تنشغل محافظة دمشق كثيراً بإعادة توضيب حيّز من أطراف المدينة المنهَكة في خرائطِ استثمارات عقارية. صادقت المحافظة في شباط/ فبراير العام 2013 على ستة مخططات تنظيمية تفصيلية، وكأنها تحشد عدّتها باكراً لرسم معالم بناء جديدة، واثبة فوق خرائط الدمار التي لم يكتمل رسمها بعد. في جعبة المحافظة مخطط يعدّل الصفة العمرانية لمنطقة المشيدات الحكومية خلف الجمارك، ويحوّلها إلى منطقة تطوير عقاري فيها فنادق ومبانٍ متعددة الاستخدامات، وهي الأرض ذاتها التي نوت السلطة وهبها لشركة الديار القطرية العام 2008 لتشيّد الوسط التجاري الجديد للعاصمة فوق مساحة 550 دونماً. ومخطط آخر يعدّل الصفة العمرانية لمقاسم الدباغات قريباً من الزبلطاني، ويمهّد لتحويلها إلى منطقة حرفية، سياحية، خدمية، لا إلى منطقة سكنية. وصادقت المحافظة في باقي المخططات على تنظيم منطقة المهاجرين، وبرزة، ودمّر الشرقية، والمزة الجديدة. وعلى الأرض لم يتم بعد اختيار اللاعبين الأساسيين في مشاريع الاستثمارات العقارية المقبلة بانتظار انحسار مدّ النزاع العسكري قبل ذلك.
لكن الوجه العمراني لدمشق ليس واحداً. فثمّة تاريخ تعطّلت حركته فسكنَ في مبانٍ لا تزالُ حيّة إلى الآن، تقدّم مع غيرها من أبنية سكنيّة دمشق بوجوهٍ معمارية متعددة المنابت والأنساب، فتصنع مشهداً بصرياً يصعب تجاوزه. لكن كيف ظهرت هذه الوجوه العمرانية التي اصطادها التاريخ في مواقيت مختلفة، وجمّعها إلى جوار بعضها وأبقاها متماسكة، جمالياً على الأقل؟
مخطط روماني قبل أبنية العثمانيين
دمشق مدينة لا يمكن حذفها. في مركزها يتجاور مبنى كليتي الحقوق والشريعة مع قاعة رضا سعيد للمحاضرات. كلاهما بناءان قديمان جداً، ولا يزال بناء كليتي الحقوق والشريعة يحتفظ بالمعالم المعمارية للثكنة الحميدية في السقف القرميدي، وشكل النوافذ والفسحات الخضراء بين الأروقة المتداخلة، وفي رحابة البهو، والأدراج العريضة، والأسقف العالية. تلك الثكنة تمّ تشييدها أثناء حكم إبراهيم باشا بين العامين 1832- 1840، حينما بلغ تأثر العثمانيين بالعمارة الأوروبية أوجه. في حين تطوّرت السيرة الذاتية "للبيمارستان النوري" الذي بناه نور الدين زنكي حوالي العام 1154 إلى المستشفى الوطني أيام حكم إبراهيم باشا، ثم لحقت به إصلاحاتٍ ترميمية حوّلته حالياً إلى قاعة "رضا سعيد" للمحاضرات، وإن بقيمةٍ جمالية تخلّت عن بعض معالم البناء الأساسية من دون أن تلغيها كليّا. كما تُجاورها من جهة الشمال التكيّة السليمانية، فهي ما تزال قائمة على حالها كشكلٍ متقَنِ الصنع من الذوق الإسلامي العمراني منذ أنشأها السلطان سليمان القانوني، وقبل ذلك كانت قصر الأبلق المملوكي الذي بناه الظاهر بيبرس خلال حكمه لدمشق بين العامين 1223 – 1277. نصيب العثمانيين في عمارة دمشق وافر لا يزال ناهضاً في شواهد عديدة، مثل مبنى ناظم باشا في المهاجرين الذي صار القصر الجمهوري، ومبنى زيوار باشا الذي تحوّل إلى المعهد الطبي العام 1903 ثم أصبح بناؤه ثانوية جول جمال جنوب المستشفى الإيطالي. ولا تخفى اللمسة المعمارية العثمانية عن شكل قبّة ومئذنة جامع الشيخ محيي الدين في الصالحية والذي بناه السلطان العثماني سليم الأول أيضاً.
دمشق بمعظم عمرانها الراهن تعود إلى المخطط التنظيمي للعام 1968، فلم تشهد أي إضافاتٍ ملموسة عليه ما خلا ظهور عدد من الفنادق خلال العقد الماضي، أحدها "الفورسيزون" بواجهته البيضاء المطعّمة باللون الأخضر وهو يطلّ على التكية السليمانية متمعّناً في تاريخٍ طويل يفصل بين الضفتين، فيما تظهر من أعلاه دمشق القديمة طافيةً كجزيرة مزنّرة بسور حجري وضعه الرومان كأول مخططٍ تنظيمي، حوالي العام 85 قبل الميلاد، واستعانوا بالتقسيم الشطرنجي الذي يقتصد في المساحة، ويبرز جمال العمارة، فظهرت الجزر السكنية المربّعة والمتجاورة، وشُقت الشوارع المستقيمة، ومنها الشارع المستقيم الذي يُعرَف باسم سوق مدحت باشا بطول كيلومتر ونصف الكيلومتر. ذاك المخطّط بدأ يتلاشى عقب بناء الجامع الأموي أيام عبد الملك بن مروان بين العامين 705 - 715 كإرثٍ معماري مدهش يبرز في اتساع مساحته سطوة الدولة الأموية، كما ثراءها في زخرفاته الكثيرة. لكن وبتحرّك عاصمة الخلافة صوب بغداد بعد العام 750 صارت دمشق أقل أهمية لمركز الحكم العباسي. وتمثّل ذلك واقعياً في الاتجاهات المعمارية التي سادت حينها، فهذهِ تعكس المستوى الاقتصادي للطبقات الاجتماعية أولاً، وتعكس ثانياً الظرف السياسي الماثل، حيث عمّت الاضطرابات أيام الإخشيديين والفاطميين، وانخفض عدد سكان دمشق من 125 ألف إلى ثلاثة آلاف العام 1075، وصارت الشوارع والحارات الدمشقية أقل عرضاً، وأكثر تعرّجاً، وبنهاياتٍ مسدودة كتجسيدٍ مادّي واقعي لغياب الأمن وانتشار الفوضى وزيادة الفقر وارتفاع الأسعار. كما اختفت الهندسة المربعة الشطرنجية للكتل السكنية، فصارت أكثر عشوائية وتقشّفاً في تكوين مظاهرها الخارجية، ولا تزال تلك قائمة حتى الآن. مع ذلك بقيت، وسواها من البيوت الدمشقية، تتقاسم خصائص معمارية متقاربة، إذ تتمحور جميعها حول الفسحة الداخلية للبناء، لا على الشارع، لتتغيّر لاحقاً هذه المعادلة المعمارية حين توسّعت دمشق خارج سورها الروماني، فظهرت "الصالحية" منذ سكنها المقدسيون بعد سقوط القدس بيد الصليبيين العام 1098، ثم اتسعت زمن الأيوبيين بين العامين 1174 – 1259 وتلاصقت من جهة الجنوب مع سور المدينة القديمة. ثم ظهرت في عهد المماليك بين العامين 1259 - 1516 أحياء الميدان، والسويقة، والقبيبات، وحي ساروجة الذي لا تزال بيوته المتهالكُ بعضها قائمة حتى الآن، والتي يعود تصميمها المعماري إلى معادلات البيت الدمشقي، يفصلها عن ساحة المرجة مجمع "يلبغا". وغير بعيدٍ منه يظهر بناء العابد الذي يعود بناؤه إلى العام 1910، وهو مثال على التخلّي المفرط في أوائل القرن العشرين عن الشكل المعماري للبيت الدمشقي وتقدّم النموذج المتوسطي للعمارة، بما فيه من تراجع للمكونات الزخرفية والتزينيّة الداخلية، مرتقٍ في طبقات عدة فوق قبو واسع، ويعلوه سقف "جملوني قرميدي".
مخططي "دانجيه" و "إيكو شار - بانوشيا"
تَنظّم عمران دمشق في أول مخططٍ العام 1936 وحمل اسم "مخطط دانجيه"، فظهر حينها شارع بغداد، وحي الشعلان، تلاهما بنحو عقدٍ من الزمن ظهور أحياء المزرعة، والتجارة، والقصور، وأبو رمانة، وأحياء شعبية خارج مركز المدينة مثل القابون، وبرزة، والتل، ودمّر، وقدسيا، والمزة، وكفر سوسة، وحرستا. واستقرّت الذائقة الهندسية المعمارية على جعل أحياء التجارة، والمزرعة، والقصور، وأبي رمانة ضمن نسقين من الأبنية ذات الارتفاعات المتساوية، والمتناظرة في مساحة الوجائب والحدائق، وهذا يعكس غياب الفرز الطبقي الحادّ بين سكان دمشق الأصليين آنذاك، وهم مَن سكن تلك الأحياء، فبدت تلك الكتل متجانسة في الشكل وفي الانطباع الحسّي الذي تكوّنه. أيضاً تسبّب نظام البناء المتري المتشدّد الذي خضعت له دمشق في تنفيذ مخططيها التنظيميين (الثاني العام 1968) إلى التشابه المفرط في الشكل الخارجي لأبنيتها لدرجة أن الشغف غير المبرر باستخدام الطبقة الطينية الخشنة بلونيها البني الغامق أو الرمادي (التي تسمّى "الرّشة التيرولية") كحلّ نهائي لإكساء أغلب الأبنية من الخارج جعل أحياء راقية برمّتها تلبس رداء دائماً من القتامة، مثل حي التجارة. وفي العام 1968 تم إنجاز مخطط "إيكوشار وبانشويا" الذي نفّذ المتحلق الجنوبي، وشارع الثورة بامتداده حول السور القديم، وأوتوستراد 6 تشرين، وشارع الاتحاد الواصل بين شارع خالد بن الوليد وباب الجابية، وشارع "الحمرا" التجاري. وأقفل المخطط شارع الصالحية محوّلاً إياه إلى ممر للمشاة، وظهرت مناطق سكنية جديدة في المالكي، وكفر سوسة، وركن الدين، والعدوي، لكن ليس بطريقة التنظيم الشطرنجي التي اتبعها مخطط "دانجيه"، وإنما بطريقة التنظيم الحرّ. كما توسّع مركز المدينة التجاري فصار امتداده من آخر المهاجرين إلى سوق الميدان مروراً بساحة المرجة.
كان مخطط العام 1968 يحاول الاستجابة لتضخم الحياة في دمشق بما فيها من طلب متزايد على السكن وعلى الخدمات. فالمخطط الأول للمدينة تم تصميمه لنحو 230 ألف نسمة، لكن دمشق صارت أكثر صخباً واستقطاباً للبشر منذ منتصف القرن الماضي. فبحسب أرقام المكتب المركزي للإحصاء، ازداد عدد سكان دمشق من 530 ألفاً العام 1960 إلى 837 ألفاً العام 1970 ثم وصل إلى 1.1 مليون العام 1980، وقرابة 2.5 مليون العام 1990، ليصل إلى 3.5 مليون مطلع القرن الحالي.
نمو العشوائيات، والمدن التابعة لدمشق
لم تكن تلك الزيادة خلاصة نسبة مواليد مرتفعة في دمشق، وهي 3.9 في المئة، بل وبسبب متواليات الهجرة الداخلية من الأرياف، والمدن المجاورة، وحتى البعيدة، من قبل أولئك الذين فاتهم قطار العمل الوظيفي في مواطنهم الأصلية، أو لم يجدوا أرضاً يزرعونها، ولا قريب يقصدون السفر إليه، فكانت دمشق وجهةً مؤكدة لهم، علّهم يبرؤون فيها من جذام الفقر والبطالة، فطوّقوها بعشوائيات صاغوها على عجل، وبلا اعتبار للهندسة المعمارية. فظهرت مناطق سكنية عارية من أي قيم جمالية، فلا هي عمران، ولا هي خيم، كما في الحجر الأسود وحي الإخلاص، والدويلعة، والتضامن، ودف الشوك، وعش الورور، والمزة 86. أو استقر الوافدون وبصورةٍ متزايدة في آخر عقدين من القرن الماضي، في مدن "تابعة" للعاصمة وغير بعيدة عنها مثل جديدة عرطوز، وجرمانا، وصحنايا، والمليحة، فاعتصروا الأراضي الزراعية، ودكّوها بالإسمنت، وسكنوها، فاتسعت حدود المخالفات باتساع الطبقة الاجتماعية التي عاشت فيها من موظفين وحرفيين وضباط، واقتصدوا في المظاهر الخارجية لمساكنهم تلك. والسلطة لم تلقِ نظرة على ذاك البؤس المتسع، واعتبرته "أمراً واقعاً" يداري خيبتها في تأمين إلحاح الطلب المتزايد على مساكنٍ لائقة، تخدّمها مخططات تنظيمية. فراحت تظهر كما المدن الصغيرة التي ازدهرت حولها الهوية الاقتصادية المتفاوتة لساكنيها. فهم الأثرياء والمسؤولون ورموز السلطة في المالكي وأبي رمانة وكفرسوسة والمزة والفيلات الغربية والشرقية التي تفيض عمارتها بمظاهر الترف في الاكساء الخارجي لجهة نوعية مواد البناء المستخدمة، والتزيينات الخارجية في اتساق معماري حداثوي لافت. وتنخفض تلك المظاهر كثيراً في مساكن الطبقة الوسطى فتطبع واجهات الشقق السكنية المتراصّة فوق بعضها في ركن الدين والتجارة والزاهرة، وتنخفض أكثر في المساكن ذات كلفة التشييد الأقل فتكون المظاهر الخارجية محدودة الإنفاق على الذوق المعماري، كما في البنايات المؤلفة من 14 طبقة في أول المزة، وفي الأبنية مسبقة الصنع في الزاهرة وركن الدين والسومرية والمزة ذات الكلفة الإنشائية المنخفضة، والتي تقطنها الكتلة الأكبر من الطبقة المتوسطة والتي باتت دخولها أشد التصاقاً بخط الفقر الأعلى.
في شهر تموز/ يوليو من العام الماضي أقرّ مجلس محافظة دمشق مشروع إحداث شركة قابضة في المحافظة غايتها تأمين تمويل البنى التحتية، وتكاليف أبنية السكن البديل للمناطق التنظيمية وإدارة واستثمار أملاك المحافظة في المناطق التنظيمية المحدثة بالمرسوم الرقم 66، الذي يقترح تعويض المساكن التي سفك القصف دمها بأخرى بديلة، ومعظم أصحابها صاروا لاجئين، أو نازحين، أو فارين. فأي وجهٍ عمراني لدمشق تحاول هذه الشركة ومَن يحرّك نشاطها في الخفاء رسمَه، وأي سكانٍ سيلبسونه.