ينهض السوريون كلّ يوم منقسمين حول سبب خراب بلادهم، يمدّهم ضوء النهار في أوّله بهداياتٍ شحيحة تضيء لهم صوابيّة الضفة التي يقفون عليها، تجعلهم يزيلون، أيديولوجياً على الأقل، مكوّنات الضفة الأخرى. يصير "الآخر" جزءا من خصومتهم مع حياتهم العاثرة، وأحياناً يصير كما لو أنه السبب في بلائهم. السوريون الباقون في بلادهم منقسمون أيضاً حول نصيبهم من حصص الدمار والموت اليومي، الجغرافيا تحددها لهم، وبذلك يعيشون تبايناً في مقتنياتهم من خمائر الخوف والقلق والاكتئاب والرهاب، حين تدوّن الحرب سيرتهم النفسيّة كمعتقلين في جوفها مدّة خمس سنوات.
مطر دمشق من "الهاون"
تسير الرؤوس تحت سماء دمشق على حافة قلقها، أو تصير في لجّة القلق كلما تسرّبت من ثقوبِ خوفها قذيفة هاون قد تسقط على الرأس، أو قد تنفجر على مقربة من القدمين. وهذا هلعٌ لا ينقسم، موتٌ لا يمكن تجزئته في كلتا الحالتين، ولا ضير من تحسّس نوايا "جيش الإسلام" واستطلاع مزاجه كلّ صباح، فهذا يفيد إما في لجمِ المخاوف، أو في إطلاق عنانها قبل مغادرة المنزل إلى الشارع. "جيش الإسلام" يرسل مطره الخفيف من قذائف الهاون بين الفينة والأخرى، لتهطل فوق حظوظ المارة وتختبرها. الخوف من تعثّر الرأس بقذيفة هاون يتكاثر في الأحياء القريبة من الغوطة الشرقية، المعقل الرئيسي لذاك التنظيم، وأغلبها أحياء فخمة مثل الغسانة، والقصاع، والتجارة، والزبلطاني، ومحيط ساحة التحرير، وشارع بغداد، ودمشق القديمة.
يحضر القلق من سقوط قذيفة هاون في أيّ وقت، وفي أيّ مكان، بنسبٍ متفاوتة، لكنه يصير جانباً من يوميات القاطنين في العاصمة. أحياناً يغيب، يندمل تحت بشرة الحياة الروتينيّة، فلا تلحظه منظومة السلوك الواعي للفرد، وأحياناً يحضر بكثافةٍ يقينيّة حال تسقط قذيفة هاون واحدة. الكثيرون أصيبوا "بفوبيا الهاون"، فصاروا يتفادون الأماكن المكشوفة فلا يعبرونها، والبعض الآخر يعيش قلقاً متفاوت الشدّة، لكنه ضروري كجرس إنذار داخلي يُبقي الكائن متحفّزاً لئلا يُغفِل احتمال وقوعه في شرك الموت.
"الرقة": الخوف من جبهتين
يلاقي القلق عقول القاطنين في الرقة السوريّة من طريقين، من تنظيم "داعش" على الأرض، ومن طلعات طيران "التحالف الدولي"، والطيران الروسي في السماء. يَنْسِلُون قلقهم من بين جلودهم كلّ يوم، كأنهم يقتلعون أطراف شظيّة لا تفارق لحمهم. يصف من يعيش هناك القلق بـ "المرضي"، يصل حيناً إلى درجة الرهاب من الأصوات المباغتة، الأصوات المرتفعة غير المتوقعة، تلك التي تناسلت من يوميات القصف الجوي وبطش تنظيم الدولة الإسلامية. باتوا كمن ينتظر الموت في أيّة لحظة، ولا سبيل لتبديد مكونات الخوف عندهم إلا باعتياده، أو بمغادرة البلاد. الأطفال هناك يتأثرون أكثر من سواهم، يلازم بعضهم التبول اللاإرادي، الأكبر سناً يصطحبهم الأرق، فيبقون يقظين في أغلب لياليهم، فيما تزداد حالات الاكتئاب لديهم. حياتهم لا تتحسّن، لا عزاء يجنونه من العقاقير الطبية التي تحثّ هرمون "السيروتونين" ليعمل عمله، فيدخلهم في حضن النوم الحلو، لم يعودوا هانئين في حياتهم، ولا يهمهم تصنيف درجة كآبتهم أو درجة قلقهم، لا على سلّم العلاج النفسي ولا على سلّم الدواء. ينتظرون معجزة، أو أن تكون حياتهم تلك مجرّد كابوسٍ عمره ليلة واحدة، وسببه عشاءٌ ثقيل.
الحياة تحت البراميل المتفجرة
ينزل الخراب على أرياف حلب وإدلب من السماء، من براميل محشوةّ بموادٍ متفجّرة تسقطها طائرات النظام على الأرياف التي تسيطر عليها المعارضة المسلحة. المدنيون الباقون هناك عالقون في قلقهم أيضاً، ليسوا أقل أرقاً من سواهم في مناطقٍ أخرى تخضع لفعل الدمار اليومي، الطيران الروسي صار شريكاً جديداً في تخصيب قلقهم وتعميم قسوته، لتبدو صورة الحياة من هناك قاتمة، مشدودةً إلى رواق الموت الخلفي.
الذين يعيشون في ذاك الريف يَحسَبون أن الحرب قد خصّتهم بالحصة الأكبر من الدمار، إن قارنوا مناطقهم بغيرها. لا يستهينون بقلقهم وما يستتبعه من أرقٍ مضنٍ وكآبة حتى وإن لم تصل بعد إلى ضفّة المرض النفسي، لكنهم يطببون التوتر بالأدعية القرآنية، وعدم الإنقطاع عن الصلاة، الكثيرون يصومون يوم الاثنين من كلّ اسبوع، والقليلون منهم يلجؤون إلى المهدئات أو المنومات. تلك الأرياف تخضع بمعظمها إلى سيطرة "جبهة النصرة" و "جيش الفتح"، وهما قوّتان تمثلان الراديكاليّة السنّية المتطرفة، والدين هو الترياق الكلّي للحياة، وتصير معه الأدوية النفسيّة والمهدئات البسيطة من فئة "البنزوديازيبين" المستخدمة في علاج الأرق ترميزاً لضعفٍ بشريٍّ لا يُطاق، ودلالةً على قلّة الإيمان بنفاذ بصيرة الله في قضائه وقدره.
رُهاب الحواجز، ثنائية الاعتقال والتجنيد
يحدث أن يسيل القلق إلى حيث البراميل الصدئة، التي تُجاورها كتلٌ خراسانيّة ملوّنة. تلك هي الحواجز الأمنيّة والعسكريّة في سوريا، وعلى المطلوبين إلى الفروع الأمنيّة أو إلى التجنيد الإجباري تفادي المرور بها. لذا ينعزلون في أماكن تواجدهم، تنغلق عليهم الجغرافيا بإحكام، ثم يتدبر القلق صوغ حياتهم من جديد. أغلبهم يعيش في مناطق سيطرة النظام حيث تعميم الموت بفعل آلة القصف أقل، لكن نفورهم من يوميات حياتهم كبير هو الآخر. يتعلّق بعضهم بالمنومات والمهدئات الشائعة، وتلك ازدادت نسبة مبيعاتها في السنوات الثلاث الماضية بحسب ما يؤكده بعض الصيادلة. المصابون بالأرق قصير الأمد الناجم عن مشكلة انفعالية مستمرة، وهو يبقى عادةً لبضعة أسابيع، غالباً ما يعالجون بالمنومات الشائعة، مثل مركبات الباربيتيورات وهي عبارة عن مشتقات من حمض الباربتيوريك والكلورال هيدرات. بعض الصيادلة في أماكن سيطرة النظام يصرفونها بلا وصفات طبيّة، لكن أغلبهم يتجنّبون فعل ذلك، ويقترحون أدوية مهدئة تكون مادتها الفعّالة نباتيّة المنشأ. عدد من الأطباء يقولون بأن الاضطراب في النوم صار أكثر شيوعاً بين الناس، ويشخّصونه في حالاتٍ كثيرة كأحد مظاهر الاكتئاب. وبالعموم يصفون جرعاتٍ مخففة من الأميتريبتيلين لعلاجه، ويصرّون على أن المعالجة يجب أن تتم بأقل جرعة تُؤخذ لأقصر مدّة زمنية ممكنة. وأحياناً يصفون مضادات الذهان للتداوي من بعض حالات القلق الشديد، لكن بجرعاتٍ مخففة، كما يصفون بعض مضادات الاكتئاب، أو قد يقترحون جملة من صنوف البنزوديازيبينات لتخفيف أعراض القلق الشديد المترافق مع الأرق المستمر.
ولعلَّ الارتماء على تلك الصنوف الدوائية صار مبرراً أكثر ــ على الخوف ــ داخل أزمة اقتصاديّة مركّبة من ارتفاع الأسعار المستمر، وازدياد نسبة البطالة. فالعاجزون عن تحسين دخولهم أو مغادرة البلاد، سرعان ما يمرضون على مهل، وبلا انتباهٍ منهم. تؤرّقهم حياتهم المثقوبة من أسفلها، لا شيء يتجمع على سطحها سوى القلق، وهم يعومون بخفّةٍ إلى جواره، فيصيرون جزءا منه.