تُطل الدعاية، كمضمون خطابي، من تلفزيونات النظام والمعارضة مطهّمة بالخطاب السياسي للقوى المتنازعة على الأرض، متجنّبة الاقتراب من خطابٍ جامع للسوريين، متحيّنة فرص التبرير الذاتي، طاعنةً بمصداقية خطاب الآخر، مكرّسةً خلال السنوات الأربع الماضية مشروعَين، واستقطابَين. فالمضمون الإعلامي ظلّ حبيس النص الإيديولوجي للخطاب السياسي متودّداً من مناصريه، منغلقاً على سواهم، لاهياً عن مغبّة مواصلة إنتاج سوريا في الخطاب السياسي ثم الدعائي مقسومةً إلى شعبين توزّعا على أصقاعٍ أخذت نصيبها من حرارة النزاع العسكري.
القسمة على علمين
بعد العام 2011 تَحدَّدَ الشارع السوري بلونَيْن، يتّكئ كلٌّ منهما على علم، شاءت الصدفة أن يكون العلم الحالي للدولة هو نفسه علم الجمهورية العربية المتحدة الذي ارتفع لأول مرّة في 1 نيسان / أبريل 1958، ترمز النجمتان الخضراوان فيه إلى الإقليمين المتّحدين سوريا ومصر، وأن يكون علم المعارضة هو نفسه علم حكومة الانفصال العام 1961، وهو بالأصل علم الاستقلال المرفوع في 17 نيسان / أبريل 1946 وهو أيضاً العلم الذي اعتمده دستور العام 1930. العلمان تسلّلا من الأروقة الخلفية للخطاب الدعائي، فصارا متنهُ المضمر. شارات تلفزيونات السلطة تبدّلت تباعاً. تحوّل شعار قناة الدراما الفضائية إلى علم الدولة في أعلى يسار الشاشة ممدوداً على هيئة مستطيل تاركاً اسم القناة حبيسَ أضلاعه الأربعة. قناة الإخبارية السورية استعارت من علم الدولة اللون الأحمر خاطةً منه حرف s باللغة الإنكليزية، وقناة السوري الحرّ أضافت إلى جانب شعار النسر الخاص بالجيش الحرّ علمَ الاستقلال على الزاوية المقابلة من الشاشة خاطةً ضمن اللون الأسود فيه عبارة "اسقطوا من يريد إسقاط علم الثورة". قناة أورينت تجمع العلمين معاً، تدكّهما في مقطع تمثيليّ قصير تظهر فيه فتاة نفهمها رمزياً على أنها سوريا الوطن، تحمل علم الدولة، تتجهُ صوب جدول ماء، تغسل العلم فيه فيصيرُ علمَ الاستقلال، طارحاً عنه اللون الأحمر، نفهمهُ رمزياً على أنه الدم الذي سفكهُ النظام الحاكم.
رمزيّة العلمان اجتذبتا مبكراً فكرة الانقسام، عمّقتها بلا طرح بدائل لخطاب إلغاء الآخر غير الفاعل في معادلة الاقتتال العسكري. الجمهور العادي صار جزءاً من حالة التجييش، وامتداداً ساكناً لفعل الصراع.
تعميم الموت، تعميم الخوف
يتوافد الموت يومياً من الصورة التلفزيونية، يتعدّى الصيغة الخبرية التي تحصيه، يأتي فاقعاً كمضمونٍ دعائي يعلل السطوة في استخدام أدوات الدمار، ويعمّم مشاهد الأجساد المبقورة المكشوفة للشمس وللذباب كمصيرٍ محتّم يتربّص بخطوات الآخر. يتبارى كلا الإعلامين على ترصّد إذلال الموت لآدميّة الجسد البشري، يقدّمانه بشراهة في تراتبية انتصاراتٍ وهمية. ثم يعودان ويعكسان المعنى، فيصير الموت رمزاً دلالياً لوداعة الضحية، ينقلب القاتل إلى مقتول، يتبادلان الأدوار لإكمال حلقة المعنى، ولتطعيم المضمون الدعائي بنقيضه، فتظهر على الإخبارية السورية أمٌّ تحتضن ابنها المبتور الساقين، تنتحب إلى جانب ابنها الآخر في سيّارة مكشوفة، وجنديٌّ من الجيش النظامي يواسيها.
يتكرّر الموت على قناة أورينت قادماً من قاع الأنقاض، الأجساد الحيّة الناجية من قصف البراميل المتفجّرة تمسك بالجثث، تنتزعها من بين أشلاء الأبنية، وتركض بها مُنتحبة، تَجلِد الهواء بأصواتها متوعّدة بإذاقة رموز النظام من الكأس ذاته. بينما تهرول الإخبارية السورية إلى حيثُ أصابت رشقات من قذائف الهاون بعض أجزاء دمشق، تركّز عدستها على العاصمة أكثر من سواها، تترصّد الأجساد المصابة بالشظايا لحظةَ تدخل المستشفيات الحكومية من فوّهة الإسعاف، تلتقط منها الدم وهذيان الصوت المتوعّد بالانتقام من الإرهاب ودحره.
يؤمّن الموت إذاً، كما العلم، رموزاً دعائية كثيفة الأثر يصير معها العلم قاتلاً وقتيلاً في آن، يستنجد بمن يصدّقه ليضمن إطالة شرط الصراع الإلغائي. تقول نظرية الإنماء الثقافي التي راجت خلال السبعينيات في الولايات المتحدة إن المواظبة على مشاهدة التلفاز ولفتراتٍ طويلة منتظمة تدفع المتلقي إلى الاعتقاد بأن الصورة التلفزيونية هي صورة العالم الواقعي.
فصول من الضخ العقائدي
تسترخي قناة السوري الحرّ خلال بثّها الصباحي، فتُغدقُ في رسائلها الإعلامية وصفات لإنماء روح العقيدة الجهادية، تستحثُّ لها نصوصاً صوتيّة من الوعظ الديني وآياتٍ من القرآن الكريم، وفي مقطعٍ تمثيليّ، نرى شاباً تسرقهُ حياةٌ لاهية قبل موته، يصحح مسَارها صوت المعلّق متسائلاً لماذا لم يُمضِ هذا الشاب وقتاً أطول في الصلاة والدعاء، وما قيمة الحياة أصلاً إن لم يكن هدفها طاعة الله والاستعداد للقائه؟
قناة أورينت كفّت عن تسمية "داعش" بهذا الاسم، ذهبت متوددة إليه بأن صارت تسمّيه باسمه الذي يحبّ، "تنظيم الدولة الإسلامية". الاسم يقدّم مضموناً دعائياً جديداً تلاقي فيه القناة أحلام التنظيم الجهادية في توسيع رقعة دولة الخلافة تحت رايات الجهاد والفتح المبين.
فيما تستبطن الإخبارية السورية التابعة للنظام فكرة التسويق الدعائي للجيش كحلّ وحيد لتناقضات فتاوى الأرض المتنقّلةً بين تكفيره في مناطقٍ ودعمه في مناطقٍ أخرى، تطلّ علينا الفكرة أيضاً في مقطعٍ تمثيلي تعرضه قناة "سورية دراما" تظهر فيه فتاة تتابع على تلفازها معارك يخوضها الجيش، ثم تظهر مجموعة جنود يركبون سيّارة مكشوفة، يهتفون "بالروح بالدم نفديك سوريا"، تتحمّس الفتاة للهتاف، تزيل طلاء أظافرها، ترتدي بزّةً عسكرية، تلحق بالسيارة، ثم نشاهدها على الجبهة وقد صارت جنديّاً. تقترح نظرية التبعيّة في الاتصال أن الجمهور يعتمد على معلومات وسائل الإعلام لإشباع حاجاته، ويرتبط تأثير وسائل الإعلام على المتلقي بدرجة اعتمادهِ على تلك المعلومات والصور المعروضة أمامه.
فضاء يضيقُ بالآخر
تغيب عن شاشات النظام والمعارضة المضامين الدعائية التي تقبل سوريا وطناً واحداً لجميع أبنائه الموالين للثورة منهم والموالين للنظام، فتقبل بذلك الآخر المختلف، وتختار حواره، تشاطره التفكير، وتشاطرهُ تشخيص الحلّ. لا أفقَ ينفتح عليه الأثير الفضائي سوى الأفق المضمّخ بالدم، ومزيد من المواضيع التي تستجلب دور المنتصر النهائي، وتقلّد دور الضحية بشكلٍ متقن.