الحرب في المخيّلة الشعبيّة للسوريين

تنطبع الحرب كغلوٍ زائد، تلتقطها بلا حسبة زائدة محدِّدات "الأنا" الجمْعيّة، فتعيد صوغها في منظومة قابلة للتوقع. ترتدي المعتقدات الشعبية هنا لباساً طارئاً من "الماورائيات"، ذاكَ الاستنجاد الحثيث بأدلة دامغة، متّكلة على السعي لفهم طبيعة الصراع الدائر في سوريا، علّ الانزياح عن زوايا الحدث بهذا المعنى يقلل من استنباط الواقعية المفرطة لمكونات آلة الحرب. حوَّر السوريون مجرى أجندات
2015-10-30

أيمن الشوفي

صحافي من سوريا


شارك

تنطبع الحرب كغلوٍ زائد، تلتقطها بلا حسبة زائدة محدِّدات "الأنا" الجمْعيّة، فتعيد صوغها في منظومة قابلة للتوقع. ترتدي المعتقدات الشعبية هنا لباساً طارئاً من "الماورائيات"، ذاكَ الاستنجاد الحثيث بأدلة دامغة، متّكلة على السعي لفهم طبيعة الصراع الدائر في سوريا، علّ الانزياح عن زوايا الحدث بهذا المعنى يقلل من استنباط الواقعية المفرطة لمكونات آلة الحرب. حوَّر السوريون مجرى أجندات الصراع الدولي على مزيد من جغرافيا النفوذ، إلى حوارية غيّبية تنذر بنهاية العالم، شأنها شأن النبوءات الدينية المرادفة لتفسير شكل التناحر الراهن المتدحّرج من الأراضي السورية إلى غيرها.

"الشرّ الطويل"

مذ دخل الروس أطلس الحرب في سوريا خلال شهر أيلول/سبتمبر من العام الحالي، جرى الارتماء فوق تخمينات قلب الواقع إلى معادلهِ "الفانتازي"، وصارت هناك عناوين حثيثة لردم صدوع المعرفة العلمية بما يحدث. وتلك تظهر بمجرّد تشابك المصالح الدولية على خشبة الجغرافيا السوريّة. مجدداً تتظافر الشروحات الإسلامية مع مذاهبها الباطنية، ومثلها الشروحات المسيحية، لتقدّم مسوّدة فهم مقترحة تتكهن بتمادي الحرب الدائرة في سوريا وتخصيبها المتوقع لتصير حرباً عالمية ثالثة، تسميها المخيّلة الشعبية "الشرّ الطويل"، وهذا مشّتق من الشرط الديني للتخيّل. وكلّما ازداد أمد الصراع، كلّما تيقّن الحديث الشعبي من حسن استبصاره، وسدادة تصوّره عن نهاية العالم الوشيكة. دخول الروس المباشِر جانباً من الصراع أمعن في جذب التصوّر الغيبي مجدداً إلى بؤرة الحديث اليومي، فذلك مهّدت له المخيّلة الشعبيّة بأن عدّت حضور الروس كما لو أنّه المعادل الواقعي لطغيان المحور الأميركي الإسرائيلي في هيمنته على المنطقة، وأنهُ القطب الثاني المغذّي لجموح الحرب الكونيّة المنتظرة.
هذه حرب غير سابقاتها
الذين عايشوا حروباً سابقة في سوريا لا يتذكرون أن تخيّلهم قد قادهم ــ سواء في حرب عام 1967، أو في حرب عام 1973 ــ إلى التيّقن من تحوّل أيٍّ من تلك الحربين إلى حربٍ عالمية ثالثة، كما هو حالهم الآن. فهذه الحرب غير سابقاتها، ربما لأنها تمكنّت من جغرافيا غنيّة وحساسة كالجغرافيا السوريّة ثم استطالت بها، وربما لأن الموروث الديني الإسلامي والمسيحي واليهودي اشتبك حول المستقبل على هذه الرقعة بالتحديد: معركة "هرمجدون" الفاصلة بين الخير والشر ستقع بحسب الإفصاح المسيحي واليهودي غير بعيدٍ عن سوريا، وجيش المهدي بحسب المعتقد الإسلامي سيدير معركةً فاصلة مع قوى الشرّ في سهل حوران.
لم تتعب المخيّلة الشعبية من تقمّص نهاية العالم على صورة الحجّة الدينية التي تشكّل جزء أساسيا من وعيها المباشر، وهي بذلك تعيد سردَ سيرة الحرب القائمة في البلاد على أنها حتمية تاريخية مرتقبة تستثيرها جدلية نهاية العالم بعلاقاته القائمة بصورتها الراهنة.
   
ضرورة تكذيب الإيديولوجيا

كثيرون استغنوا عن اقتناء أيّ توصيف إيديولوجي حائر للحدث السوري. المخيّلة الشعبية تقبّتله بصورة نقيّة غير مؤدلجة.. خطوات تسبق النهاية فحسب. لذلك، وبمقتضاها، لم يجد الكثير من السوريين حرجاً من حرث الواقع بعيداً عن حرج الإيديولوجيا السياسية، متجنّبين الانخراط في الفرز العامودي الذي تشكّل حول قبول النظام القائم منذ آذار/مارس عام 2011. فهذه ليست بثورة، ولا بمؤامرة كونية، إنما هي مقدمات لحرب تسبق نهاية العالم.
المخيلّة الشعبيّة لم تقد حامليها إلى مقاربات إفلاس الواقع. بقيت تراقب الحدث من شرفة المتوقع، تزداد يقيناً بصوابيتها كلّما تطابقت إحدى مخرجات الحرب مع الصورة النمطيّة للتكهن، اعتباراً من دمار مدينة حلب، إلى ظهور "داعش" المريب، وصولاً إلى خراب دمشق "المنتظر".
تميل مكونات المخيلة الشعبية هنا إلى المسلّمات أكثر من أيّ شيء آخر، لا تطرح نفسها سوى أنها اليقين بما سيحدث. تقدّم مسوّغات تقلل بها مساحة الامتثالية إلى الواقع، فلا يجد أبناؤها أو مناصروها بدّاً سوى من قبول الواقع بصورته الزائغة عن الترجمة الحرفيّة للبراغماتيّة الدوليّة. فهم غير منخرطين في الحرب، ويتجنّبون ذلك، لا هم مع حرب النظام، ولا همّ مع حرب المعارضة، وذلك دونما الانعزال عن الفعل اليومي المعاش في المجتمع. يبقى المنغمسون في المخيّلة الشعبيّة فاعلين في مجتمعاتهم المحليّة، حتى ولو تقولبت حياتهم حول فكرة الانتظار العميق.

في الاستثمار دينيّاً  

تستأثر المخيّلة الشعبية في سوريا، وربما في سواها، بأفرادٍ من ذوي المستويات التعليميّة والثقافيّة المتدنيّة، وتستلهم انتشارها بين الفقراء أكثر من سواهم، وهما شريحتان تجدان في تصورات نهاية العالم الوشيكة التي تلهب تلك المخيّلة خلاصاً آمناً من حياتهم الرثّة، بعدما اختبروا عقم الإيديولوجيات المنادية بالمساواة الاجتماعية، وإلغاء الطبقية، وعاينوا عن كثب عفونة النخب الحاكمة المتتالية. فكرة نهاية العالم، وتطبيق العدالة الغيبية، تواسي نقمتهم على اشتراطات حياةٍ غير عادلة عاشوها. يقبلون اقتراحات ذاك الخيال وينصتون إليه، بعدما جربوا مراراً الإصغاء إلى غيره من اقتراحات تجميليّة لم تداوِ حياتهم البائسة. لعلّهم بذلك يوثّقون بقائهم، يجرفهم تموضع المخيّلة حول هدايات الغيب إلى ضفاف التدّين. لقد راكم نفاذ التصوّرات الغيّبية عن نهاية العالم إلى ذهنيّة البسطاء قبولاً غير متريّث للنكوص الديني باعتباره منظومة قيميّة تستلهم جدلها من الحلّ اللاحق لصراع الخير والشرّ، وتعلّقه بنهاية العالم الراهن وحسب.   
التديّن في سوريا خلال الأعوام الماضية ظهر في اتّساقٍ حميم مع تمادي المخيّلة الشعبية في عملها. ظهرا معاً كمتلازمة عن غير قصد، لهما حاملٌ اجتماعي واحد. بهذا يصعب فصل نمو ظاهرة التديّن في سوريا، خاصةً عند الأقليات، عن قبول الصور التي يدمجها الخيال الشعبي عن فناء العالم في حربٍ طاحنة داخل وعي الناس، مستدلاً على صوابيّة رؤاه بخارطة الخراب الراهن واتساعه. ذلك كلّه راكم من انحراف الفعل المجتمعي نحو التمركز حول الذات الجمْعيّة، سواء الإثنيّة أو الدينية بمفهومها الطقسي. هنا لا تراوغ المخيّلة الشعبية الدالّة على دنو أجل البشرية في فهمها لمعطيات الواقع القائم، فلا تعنيها الدولة بشرعيتها الملتبسة، ولا أسماء الأطراف المتنازعة على الأرض السوريّة. تراها لا تستجدي وقعاً تراه متلاطماً في علاقات القوى الدولية التي تصوغ شكله النهائي، ولا تنتظر خلاصاً مشكوكاً بحتميته يقترحه سادة العالم لإنقاذ ما تبقّى من سوريا. 
ينتظر المرابطون في سوريا خلف فكرة نهاية العالم الوشيك تمادي إشارات الغيب في مدّهم بعناصر الخيال اللازم لتعميم فكرة النهاية، والتعتيم على خطّ الحياة الواقعيّة. بهذا يصير التمركز حول الأنا الإثنيّة المجتزأة من "الأنا" الكليّة للمجتمع قابلاً للتطبيق، ويصير جائزاً بمكان أن تدغدغهم المخيّلة التي رصدت لها النصوص الدينية كثيراً من الاستشفافات المثمرة لعلوم الغيب. ينامون إذاً مطمئنين بأنهم الناجون الوحيدون من معصرة التهلكة الدائرة رحاها في البلاد، وبأنهم سيرثون وحدهم هذا الكوكب البائس.

 


وسوم: العدد 166

للكاتب نفسه

في سوريا: العمل بالأمل؟

ما بعد الانتخابات هو ما قبلها حرفيّاً، إن لم يكن أسوأ. فها نحن نسير من شبه إفلاس إلى إفلاس، من شبه حصار إلى حصار، من شبه جوع إلى جوع، ترفدنا...

ما بعد الخمسة آلاف ليرة سورية...

سوّغ حاكم المصرف المركزي طرح تلك الفئة النقدية الجديدة، بربطها باستبدال العملة التالفة، ونفى أن تكون كتلةً نقدية تضخمية. غير أن المزيد من العملات شبه المهترئة من فئتي الألف، والخمس...

راس السنة، أصابع ملوثة بالحبر

خلال العام الماضي، ظهر العراق والصومال كوجهتين استمالتا السوريين الراغبين بالسفر، والقادرين عليه. فالراغبون بأعمال هامشية في المطاعم والفنادق استحصلوا على "فيزٍا" إلى أربيل، أما الأطباءُ متوسطو الدخل، والقادرون على...