هذا صوت شرائح البطاطا المقلية، على الطريقة الغربية. يمضغها جاري في المقعد مع صديقته التي تعرّف عليها للتوّ. اختارها ليقضي ساعات السفر الطويلة.
حسناً... لديّ ما أقرأه على أية حال. لم يكن التركيز ممكناً مع كْرَنْشْ. فاختلسَت أذني الكلمات من دون إذن مني. طلع أخونا شاعر، برقة شرائح البطاطا: «أنا» كانت الكلمة الاولى له.
ثم: «أنا لا أتغير في الأمكنة أو في الأزمنة».
ثم: «أنا وروحي متشابهان».
أف! حسدته تقريباً على ثباته في المكان والزمان. ليتني مثله. أبداً، أنا أتغير في كل مقام ومكان. أسكت تماماً إذا كنت في العراق، خوفاً من ان أقابل شيعياً أو سنياً أو مسيحياً، قد يبطش بي. أتحدث بلكنة فرنسية في لبنان، لكي لا يكتشفوا فلسطينيتي.
وأخفض صوتي في عمان، لكي لا يسألني أحد وأنفضح بجواز سفري. وأرفع من صوتي في الجزائر، لكي لا يطلبوا لي ساندويشاً باللحم... وأخفي جريدتي العربية في جريدة لوموند في باريس.كْرَنْشْ.. كْرَنْشْ.. كْرَنْشْ.. تابع شاعرنا: «سيصدر لي ديوان شعر بعنوان أرواح مسافرة، وتطلبني صحف مهمة في لندن وفي بيروت والقاهرة، لديّ فكرة لفيلم عن حياتي ومسيرتي الثقافية». لم يكن ممكناً رؤية عينيه، حين لخص لها «بروفايله. ولم أتمكن من سماع السيدة بوضوح، إذْ قطع صوت كْرَنْشاته أوصال جملَها. هي من طبقة الـ NGO’s، المنظمات غير الحكومية.
تعمل على برنامج لتدريب الصحافيين السوريين في العراق، الى حين تهدأ الأحوال في سوريا ويتغير النظام، وتنْصب المنظمات خيامها في المكان.ممممممم... لقد بدأت جحافل الـ NGO بالاستعدادات اللازمة للاحتلال الجديد. وشرحَت السيدة لشاعرنا «بأنهم قد أدُّوا واجباتهم الإنسانية في العراق وفلسطين، وبات الرحيل ممكناً».
أذكر بأن عدد المنظمات غير الحكومية في العراق لم يكن يتجاوز الصفر، وارتفع إلى خمسة عشر ألف منظمة، بعد ثلاث سنوات فقط من بداية الاحتلال، العام 2003. وبلغ عدد المنظمات في فلسطين 1320 منظمة كانت تعمل تطوعاً قبل أوسلو، واليوم وصل العدد إلى 3400 منظمة. في فلسطين كما في العراق، اقتصر العمل في مثل هذه المنظمات على حفنة من المتحدثين باللغة الانجليزية، أو لمن كانت لهم علاقة مع صياد NGO ماهر.
وإلا فلن يكون بإمكان المرء بأن يقضي أيامه في المقاهي والمطاعم التي افتتحت على عجل في البيوت القديمة (على أساس انها «ستايلش»)، أو في البنايات الحديثة المزيّنة بالمرايا والصور التي تشي بخلفية ثقافية «راقية» لصاحبها العائد من أحد المنافي.
وللدخول إلى هذه المقاهي، على المرء أن يدفع ثمناً لقطعة «الكيش» (نوع من العجة الغربية على شكل كعكة) ما يوازي نصف راتب يوم لعامل المقهى نفسه. إلى سوريا إذاً، أو ليبيا... إلى هناك يا قوم، سنبذر الراتب الضخم، ونحتل الفنادق الفخمة، وننظر من النوافذ إلى الشعب الفقير الذي أتينا باسمه، للعمل على تطويره بحيث لا يغتصب شقيقاته او بناته من القهر.
كْرَنْشْ..كْرَنْشْ..كْرَنْشْ.. يتحدث أخونا الشاعر عن تخلفنا مستنكراً، وعن الحرب التي يخوضها ضد قوى الظلام في بلاده من المنافي الغربية، حيث وجد له زوجة بيضاء، ظنت أن الشمس تسكن على جلده، وهو بدوره اتخذ منها وسادة مؤقتة، ومعاً اقتنيا كلباً لا يعضّ.تبادلا قبلات الوداع، ثم نظر نحوي بعينين مسامحة لوجودي في هذا المكان. أشرت له بأن يزيل قطعة بطاطا عالقة على زاوية فمه.