تَجنّبَ المرشّح للانتخابات الرئاسية السورية بشار الأسد الخوض في أيّ برنامجٍ انتخابي لملاقاة مناصريه، كما غاب عن تفاصيل المشهد الإعلامي سواء الرسمي أم سواه. لقد ازدهرت حملته الانتخابية التي تملأ شوارع العاصمة، وباقي المدن السورية بمنتجٍ واحد تسوّقه عبارة «سوا»، وتحجز نفسها في اللوحات الإعلانية الأكبر والأكثر مشاهدة. اللوحات المتبقّية تركتها السلطة للمرشحَين الآخرَين ماهر الحجار وحسان النوري، والتقشّف في تجوالهما أو في غيابه بغرض ترويجِ برنامجيهما الانتخابيين هو اتجاه ملموس واقعياً على الأرض. هذا الغياب تم تعويضه جزئياً بجولات قليلة في القنوات الإعلامية التابعة للنظام، المرئية منها، والمطبوعة، أطلَّ من خلالها المرشحان، الأول ذو البرنامج اليساري ماهر الحجار، والآخر ذو البرنامج الليبرالي حسان النوري. التخلّص من الوقت يجري ترتيبه على هذا النحو ابتغاء لبلوغ يوم 3 حزيران/يونيو في صيغة تغذّي نظرياً اصطناع انتخاباتٍ رئاسية تعددية.
النجاة من الاستفتاء
أنجزت السلطة القائمة في سوريا بمفردها قانون الانتخابات العامة الجديد في آذار/مارس من هذا العام. لم يكن منتجاً توافقياً شاركت فيه المعارضة الداخلية على الأقل، كما لم يتأسس على مؤتمر وطني عام، أو استناداً الى دستورٍ جديد يعيد السلطة إلى الشعب، وينهي العنف الدائر في البلاد، ويضمن عودة اللاجئين، وينجز مصالحةً داخليةً شاملة. فقانون الانتخابات الجديد ليس منتجاً سلطويّاً فحسب، بل هو طريقةُ تفكير أقصت معارضة الخارج من المشاركة، وأحرجت معارضة الداخل، بل حملتها على المقاطعة. لقد ضمن القانون مخرجاً آمناً لسيولة السلطة مجدداً إن قورن بهامش القلق المحسوب في قانون الانتخابات السابق الذي تُقدّم فيه القيادة القطرية لحزب البعث مرشحها لرئاسة الجمهورية، ثم يصادق عليه مجلس الشعب «أوتوماتيكياً»، ثم يُطرح على الاستفتاء العام بنعم أو بلا. السلطة في سوريا لا تطيق المجازفة، وتتحاشاها ما أمكن. فقانون الانتخابات العامة الجديد حررها من أي مقدار من القلق المحتمل الذي قد ينجم عن تحشيد المعارضة الداخلية والخارجية للاستفتاء «بلا» على ترشّح بشار الأسد. لن تظهر شعارات المقاطعة حينها، وسيكون الاستفتاء لو تمّ على تلك الصورة خارج سيطرتها المطلقة التي تفضّل أن تأوي إليها على الدوام. كما إنها وحين تصوغ قانون انتخاباتٍ فيه تعددية المرشحين، لا مرشّحٌ واحد، فهي بذلك توهم بأن ديموقراطيةً قد بدأت للتو في سوريا، وأن قياس شعبية السلطة داخل الشارع الذي تسيطر عليه صار مكانه صندوق الاقتراع.
يسار ويمين السلطة
من بين تسعةِ مرشحين لمنصب الرئيس، استقرت المحكمة الدستورية العليا على ثلاثة فقط حصل كلٌّ منهم على تأييدٍ خطيّ مسبق من قبل 35 عضواً في مجلس الشعب السوري. هي انتخاباتٌ تجري في بيت السلطة وحده، إذ ما من مرشحين يمثلون الحراك الشعبي الذي بدأ عام 2011، أو حتى من رموز المعارضة السياسية، بالرغم من محاولات حثيثة بذلها المرشح ماهر الحجار وتبنّى فيها حقيقة قيام «ثورة» في سورية عام 2011، لا «مؤامرة». لقد نزّه في إطلالته من قناة الإخبارية السورية التابعة للسلطة كل حراك سياسي اجتماعي في سوريا من أن يكون طرفاً في مؤامرة، كما برر لمن استضعفته الدولة حَمْل السلاح بوجهها بعد «ثورة آذار/مارس عام 2011». غير أن ذلك لم يكن كافياً على ما يبدو لاستمالة الشارع السوري المعارض للنظام القائم، بعدما أعلنت «هيئة التنسيق» مقاطعتها الانتخابات التي اعتبرتها خطوة في تجميد العملية التفاوضية. كما يقاطع الانتخابات «تيار بناء الدولة» باعتبار أن نصف السوريين خارج البلاد، وكذلك يقاطعها «حزب الإرادة الشعبية» لأنها لم تأت نتيجةَ لحلٍّ سياسيّ نهائيّ للأزمة. وقد كان المرشح الحجار عضواً قيادياً في هذا الحزب، ودخل مجلس الشعب السوري عن مدينة حلب عام 2012 من قائمة (الوحدة الوطنية) التي ترأسها قدري جميل وقتذاك.
لكن لماذا البرنامجان الانتخابيان، اليساري والليبرالي، لانتخاباتٍ ترعاها السلطة في مناطق نفوذها، وتكون مرتّبةَ النتائج قبل حدوثها؟
يقول المرشح الحجار في برنامجه: «سأعمل على بناء نموذج اقتصادي اجتماعي جديد يستند إلى تحقيق أعلى نمو ممكن، وأعمق عدالة اجتماعية، ورفع عائدية رأس المال في الاقتصاد السوري بالاعتماد على مزاياه المطلقة، وزيادة فعالية وكفاءة المزايا النسبية له، والعمل على اعتماد أكبر تراكم ممكن في استثمارات الدولة، واعتماد خطة خمسية تستهدف معدلات نمو استثنائية قادرة على إنجاز إعادة الإعمار، وبناء اقتصاد مقاوم قادر على التصدي لمهام الدولة الوطنية والاجتماعية». ويقول المرشح النوري في برنامجه: «سأعتمد سياسة الاقتصاد الحر الذكي الذي يعطي المكونات الاقتصادية المختلفة الفرصة لتطبيق قوانين الاقتصاد الحر، وعلى الدولة ألا تتدخل في هذه الآلية إلا في الأزمات الاقتصادية، وإيجاد قوانين وتشريعات اقتصادية تتأقلم مع التشريعات الاقتصادية السائدة عالمياً، وذلك بصهر مؤسساتنا الاقتصادية بشكل يواكب العولمة الاقتصادية، والتطور التكنولوجي، ثم احتضانها بقوانين وتشريعات قادرة على التفاعل محليا وإقليميا ودولياً».
قد تكون السلطة من وراء كل ذلك تستدرج إلى الانتخابات من لا يريد انتخاب بشار الأسد، أو من يريد مقاطعة الانتخابات كليّاً فتضع بين يديه خيارين مختلفين في التوجّه ومُمْكِنَي التطبيق أيضاً، إذ يعنيها توسيع مظلة المشاركة الشعبية ما أمكن. حتى وإن كانت هذه الانتخابات تثبّت على الأرض أكثر خطوط التماس بين المناطق التي تسيطر عليها المعارضة، وتلك التي لا تزال تحت سيطرة السلطة، لتكون تالياً خطوطَ تقسيمٍ مناطقية تطيل أمد النزاع المسلّح، وترشّح مفاعيله لأن تكون حاضنةَ لشبح التقسيم النهائي. وهكذا، وقبل هذا الاحتمال المرعب، ووفق الانتخابات الحالية، فلن يكون الرئيس القادم رئيساً لكل السوريين.