلون عرقهم في حوالاتٍ شهرية تصل إلى أسرهم عبر شركات التحويل.
آخرون نهروا السلع الغالية عن سلة استهلاكهم (كيلو اللحمة تجاوز هذا العام السبع دولارات) ولم يقربوها منذ زمن. وتلك سلعٌ أساسية، لكن من الصعب استخلاصها من بين أسنان التضخم، اضطرّوا اللجوء إلى منظومة غذاءٍ نشويّة وغير مكلفة، يكررونها غالباً بلا تأففٍ معلن، ينظرون إلى غيرهم ممن يموتون جوعاً في أصقاعٍ بعيدة عنهم في سوريا، ثم يحمدون الغيب لأنهم لم يموتوا بعد.

موسمان من البرد والهجرة

خارج العاصمة دمشق، يُدبّج الناس خدعاً تلزمهم للبقاء داخل أخدود الحياة الضيّق، تشبه ألعاب الخفّة داخل "سيرك". يخلطون منذ عامين زيت المحركات التالف (بلغ سعر الليتر منه هذا العام 250 ليرة) مع مادة المازوت لتمديد أجل دفئهم. لا يكترثون لمآل صحّتهم في تلك اللعبة، يتحمّلون مرارة السعال والهواء المشبع بأبخرة الكربون لئلّا يبردوا وأطفالهم، فالسلطة توزّع عليهم محروقات التدفئة بالقطارة، حتى أنهم تعاركوا مع الطبيعة لأجل تدفئة جلودهم. لم يوفّروا السنديان المعمّر في جنوب سوريا، ولا في الأرياف الغربية لحماه، وإدلب، وحمص، ثم استسلموا لتجارٍ يحتكرون قطع الأخشاب الحرجيّة، صاروا يشترونها بأسعارٍ تضاعفت خلال العامين الماضيين، وما يزيد شقاءَ حواسهم هو غياب الكهرباء عن يومياتهم منذ ثلاث سنوات لأكثر من نصف عدد ساعات النهار.
جاهروا بالرحيل، المعارضون والموالون على السواء. في صيف العام الماضي كما في صيف العام الذي سبقه. تخففوا من أحمال مواقفهم، فالهجرة طمست الفروقات الحادة بينهم، كلاهما صار خارج أثير الوطن الشحيح، كلاهما صار خارج حسابات الأرض أيضاً. هاجروا يبحثون عن يقينٍ وجودي لا يطوّح بالحياة أمام أعينهم، اعتقدوه ينتظرهم في القارة العجوز فهرعوا إليها، تركوا يباس الحياة هنا، بالمئات رحلوا ثم بالآلاف، وآخر موجات هجرتهم كانت مطلع العام الحالي، حين حثّوا خطواتهم قبل أن تفرض تركيا "الفيزا" على دخول السوريين إلى أراضيها.
تعاقب شهر آذار/ مارس خمس مرّات على حياة السوريين، واليقظة العفوية التي فجرّت الحراك الأول فيه لم تعد موجودة، بعدما اقتادتها القوى الفاعلة في السياسة الدوليّة إلى مواضعٍ حرجة. لم يعد السوريون يجدون في ذاك الشهر بديهيّات الربيع، الأرجح بأنه تحرر من أحماله الصعبة هو الآخر، كأنه صار معنيّاً بالهجرة النهائية من "روزنامة" التقويم التي تحفظ ميلاد الشتات السوري جيداً.

مقالات من سوريا

بعد الحرائق الأخيرة: الزيتون السوري ليس محصولاً استراتيجياً!

كمال شاهين 2024-11-14

وقع النصيب الأكبر من الحرائق الأخيرة في محافظتي"اللاذقية" و"حمص". ووفق معلومات محلية مصدرها مديريات الزراعة في هاتين المحافظتين، فإنّ هناك ثمانين موقعاً اشتعلت فيها النيران بشكل مفاجئ، ودفعة واحدة، مما...

خرائط التنمية المفقودة في الساحل السوري

كمال شاهين 2024-04-30

حضور السلطة المركزية في المشاريع الأصغر، المحصورة في خدمة أهالي الإقليم، يقرّ مركزياً، بعد اقتراح مجالس المدن والبلدات المعيّن أغلب أعضائها من السلطة المركزية، عبر "قوائم الجبهة الوطنية التقدمية" اﻹجبارية...

للكاتب نفسه

في سوريا: العمل بالأمل؟

ما بعد الانتخابات هو ما قبلها حرفيّاً، إن لم يكن أسوأ. فها نحن نسير من شبه إفلاس إلى إفلاس، من شبه حصار إلى حصار، من شبه جوع إلى جوع، ترفدنا...

ما بعد الخمسة آلاف ليرة سورية...

سوّغ حاكم المصرف المركزي طرح تلك الفئة النقدية الجديدة، بربطها باستبدال العملة التالفة، ونفى أن تكون كتلةً نقدية تضخمية. غير أن المزيد من العملات شبه المهترئة من فئتي الألف، والخمس...

راس السنة، أصابع ملوثة بالحبر

خلال العام الماضي، ظهر العراق والصومال كوجهتين استمالتا السوريين الراغبين بالسفر، والقادرين عليه. فالراغبون بأعمال هامشية في المطاعم والفنادق استحصلوا على "فيزٍا" إلى أربيل، أما الأطباءُ متوسطو الدخل، والقادرون على...