تظنون السلطة معطلة إلا من الأعمال الحربية وما يتصل بها؟ مخطئون! ففي مطلع شهر تموز/ يوليو من العام الماضي، تمت إضافة 5 في المئة على الضرائب والرسوم المباشرة وغير المباشرة لمدّة ثلاث سنوات، تحت مسمّى "المساهمة الوطنية في إعادة الإعمار". لم يكتشف هذا المسّمى مطرحاً ضريبياً جديداً، وإنما بدا فَرَاسَةً إضافيةً في سياسةِ الجباية المالية.
... وظيفة الجباية تطغى
وفي أواخر شهر كانون الأول/ ديسمبر من العام الماضي، فرضت وزارة المالية أيضاً نسبة من ضريبة الدخل المقطوع على السيارات والآليات التي تستخدم مادة المازوت، وبدأت تحصيلها مطلع العام الحالي. وهذه أيضاً جبايةٌ إضافية، مثلها مثلُ مفاعيل القرار رقم 76 الصادر عن مجلس محافظة دمشق بعدما زاد 10 في المئة منذ بداية العام الحالي على 14 رسماً ضريبياً من بينها ضريبة ريع العقارات، ورؤوس الأموال المتداولة، ورسوم الفراغ، والانتقال، والتسجيل العقاري، ورسم الأمن العام، وانتقال حق الاستثمار، وزاد 5 في المئة على ضريبة الدخل الحقيقي للمهن والحرف الصناعية والتجارية وغير التجارية، وعلى رسم الطابع.وكانت وزارة المالية السورية قد أبقت بعد شهر آب/ أغسطس من العام 2009 على 32 ضريبة ورسم ضريبي، كحصيلةٍ شكلانية عَقِبَت سنواتٍ من تقليمها لفروع هذه الشجرة. لم يكن ذلك مُبهجاً وسديداً لجهة إصلاح الضرائب في مطارحِ تحصيلها، أو في تصويب عدالة جبايتها. بل وبإنقاص بيروقراطيته، أفصح ذلك الإجراء أكثر عن وجه الجباية، على حساب تسطيح باقي وظائف النظام الضريبي. وشجرة الضرائب في سوريا يغذّي تربتها قرابة 5.7 ملايين دافع ضرائب قبل سنوات الأزمة، ومع ذلك حافظ التهرب الضريبي على قيمة مرتفعة عادلت ذات مرّة 4 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.والاتكال المتنامي على وظيفة الجباية للسياسة المالية في سوريا خلال السنوات الثلاث الماضية يمكن فهمه من باب انخفاض حصيلة إيرادات الخزينة العامة جرّاء العقوبات الاقتصادية، وتقهقر صادراتها من النفط الخام. لكن العلّة في النظام الضريبي ليست هنا، وليست موضعية، تخصُّ الظرف السياسي - الاقتصادي الراهن، ولا الجباية هي فحسب الصورة الأشد وضوحاً لهذا النظام... وإنما هو نظامٌ استنسابي عمّق بقسوة التفاوت الطبقي جرّاء الغبن في توزيع الدخل القومي. ولعلّه لم يستسغ على الإطلاق مذاق العدالة الاجتماعية، بعدما بارَكَ مظلةً واسعة من الإعفاءات الضريبية خصّت الأثرياء وأصحاب المشاريع الكبرى، نجمَ عنها انخفاضُ مستوى معيشة أصحاب الدخل المحدود، ثم انخفاض حجم الطلب الكلي، وتالياً توطين الضغوط الانكماشية في الاقتصاد السوري.
تاريخ الإعفاءات والمراسيم الشهيرة
لكن متى بدأت الإعفاءات الضريبية في سوريا؟ ولأيِّ سبب؟ وهل تحاشى النظام الضريبي مراراً التوقف لدراسة نتائجها؟عام 1985 شرّع القرار رقم 186 الصادر عن المجلس الأعلى للسياحة إعفاء المنشآت السياحية من ضريبة الدخل لمدّة خمس سنوات، و50 في المئة من ضريبة الدخل طيلة حياة المشروع، لَحِقَهُ على عجل المرسوم التشريعي رقم 10 لعام 1986 الذي أجاز إحداث الشركات الزراعية المشتركة، وأسبغ عليها إعفاءاتٍ ضريبية لمدة سبع سنوات. ثم، وبموجب القانون رقم 19 الصادر عام 1990، جرى منح إعفاءاتٍ جمركية للسوريين المغتربين ممن يوّدون العودة لإقامة مشروعات استثمارية. الأكثر شهرةً في أسرّةِ الإعفاءات الضريبية كان قانون الاستثمار رقم 10 لعام 1991، حين صادق على إعفاءاتٍ ضريبية للمستثمرين لمدّة خمس سنوات، وإعفائهم بالكامل من الرسوم الجمركية عند تأسيس المشروع. كذلك لم يبخل القانون رقم 20 لعام 1991 بتخفيض الشرائح التصاعدية على ضريبة الدخل، بما فيها رسوم الإدارة المحلية. الأكثر سخاءً من بين تلك القوانين والمراسيم جميعاً كان المرسوم رقم 7 لعام 2000 بتخفيضه ضريبة الدخل للشركات المساهمة من 32 في المئة إلى 25 في المئة. سلسلة الإعفاءات تلك جعلت 60 في المئة من الدخل معفى من الضرائب. وذلك أوصل معدلات التضخم إلى 30 و40 في المئة بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي خلال عقد التسعينيات. وحتى الوقت الراهن، صارت ضريبة الدخل للشركات المساهمة التي طرحت نصف أسهمها على الاكتتاب العام 14 في المئة فقط، وضريبة الدخل على المصارف الخاصة وشركات التأمين 25 في المئة، في حين تم رفع ضريبة الدخل على الرواتب والأجور التي تزيد عن 75 ألف ليرة إلى 22 في المئة. لذا تشكل إيرادات ضريبة الأجور في سوريا 5 مليارات ليرة، وضريبة الدخل على الأرباح نحو 150 مليار ليرة. وهذا نسج نظاماً ضريبياً فصاميّاً عن المدخلات الحقيقية للنظام الاقتصادي، بعدما ثبًت أن أغلب تلك الاستثمارات لم تقدّم وفرّةً حقيقية في زيادة الإنتاج السلعي، كذلك لم تشغّل عمالةً كبيرة، مقارنةً بغنائم الإعفاء الضريبي التي حازتها.
للضريبة وظيفة الاقتصادية لا المالية فحسب
لا يجد وزير المالية السوري ضيراً من الإقرار بصعوبة إجراء إصلاح ضريبي حقيقي من دون نظام "فوترة" شفاف، ومن دون عدالة ضريبية تُحيق بجميع المكلّفين، ومن دون تطبيق الضريبة على القيمة المضافة. لكن ما يتعدّى امتداح صوابية ذلك الإقرار، هو حقيقة تشويه ضريبة الدخل المقطوع لكامل النظام الضريبي. التفكير الاقتصادي الجدّي ينصح بتحويلها إلى ضريبة أرباح حقيقية أو ضريبة موحدة قوامها الربح الحقيقي، وهذا ينجح مع تصنيف صحيحٍ للمكلفين ضريبياً. وباعتبار أن التشريع الضريبي الحالي يشمل أحكاماً إجرائية كثيرة ويفتقر إلى الوحدة في التشريع، توجب الانتقال إلى نظام ضريبي عادل لا يأخذ الضريبة إلا من الفائض الاقتصادي، مع حتمية تخفيض الإعفاءات الضريبية الحالية، والتي تعادل نصف الناتج المحلي الإجمالي أو تزيد، بالتزامن مع منح إعفاءات ضريبية تساوي الحد الأدنى للأجور تخصّ أصحاب الدخل المحدود. وهذا ينفع لدى التفكير باستعمال الضريبة كأداة لأجل خدمة السياسة الاقتصادية، فلا يقتصر دورها على الوظيفة المالية، بحيث يصبح الأجر أو الدخل الحقيقي هو معيار تحديد كل المطارح الخاضعة للضريبة، مع هجران أساليب التخمين. فنظام الضرائب النوعية المرعي حالياً لا يتناول جميع عناصر الدخل، لذا يبقى بعضها خارج إطار التكليف الضريبي، مثل الدخل الناتج عنالمضاربات في سوقي العقارات والسيارات. في سوريا ثمة فرعان لشجرة الضرائب، الأول يضم الضرائب المباشرة كضريبة دخل المهن والحرف الصناعية والتجارية وغير التجارية، وضريبة الرواتب والأجور، وضريبة ريع العقارات، وضريبة التركات والهبات والوصايا، ورسوم السيارات، ورسم الإنفاق الاستهلاكي... ولعل الضرائب على الدخل هي الأكثر أهمية بينها، إذ تُجبى من الأفراد والشركات، وتُفرض على أرباح المهن مثل الأرباح الناتجة عن ممارسة الحرف الصناعية والتجارية وغير التجارية، وقد حدد معدّلاتها القانون رقم 20 لعام 1991. ثم يضاف عليها المساهمة في دعم المجهود الحربي بنحو 30 في المئة، ورسم الإدارة المحلية 10 في المئة من الضريبة الأصلية. الفرع الثاني لشجرة الضرائب يضم تلك غير المباشرة، مثل الرسوم الجمركية، والضرائب المفروضة على التبغ والكحول والمواد المشتعلة، والرسوم المفروضة على الخدمات العامة، ورسم الطابع على المعاملات الحكومية. ويقارب وسطي حصيلة الضرائب غير المباشرة حوالي 65 في المئة من إجمالي الحصيلة الضريبية في سوريا، في حين أن الضرائب المباشرة تشكل 35 في المئة فقط. وهذا يدل على التشوّه القائم في النظام الضريبي.
بعض المحطات التاريخية
أولى التشريعات الضريبية المرعيّة في سوريا كانت مزيجاً من قوانين فرنسية وعثمانية. ومطرح ذلك في التاريخ يمتد بين العامين 1940 و1949. وانتهت تلك المرحلة بالانفصال النقدي بين سوريا ولبنان، وتالياً الانفصال الاقتصادي. عام 1949، صدر القانون رقم 85 وكان أدق وأكثر عدالة من كل القوانين اللاحقة له، لأنه استأنس بتحديد علمي لمصادرِ الدخل الحقيقية، والضرائب المفروضة عليها. ثم صدر المرسوم رقم 101 في عام 1952 الخاص بتنظيم ضريبة التركات والرسوم المفروضة على الهبات والإعانات. وفي العام 1967 صدر القانون رقم 96 وهو القانون المالي الأساسي للدولة، وتم تعديل قانون ضريبة الدخل للشركات العامة بحيث جعلها القانون ذات شخصية تجارية أو صناعية، ويتوجب عليها دفع الضرائب للدولة مثلها مثل شركات القطاع الخاص. في العام 2003، صدر القانون رقم 24 المتضمن تعديل الحد الأدنى المعفى من ضرائب الدخل ليصبح 5 آلاف ليرة. عام 2004 صدر المرسوم التشريعي رقم 61 الناظم للرسم على الإنفاق الاستهلاكي، وتضمن إعادة هيكلة العديد من الرسوم الضريبية، والمرسوم التشريعي رقم 44 لعام 2005 المتعلق باستيفاء رسم الطابع المالي. لكن من أكثر القوانين محاباة لتشوه النظام الضريبي كان القانون رقم 24 الصادر عام 2003 بعدما استبعد مهناً عديدة من التدقيق والفحص، مثل مهنة تجارة العقارات، والتعهدات، وحتى عمليات الاستيراد!
المحطات المعاصرة للنظام الضريبي في سوريا منذ انبعاث الإعفاءات الضريبية في الثمانينيات، وحتى أواسط العقد الماضي، وضَّبت على مهلٍ بنّيةً مرتّبة من التراكم الضريبي والتهرب ومن الفساد. ثم أضافت على هذه الوصفة الكثير من التشوّه في مدخلات الحصيلة الضريبية، وفي مظلوميّة التحصيل: ضرائبٌ أقل على الأغنياء وأكثر على الفقراء. وتضخم لا ينتهي.