ألقت بي الصدفة في أحد الشوارع التي تراكض على "زفته" البالي جنود بكامل معداتهم القتالية، وراء أطفال أسلموا أجسادهم للريح وركضوا في أزقة تحدّها بيوت متلاصقة ببعضها البعض، تدعمها ألواح صفيح أحيانا أو جدران إسمنتية مصبوغة بشعارات عن الحرية وعصافير الجنة.
ثلاث نساء ركضن وراء أحد الجنود، وهنّ يصرخن ويمددن أيديهن إلى السماء. تعلق بثوب إحداهن طفل يزعق خائفاً، فالتفتت نحوه والتقطته رافعة إياه بيد واحدة، إلى أن استقرّ على خصرها، وتشبث بكتفها مستمراً بالزعيق، يشهق مع بعض الاطمئنان والشعور بالحماية. التفتت نحوه وضمت سبابتها مع إبهامها على أنفه وشدته وأزالت مخاطه، ونفضت يدها في الهواء.
لحقتُ بها في زقاق ضيق، وعينا الطفل تتفحصاني، ويبدو أن وجهي راق له، وصار يتنهد ويميل مزاجه وأصدر أصواتاً "دو..دو..با". أحست المرأة بانشغال ابنها، فالتفتت نحوي وسألت"إيش جابك لهون؟"، شفتيهم ولاد الكلب مطوقين الأمعري؟ وأخذوا ابن أخي وشباب من الحارة، تناولت بيدها باب حديد رمادي كالح، ودفعته بظهرها وقالت "ادخلي، لحين ما يخف الهجوم؟ عميان ما يفرقوا اليوم بين بنت وشب".
طشتا غسيل ما زالت رغوة الصابون فيهما. وضعت طفلها على الأرض وجلست إلى جانب سيدة أخرى، وبدأت تفرك في الغسيل وتعصره، وتنقله إلى طشت السيدة الأخرى.
سألتها السيدة الثانية:"شو صار يا فاطمة، أخذوا شباب كثير؟".
ساعات.. سقطت الشمس في مكان ما وراء أكداس البيوت، وجلست نجلاء على الفراش وقالت: "ستفرح أمي عندما تراكِ. منذ مدة لم يأت أحد لزيارتنا غير الجيران في مخيم الأمعري".
سمعنا أم نجلاء تقول لأحدهم: "مش رايحة أبيع خضرة باكر، لأنه أم محمود ابنها مريض وما طلعت على الحواكير. وبعدين مين قال راح يخلّونا نخشّ القدس؟". سمعنا صوت الحاجة يقول من باب مقابل "الله بعوّض. الله بعوّض".وتعلق نظرها في نقاط الماء التي تتساقط من الثياب. وأرخت نظرها حيث تتجمع المياه الساقطة في حفرة صغيرة في المصطبة، وترتج كمية المياه مع كل نقطة تخترق سطحها، وترمش الحاجة عند سقوط كل نقطة. وطارت ذبابة زرقاء. رمشت الحاجة وتفْتَفْت ثلاث مرات دون بصاق. ثم أمسكت بطرف ثوبها وأبعدته مع كل تفتفة وقالت: "يا ساتر يا رب تستر.. إن شاء الله خير، ذبانة زرقا، هذا شؤم. يا رب تحمي أولادنا، يا رب احميهم من شر الأعادي".
أرخى الليل ستائره. دخلت النسوة الغرفة وأضأن المصباح الكهربائي الوحيد المعلق بالسقف، وجلسن على الفراش وحشرت الصغيرة نجلاء نفسها بيني وبين أمها. آخر من دخل كانت الحاجّة التي نظرت إلى صورة أبو نجلاء على الحائط وحيته بيدها، وتمتمت بأشياء، وجلست مبسملة ومتعوذة من الشيطان الرجيم. ونظرت متفحصة الإناث أمامها. وقالت: "أعوذ بالله، هذه قعدة؟ بدون راجل في البيت؟ يا لطيف".
سكن الليل فجأة، ولعدة لحظات سكن أيضا شخير خديجة (المرأة التي لحقتها في الزقاق). وبعد صوت خطوات مسرعة من ناحية الطريق هدر صوت سيارة. قفزت نجلاء من جانبي وقالت: "سيارة جيش، عمتي عمتي". عمتها لم تكن في حاجة إلى النداء لتستيقظ، وقفت منتصبة، وركضت نحو الباب وقالت "اطفوا الضي.. اطفوا الضي". انطفأ الضوء، وسمعت في العتمة صوت الباب يفتح بهدوء. اقتربت الخطوات. توقفت عند الباب، وصوت إغلاق الباب مع لهاث سريع مرتفع، اقترب صوت السيارة العسكرية. سمعت صوت خديجة : "نجلاء ناوليني ثوب شاشة للرأس". انسل جسد نجلاء من جانبي كقطة، تعلقت عيناي بالظلام، وغطت ضربات قلبي على الهمسات التي تدور من حولي. وعاد جسد نجلاء واندس في خاصرتي، ثم سمعت حفيف ملابس. ثم صوت خديجة الآمر يهمس "مدوا الفراش، تمددوا". تمددنا جميعا تحت الأغطية، حاولت ألاّ أتنفس بصوت عال، إذ توقعت أن تأمرني خديجة بأن أقطع نفسي.
لبثنا على هذه الحالة لا أدري كم من الدقائق، أو الساعات. أصوات من الحارة تصطدم بأقدام كثيرة تركض في كل اتجاه، أصوات آمرة تعلوا: "إفته الأبواب"!
أطفال زعقت ونساء ولولت، أقدام على السطوح تتراكض بهدوء، قفزة في ساحة البيت، جعلتنا نجلس في الفراش مرة واحدة برغم أوامر خديجة الصارمة. أحسست بيد نجلاء تبحث عن يدي المرتجفة، صوتها الصغير يقول لي: "ما تخافيش".
خجلت من نجلاء ومنعت نفسي من احتضانها بين ذراعي لكي أثبت لها عدم خوفي، وأراحتني من التفكير عندما احتضنتني هي.
بقينا هكذا إلى أن اختفت الخطوات، وخفتت الأصوات الباكية، وأول من تحرك شبح خديجة ، وشبح آخر طويل خرجا من الباب.
سمعنا همساً بين عدة أشخص، أفلتت نجلاء من جانبي وانضمت إلى الهامسين، ثم تبعتها والدتها ، ثم الحاجة، وكنت آخرهن عندما سمعت نقراً خفيفاً على الباب الخارجي. فتحت خديجة الباب بهدوء ودخلت سيدة وسمعتها تسأل "ابني هون؟".
سمعت خديجة تسأل: "انقلعوا الجنود؟". ارتفع صوت خشن: "أنا هون، أخذوا شباب؟". ردت "أخذوا لشبعوا، سمعت عياط في بيت حسنية، أخذوا عامر يمكن"، صوت يقول: "لا عامر ما أخذوه، لكن أولاد خاله كلهم لمّوهم وراحوا، اسألي عن عامر عند أم حسن".
سمعت صوت الحاجة: "يا جماعة تفرقوا على بيوتكم، هالحين بتعلا أصواتكم بيعرفوا إنكم عنّا، كل واحدة تأخذ ابنها ويالله على بيوتكم"، ودون نقاش تحول الجميع نحو الباب، أما الشاب الذي اختبأ بيننا، فقد خلع الثوب وناوله لخديجة، ولحق بالنسوة وما أن كاد يغلق الباب، حتى ظهر شاب آخر من خلفي، لحق به وأغلقوا الباب.
صوت الحاجة: "خشّوا ناموت، لاحقات على الحكي بكرا يا نسوان".
مواضيع
ليلة مع النساء
مقالات من فلسطين
"آرت زون فلسطين" واستعادة الفنّ من الإبادة
يدخل هذا الجهد في باب مقاومة محو الأثر الفلسطيني، ومنه الأثر الفنّي والثقافي، الغني والغزير والمتجدد. ومهما بلغت نسبة ما ضاع من هذه الأعمال، فما بقي، ومَنْ بقي، يقول "نحن...
رحلة البحث عن رغيف
كُل صباح في الأيام الماضية، حينما أجوب الشوارع، لا أجدني سوى باحث عن الخُبز، وأنا حقيقةً لا أستوعب إلى الآن أن الحال وصلت بي - كما وصلت بكُل الناس- إلى...
خالدة جرار مسجونة في قبر!
"أنا أموت كل يوم، الزنزانة أشبه بصندوق صغير محكم الإغلاق، لا يدخله الهواء. لا يوجد في الزنزانة إلا دورة مياه ونافذة صغيرة فوقه أغلقوها بعد يوم من نقلي إلى هنا...
للكاتب نفسه
روح الأرض
"يسيل الماء إلى أعلى، بل يقفز من الوديان إلى رؤوس الجبال، ليحرم كلّ من سكن السهول من الماء.. يا رجل". هكذا تحدث الشيخ زوبعة لأحد خبراء الاقتصاد الذي رأى لأول...
عصير اللوز هو مَرامهم
جزء من تأريخ لمدينة القدس عبر قصص يتذكرها أهلها، تروي كل حجر وكل زقاق، وتروي أساليب السلب والاستيلاء الممارسة من قبل اسرائيل.
الأميرة الهاربة من الشرق وإليه
..تصف حياتها في الغرب، والعقلية الغربية والعادات. تتحدث عن صعوبة العيش مع الآخر الذي كوّن فكرة راسخة عن المجتمعات الشرقية، تعبر عن دهشتها لاستغلال عمال المناجم وفقرهم في اوروبا، وبالمقابل...