في كل زيارة لي للأهل، يسألونني إذا ما كان العيش في هذه البلاد أفضل من الخارج، وأرد "هنا أفضل بكثير".
تجولت في بلاد الغرب منذ سن الثامنة عشرة، لم أترك مكانا في الغرب لم أزر مدنه وشوارعها الأنيقة والنظيفة، دخلت متاحفها وكنائسها التي تكدست بها التماثيل الذهبية. أطنان من الذهب ساحت لتصنع نقوشها وزخرفاتها.
أبدا لم يلتهب وجداني لمرأى الآثار المصرية فيها، أو الأقنعة الأفريقية الجميلة، أو الصلبان النادرة. حتى عندما وقفت أمام مذابح كنائس برشلونة العظيمة.. كنت أخجل من قصوري عن التأوه أمام جمالها، مثلما يتأوه آلاف السياح أمام هذا السحر.
كبرت قليلا وقرأت للكتَّاب العرب عن جمال الغرب، ونظامه المميز وديموقراطيته وحضارته وعصور التنوير والنور، وأبدا لم تهزني كلمات هؤلاء ولم ألتحق بقطيع المعجبين بكتابهم وفلاسفتهم. وأبدا لم أعرف السبب.
منذ يومين فقط كنتُ في يافا، جلست على شرفة بيت عربي قديم، كان بإمكاني سماع أمواج البحر، ووعدت نفسي بقضاء آخر نصف ساعة، قبل أن أركب غيوم السماء الى سويسرا، أهدهد روحي المضطربة، أمام الزبد الذي لا يذوب من لطمات البحر المتواصلة.
لكن عكر مزاجي مضيفي الأميركي، وسألني لماذا لم أترجم كتبي للغة الإنكليزية، لكي يقرأها من مثله من المتضامنين مع القضية الفلسطينية؟
أجبته بلؤم حائر بأنه ليست مهمتي تأريخ نفسي، أو الترويج لها، وإذا كنت أتقن اللغة الفرنسية والإنكليزية، فهذا لا يعني أن أقضي عمري بترجمة نفسي.
اليوم حضرني هذا الحديث المتبرم، بعدما قرأت وثيقة نادرة، للراهب برتولومي دي لاس كازاس، الذي ولد في قشتالة، بعد عام واحد من سقوط غرناطة، والذي رافق كريستوف كولومبوس في رحلته الثانية في اكتشاف بلاد الهنود الحمر.
وصف لاسُ كازاس مذابح الأسبان للهنود الذين سموهم حمرا، ووصف عمليات الإبادة لممالك الهنود. وصف إبادة مملكة "ماغوا" ومقتل ملكها "غوا يونر"، ووصف اغتصاب الإسبان لزوجته. سرد لنا فظاعة إبادة شعب مملكة "مارين" السعيدة وقتل ملكهم "غوكاناغاري" بعد تعذيب حاشيته، وذلك بعدما قدموا لهم المؤن والذهب.
حكى لنا "لاسُ كازاس" عن مشاهداته عن رعب الهنود من رؤية أحصنة الإسبان الغزاة وهي تعدو وتدوسهم بحوافرها، وكيف كان الإسبان يستدلون على الطرق من الجثث التي حرقها من سبقهم.
وصف لنا كيف كان الطغاة الإسبان يأكلون أكف الأطفال ثم يرمونهم الى أمهاتهم، ويقول الراهب: "أشهد أن الهنود كانوا أكثر طيبة من رهبان الأديرة، ولم يرتكبوا ذنبا واحدا ضد المسيحيين، بل رغم الفظاعة التي عانوا منها، لم يعرفوا الحقد أو الضغينة أو الانتقام". "عاشرتهم ولم أعرف فيهم العنف، بل عنفهم حين يظهر فيهم، فهو أشبه بعنف الأطفال في الثانية عشرة".
ويسرد الراهب "زحف الإسبان الى جزيرة كوبا العامرة بالبشر، وكان زعيمها "هوتوى" وضع سلة ذهب ورقص للذهب رب المسيحيين، ورماها في النهر، لكي لا يقتلوهم بسببه. وعندما عرفوا بذلك علقوه على المشنقة، وجاء راهب يدعوه للمسيحية قبل أن يموت لكي يدخل الجنة. فسأله "هاتوى" هل هناك مسيحيون في الجنة؟ قال الراهب: معظمهم هناك، عندها قال "هاتوى": "إنني أفضل دخول النار على ان ألتقي بكم في الجنة، أرسلني الى النار".
وهكذا وصف "لاسُ كازاس" إبادة الملايين من الهنود الحمر، وقال: "أقسم بأني لا أذكر إلا معشار معشار معشار ما جرى".
قشعريرتي ذكرتني بأنني لا أحب الغرب وما فيه، عندما تذكرت مستوطنا إسرائيليا متدينا، يقول لفلاح فلسطيني: "سأقبل أن تكون لي عبدا إذا ما أحسنت التصرف".
قال النبي زكريا عن هؤلاء الطغاة الذين يحمدون الله في صلواتهم "مبارك هو الرب. لقد صرنا أغنياء".