تغفو سوريا في عزلتها، منهكة بين أصفادِ الحرّ. في ساعات ما بعد الظهر، تلوذُ البلاد وراء أصوات مولدات الكهرباء المربوطة إلى مراوحٍ تهشُّ حرارة الهواء العالق بالوجوه. الحياة صارت تجيء كبثٍّ إذاعي رديء الإشارة، محمولٍ فوق مَحفّة من ترددات قاتمة، تبدأ من رغيف الخبز بلونه الجديد، الأسمر، بخميرته الجديدة، خميرة الحرب الفاسدة، لتمرَّ بفوبيا "داعش" التي تساوي تقريباً فوبيا "تجميع الطحين" حتى في المناطق الهادئة، حيث لا يزال فيها جسد السلطة معافى، ثم تصل إلى بيانات تعبويّة تشبه بيان "إلى السلاح.. إلى السلاح". في غفلة عين تنمو متاريس جديدة، تنعقد بسرعة صفقات شراء السلاح الخفيف، ترتفع رايات الدفاع مستبقة زحف الهجوم الإلغائي. سوريا صارت مثلَ مرضٍ نفسيّ لا شفاء منه إلا بمغادرتها. وسوى ذلك ثمّة المندملون في لحمِ كوميديا الصراع العسكري، وثمّة الفارّون من الجبهات الملتهبة إلى تخومِ العزلة الباردة، ميراثهم الوحيد من دولة الحرب.
الديكتاتوريّة بدلاً من الديكتاتوريّة
انتهى الحراك المدني وجاء العسكر، وجوه من الطرفين أزاحت تدريجياً حرارة الأصوات التي تنهّدت في المناطق الثائرة، هاتفةً لإسقاط الديكتاتوريّة الحاكمة، أو تلك التي عاندتها وتعالت في مناطقٍ أخرى مهلّلةً لبقاء النظام القائم. بذلك تكون قد انتهت مرحلة، وبدأت أخرى. شوط نزالٍ صوتي انعقدت حبّاتهُ من الهتافات الرافضة للنظام، أو من الهتافات الموالية له. سرعان ما استبدلهُ الواقع المتغيّر بشوطِ نزالٍ آخر شرطهُ الموضوعي حمل السلاح، وقد تُسعفنا الأشهر الأخيرة من العام 2013 في فهمِ التغيّرات البنيويّة الحادة التي لحقت بجسم الحراك المدني، فغيّرت هويّته ومكوناته الآمنة إلى أخرى أكثر التباساً ومراوغة. ففي شهر أيلول / سبتمبر من العام نفسه صار محمد زهران علّوش الرجل الأقوى في الغوطة الشرقية بعدما أخرجه وآخرين مرسوم عفوٍ رئاسي من سجن صيدنايا في حزيران / يونيو من العام 2011. لقد تربّع على قيادة 43 لواء وكتيبة وفصيلاً أنتج دمجها تكنيكيّاً ما صار يعرف باسم "جيش الإسلام"، القوّة صاحبة النفوذ الحقيقي على مناطق الغوطة الشرقية، والتي سرعان ما استلهمت من النظام الذي تُقَارعهُ الحسَّ الإلغائي. طرحت بلا تردد الآخر المختلف عنها من حساباتِ الواقع الجديد، فحيّدت بذلكَ كلّ ما يَخْرُج عن عباءة السلفيّة الجهاديّة السنيّة بمعناها الراديكالي الدقيق، حتى وإنْ تقاسم هذا الآخر مع جيش الإسلام نصيبه من الصراع مع نظام دمشق. فرأينا كيف لم تصمد كتيبة يوسف العظمة، التي حملت قبلاً اسم فدائيّ بني معروف طويلاً ضمن اشتراطاتِ تلك المعادلة الإلغائية الشاقة. توثيقُ ذلك جاء حين أعلن قائدها حسام ديب، المنتمي إلى الطائفة الدرزية في مطلع نيسان / أبريل من العام 2014 تعليقَ الأعمال القتالية للكتيبة في الغوطة الشرقية، بعدما انسحبت من المجلس العسكري، وباعت معظم أسلحتها لتأمين القوت اليومي لمقاتليها، دافعةً بذلك ضريبة ابتعاد معظم مكوّناتها عن فكر العقيدة الجهادية لجيش الإسلام. تلك الضريبة يمكن إعادة معاينتها في عزلةٍ مركّبة وقاسية عاشتها عناصر تلك الكتيبة ذات الغالبية الدرزية قبل أن تستنطقَ حياة الهامش على حفافِ الصراع اليومي الدائر بين جيش "النظام"، وجيش "الإسلام".
قبلاً، طاولت تلك العقيدة الإلغائية الآخر المختلف لا دينياً بل سياسياً، عن العناوين الجهاديّة العريضة لجيش الإسلام الذي صار مهيمناً على تلك الأصقاع بفعلِ قوّة الأمر الواقع. فيمدّنا شهر كانون الأول / ديسمبر من العام 2013 بمثالٍ فاقعٍ آخر على تلك الإلغائية، حين تمّ إغلاق مركز توثيق الانتهاكات في سوريا الكائن بدوما، واختطاف القائمين عليه: ناظم حمادي، وسميرة الخليل، ووائل حمادة، ورزان زيتونة. الإبعاد حملَ بشقّه الرمزيّ إنهاء الحالة المدنية للثورة، وتمكين الفكر الجهادي بدلاً منها فوق الأرض، فلم ينفع تحميل 46 منظمة دولية جيش الإسلام وزعيمه زهران علوش مسؤولية جريمة الاختطاف في التخفيف من جلافة القتل الرمزي للحراك المدني وطيّ صفحته في الغوطة الشرقيّة. تلك الحادثة كانت بحق الحلقة الأخيرة التي أغلقت سلسلة عزلة مركّبة قطباها الطاردان كانا التكفير السياسي للنظام، والتكفير الديني لجيش الإسلام..
العزلة بدلاً من "داعش" والنظام
المعارضة السورية غير المنتسبة إلى السلاح توسّدت عزلتها على مراحل، تحسّست أزمتها الجديدة في بؤرة الصمت، لابت تتفحّص تفاصيل جغرافيا الصراع، متحيّنةً فرص اكتشاف التطابق بين مذاق القمع الذي تنتجه السلطة القائمة، وبين الذي تنتجه المعارضة الإسلامية المسلّحة، ثم صار ينتجه "داعش" منذ تمدد داخل الجغرافيا السوريّة.
في الرقة ودير الزور حيث انتقلت السلطة من نظام الدولة الأمنية ودولة الحزب الحاكم، إلى تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، سعت المعارضة المدنيّة إلى تلمّس مأزقها الوجوديّ مستنجدة بقياسِ اتساع الهوّة بينها وبين الواقع الموضوعي ببناهُ الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، فانعطفَ سلوك المعارضة المدنيّة في الرّقة وفي سواها من المناطق الخاضعة لنفوذ تنظيم "داعش"، من نشاط التظاهر السلّمي والتغطية الميدانية والإعلاميّة لمجريات الحراك إلى المجال الإغاثيّ بما فيه العمل التطوعي في المستشفيات الميدانيّة. ثم بلغ حدَّ الانكفاء في البيوت، والاكتفاء بإحصاء دوران الأيام في حركتها الرتيبة والممجوجة. لقد تحوّلت العزلة الوقتيّة كحالة اضطراريّة عاشتها المعارضة المدنية، تقيها من الاندثار، إلى هامشيّة مزمنة بفعل تعمّق الصراع واتساع رقعته بين النظام السياسي والمعارضة الإسلامية المسلّحة.
في مناطق سيطرة النظام، حبست المعارضة المدنية نفسها في دوائرٍ من الصمت، عزّلةٌ صار صعباً كسرها بعدما حملت زلّة البنى الاجتماعية الاقتصادية السائدة في رفضها لتغيير النظام القائم، طاردة من لجّتها المعارضين، دافعة بهم إلى خيار البقاء على هامش المجتمع الرافض لهم، والرافضين له. عام 1928 بحث عالم الاجتماع روبير بارك في الانتماء الثنائي للفرد المهاجر الموزّع بين منظومته القيميّة والمعرفيّة التي رافقتهُ من موطنه الأصلي، وتلك المكتسبة في موطنه الجديد. وكانت المرّة الأولى التي جرى فيها دراسة الفرد المهمّش بعيداً عن كونه أحد منتجات منظومة علاقات اقتصادية سياسية اجتماعية محددة، وبعيداً عن مكانه خارج حلقات الإنتاج الاقتصادي والمعرفي والقيميّ.
في سوريا انتسبت الهامشيّة خلال السنوات الماضية إلى بنيةٍ ثنائيّة القطبية، فهي هامشيّة قسرية، وهامشيّة اختياريّة في آن. والمعارضة المدنية استشعرت من خلال تموضعها الجديد داخل الهرم الاجتماعي بأن سيسيولوجيا الاغتراب عندها باتت تساوي سيسيولوجيا الوحدة، تهميشها لا يحمل هنا إكراهاً اجتماعياً خالصاً فحسب، بل هو خيارها السلوكي لتفادي فداحة الحياة الامتثاليّة داخل البنى المعرفيّة والقيميّة للمجتمع السوري غير الثائر، أو الذي جرجره الظرف الموضوعي ليصير تحت سلطة التكفير بدلاً من سلطة النظام الشموليّة.