الجنود يحرسون الحرب

"عندما غادرتُ البلاد.. كنتُ أضع الحرب في حقيبتي"... سلسلة نصوص تروي العراق اليوم بعيون شاب من مدينة الرمادي غرب البلاد، حين اضطر لمغادرتها مكرهاً.

حين تدخل إلى السوق القديم، تبتعد الحرب قليلاً ويصبح الشعور بها ضعيفاً، لأن الناس هنا كثيرون، وقريبون من بعضهم، وهنالك دائماً لغة، وتفاوض، وترويج. التأثير على الآخر بالحاجة والجودة لا بالقوة، الناس هنا جاؤوا يقضون حاجات العيش، يشترون أشياء للبقاء..
2021-06-04

ميزر كمال

كاتب وصحافي من العراق


شارك
محمد قاسمي - المغرب

الجنود يقفون عند البوابة، والحرب خلف هذه البوابة، هكذا تخيلت الأمر: الجنود يحرسون الحرب. إنها المرَّة اللا أدري كم في هذه الرحلة أُجيبُ على سؤالين محددين: من وين جاي؟ ووين رايح؟ لغة الجنود ضيقة، أو عدائية على الأغلب.

مدينة الرمادي ترحب بكم، لوحة رديئة على أنبوب حديد مائل، نابت على جانب الطريق الأيمن، ومزركش بالصدأ. لم يكن هنالك رصيف، يوجد أثر لرصيف كان هنا قديماً، أعني قبل عام 2003. لقد تغيرت ملامح المدينة كثيراً، وهكذا قرأت اللوحة: الحرب ترحب بكم.

من يزيل ذلك الجدار من رأسي؟

لا أدري إن كان هذا التشبيه مناسباً أم لا، لكنني هكذا أتخيل الانفجارات التي كانت تحدث هناك: قِدرٌ مغلق مليء بحبات الذُرة على نار عالية، الانفجارات في كل جهة بالمدينة، وكل جهة حتماً هي درب سيظل طويلاً يسقط عليه آلاف الضحايا، في حرب لن ننجو منها أبداً. قد ننجو بأجسادنا، لكن ماذا عن أرواحنا المشوهة الآن؟ ماذا عن ذاكرتنا التي تتعفن فيها جثث القتلى؟ وتتهدم فيها البيوت حتى هذه اللحظة؟ ماذا عن الكوابيس الليلية حد أن تخاف من النوم؟ ربما قد زالت آثار الحرب من المدينة أو ستزول، لكن من يزيل من رأسي ذلك الجدار الطيني المعلقة عليه سبع لافتات سود، تنعي أشخاصاً قتلوا دفعة واحدة في هذه الحرب؟ لا بدَّ أنهم كانوا أقرباء أو يسكنون في شارع واحد أو في بيت واحد.

ظلت تلك اللافتات معلقة أياماً طويلة، وأنا أمر من أمامها صباحاً ومساءً حين أذهب وأعود إلى البيت. إنني أمر من أمامها الآن، وأشعر بالخوف نفسه والرعشة نفسها من فكرة أنَّ أحداً سيمرُّ مثلي تماماً، ويقرأ لافتة موتي على جدار مثل هذا.

من يزيل من رأسي ذلك الشعور عندما أعبر مرتين يومياً من فوق عبوة ناسفة مزروعة في الطريق، لا أدري متى وعلى من ستنفجر، لكنني أرى أسلاكها ممتدة على الطريق، كأنها أصابع للموت. كنت أعبرها بالكثير من الدعاء وأذكار الطريق، وحين أمر من فوقها بالسيارة، أغمض عينيَّ للحظة. كل المشاهد الممكن حدوثها لو انفجرت عليَّ. سأصير أشلاءً واتناثر على الطريق، سيحترق وجهي ويتشوه، ستظل قطع مني لن يجدونها وهم يجمعون بقايا جسدي، ستأكل الكلاب ما بقي مني على هذه الأرض. وحين أعبرها وأفتح عيني، تسري رعشة خفيفة في عامودي الفقري، كانت إشارة على أنني نجوت.

ربما كان سبب تديني حينها هو الشعور الدائم بأن الموت قريب، وبالإمكان تحسسه في كل شيء بالمدينة. ولا يجعل هذا الشعور محتملاً سوى الإيمان، وفكرة الجزاء في حياة أخرى، لا حروب فيها.

كيف سأنجو؟ وهذه البلاد لم تقابلني إلا بالخوف، لقد ربتني عليه، حد أنني لم أعد أحتمل، وداست عليَّ بالقوة الكافية لأفقد أيَّ انتماء لأيِّ شيء، حتى لتلك الأشياء الصغيرة، كاللعب مع الأطفال في الشارع، أو تسلق نخلة الجيران مثل القرد. حتى هذه اللحظات لا أشعر بأي انتماء لها، لأنها ترتبط بأحداث قاسية أقلّها إنني كنتُ ألعب وأنا خائف من أن يراني أبي، أو يعود من العمل أو السوق ولا يجدني بالبيت. افتح له الباب واستقبله كما يستقبل العبد سيده، وخوفي هذا مرتبط بخوفي من حفلات "الفلقة" بشطب لينٍ أو عود الماسحة أو العقال إن كان مستعجلاً بغضبه. وهذه أشكال أخرى من الخوف، مررت بها بطيئاً بطيئاً حتى أتممتُ دورة التشوه.

عندما يكون لك "ظهر في الدولة" تمشي أمورك بسرعة. وهكذا خلال ساعة أو أقل جُددت الجنسية اللعينة، بعد وقوفنا على شباك خاص، بعيد عن تلك الحشود التي تتكدس على شباك آخر، حشود من الناس ترفع "فايلاتها" مثلما ترفع الأم طفلها من الغرق، ينتظرون تحت أشعة الشمس وتفوح منهم رائحة الانتظار ويتصببون عرقاً من التذمر.

ربما كان سبب تديني حينها هو الشعور الدائم بأن الموت قريب، وبالإمكان تحسسه في كل شيء بالمدينة. ولا يجعل هذا الشعور محتملاً سوى الإيمان، وفكرة الجزاء في حياة أخرى، لا حروب فيها.

في الرمادي كانت هناك سينما. الآن، هناك شارع اسمه: السينما. أما السينما فقد اختفت، لم يكن ذلك منذ زمن بعيد، لكن التحولات كانت سريعة جداً. الحصار على رأسها، والحملة الإيمانية وصعود التيار السلفي في المدينة بداية التسعينيات الفائتة، وهنالك في شارع السينما تقع المدرسة التي ذهبتُ إليها مع حيدر لأحتفي بذكرى طردي من مسابقة للشعر على مستوى المحافظة.

محاولة أولى فاشلة

في الثاني متوسط أحسستُ أن لي رغبة بكتابة الشعر، بدأ ذلك عندما أدركتُ أنني أحب قراءته وسماعه، وكنت أحب درس اللغة العربية، وأحب حين يكون الواجب حفظ قصيدة. كنت أحفظها كلها ولا التزم حين يكون هناك تحديد لحفظ عدد معين من الأبيات. كنت في الامتحانات أكتب القصيدة كلها، لأظهر للمصحح براعتي في الدرس، وأضمن العلامة الكاملة، وكنت حين يكون الامتحان شفهياً أقرأ زيادة عن المقرر. وأتذكر كيف أن أستاذ عُبيد مدرس اللغة العربية كان يثني عليَّ كثيراً عندما أقرأ الشعر، ويقول لبقية الطلبة: تعلموا من ميزر كيف تقرؤون الشعر، يعرف أين يتوقف ويعطي للشعر حقه.

بعد سنة كتبتُ قصيدة، كانت عن عيد المعلم، كنتُ مزهواً بها، وأخذتها إلى الأستاذ يوسف، مدرس اللغة العربية في الثالث متوسط، لتنقيحها! كنتُ واثقاً من نفسي حينها، وبالفعل نقحها أستاذ يوسف وحرك حروفها بالأزرق، وأثنى على القصيدة أيما ثناء. لم أكن بحاجة إلى هذه الثقة الزائدة بالنفس، كانت الثقة وحدها مشكلة، وشاركتُ بتشجيع من الإدارة والأستاذ يوسف في مسابقة الأنبار الشعرية على مستوى المدارس المتوسطة، في "مدرسة 17 تموز" بشارع السينما، وذهبتُ بمعية صديقي الكردي، محيي الدين. كنت حينها أدرس في متوسطة الهجرة المختلطة، وهي خاصة للاجئين الأكراد الذين نزحوا بداية الثمانينيات من القرن العشرين إلى مدينة الرمادي من مدينة كرمنشاه والمناطق الحدودية بين العراق وإيران خلال الحرب التي استمرت ثمان سنوات.

بعد انتظار دخلتُ إلى غرفة اللجنة، كانوا ثلاث معلمين، كبار في السن، ولهم لحى، وهذا يعني أن معرفتهم باللغة لن تكون سيئة، لأن المتدينين كانوا سابقاً يهتمون بشأن اللغة العربية. لم أكد ابدأ بالبيت الثالث واثقاً من نفسي حتى قاطعني ثالثهم: منو كاتبلك القصيدة؟ أجبت: أنا. فقال: روح بابا اطلع برا.

خرجتُ أبكي ومحيي يصرّ إنها قصيدة رائعة وأن اللجنة "زمايل" (حمير) لا يعرفون الشعر، ثم رأيت كثيراً من المتسابقين في الممر يقرأون قصائد لحافظ إبراهيم وأحمد شوقي لتقديمها إلى لجنة التحكيم. كانت المسابقة لقراءة الشعر وليس لكتابته كما كنتُ أنا أحاول، لكنهم طردوني بطريقة قاسية. ما ضر ذلك المعلم لو كان لطيفاً معي؟ بالتأكيد سيكون ذلك رائعاً وقد يغير شيئاً. لقد تلقينا التعليم كله بطريقة قاسية في جميع المراحل الدراسية، وما زالت آثار ذاك التعليم ولن تزول.

اكتشفتُ فيما بعد أن الأستاذ يوسف أجهل مني باللغة وبحور الشعر، مع أنه كان يحكي لنا كيف أجبره الفقر خلال الحصار على بيع طبعة قديمة لألفية ابن مالك التي يحفظها عن ظهر قلب! ذلك الوغد، استطاع أن يجعلنا نصدق ونتعاطف معه حين يحكي وتفيض عيناه بالدموع، ولم يكن بحاجة أبداً إلى قراءة ولو بيت واحد من تلك الألفية طوال السنة الدراسية!

أعود بانتظام إلى مشاهدة الصورة التي كنت في لحظتها أقرأ تلك القصيدة خلال اصطفاف مدرسي قبل أسبوع من المسابقة، ويظهر خلفي سرب المدرسين ومنهم الأستاذ يوسف الذي يظهر جزء منه فقط. حتى في الصور يتقن فن الخداع.

ليس لدينا فرع آخر

وقفت على باب المدرسة منكّساً إبهامي الأيمن، وأضحك على تلك اللحظة، والتقطتُ صورة عن ذكرى سيئة أخرى. ثم ذهبنا إلى "ليس لدينا فرع آخر"، ذلك المكان الذي ارتاده دائماً، المشهور بتقديم العصائر الطازجة، وعصيري: نُومي بصرة وتمر هند. لديه طريقة سحرية تجعل في العصير لذة الخمر.

قبل بداية سوق الخضروات في منتصف شارع السينما، وقريباً من حائط مليء بثقوب الرصاص كأنه كان ميداناً للرماية، يقف شاب طويل ونحيل، خلف عربة قديمة متوسطة الحجم، لا يتوقف عن الحركة وتقديم العصير للزبائن. أسمّي تلك العربة "ليس لدينا فرع آخر"، لأنَّ بائع العصير كتبَ على ذلك الحائط هذه العبارة، بعد أن انتشرت في المدينة عدة عربات بالتصميم نفسه يدّعي أصحابها أنهم الفروع الأخرى لعربة شارع السينما. لكن هيهات. لا أحد يتقن تحويل عصير النومي بصرة إلى نبيذ مثلما يحدث في تلك العربة.

عندما يكون لك "ظهر في الدولة" تمشي أمورك بسرعة. وهكذا خلال ساعة أو أقل جُددت الجنسية اللعينة، بعد وقوفنا على شباك خاصـ بعيد عن تلك الحشود التي تتكدس على شباك آخر

ثم يُعتقد في مدينة الرمادي أن الله يحب هذه العربة وصاحبها، وأنه شخص مرزوق، ومبارك أيضاً، والسبب يعود إلى فترة قتال الشوارع الذي كان يحدث بين تنظيم القاعدة والجيش الأمريكي. ففي إحدى تلك المعارك بشارع السينما - وهي معارك تندلع فجأة - أطلق الجيش الأمريكي باتجاه العربة رصاص الدوم دوم، وهو سلاح يُعرف عند السكان المحليين بـ"الدَمْدَم" وهو كذلك أيضاً في المصطلح العسكري والعلمي (Dum-Dum Bullets). هذا السلاح يطلق رصاصاً ينفجر في الجسد، ويتحول إلى شظايا، فتكون إصابته قاتلة، وهو محرماً دولياً وفق معاهدة لاهاي عام 1899 الخاصة باحترام قوانين وأعراف الحروب البرية. لكن، من يحترم قوانين وأعراف الحرب في الرمادي؟ الجيش الأمريكي؟ أم تنظيم القاعدة؟ إنها مسألة مضحكة.

اختبأ بائع العصير خلف العربة فنجا، وأُصيبت العربة بثلاث رصاصات فقط، بينما تحول الجدار خلفها إلى "منخل" كما يقول أهل الرمادي. لقد تحول الجدار إلى غربال، وكُتب لبائع العصير والعربة حياة أخرى.

بعد استراحة العصير تلك، والضحك من استذكار المعجزات التي أنجتنا من مواقف موت محقق، دخلنا إلى السوق القديم. الرمادي مدينة قديمة جداً، ويعرف ذلك من سبب تسميتها. إنها مدينة ولدت من الرماد، وهذا ليس تصويراً شعرياً أو أسطورياً، إنها بالفعل كذلك. فقد كانت القوافل الذاهبة والآيبة بين بلاد الرافدين وبلاد الشام تستقر على تلٍّ عالٍ سمي "تل الرماد" لأن أرضه تشكلت من رماد النار التي تشعلها القوافل عندما تستقر هناك قليلاً من الوقت.

من يزيل من رأسي ذلك الشعور عندما أعبر مرتين يومياً من فوق عبوة ناسفة مزروعة في الطريق، لا أدري متى وعلى من ستنفجر، لكنني أرى أسلاكها ممتدة على الطريق، كأنها أصابع للموت. كنت أعبرها بالكثير من الدعاء وأذكار الطريق، وحين أمر من فوقها بالسيارة، أغمض عينيَّ للحظة.

هنالك رواية أخرى عن الرمادي، وهي أن الشيخ الصوفي زكريا الرمادي، نزح من مدينة رمادة في المغرب، وسكن على ذلك التل. والشيخ زكريا كان أحد الأولياء والرجال الصالحين، فسمَّى الناس المدينة تبركاً باسمه، وتيمناً به، لأن أهل الرمادي يحبون الأولياء. والصحيح في هذه الرواية أن الناس هناك يحبون الأولياء بالفعل.

إذا اختفى الصالحون من مدينة، فلتنتظر الخراب

وأنا أدخل السوق القديم، تذكرتُ عندما كنت أدخله ذاهباً إلى المكتبة، بدشداشتي الفضفاضة وكتبي ورأسي الحليق تتزحلق عليه "عرقجين" (طاقية) رمادية اللون، طوال الوقت كانت مائلة. وهي الطاقية التي يضعها المتدينون على رؤوسهم، مثل تلك التي يضعها اليهود على رؤوسهم، لكنها تختلف بالحجم واللون، فالعرقجين أوسع وتغطي معظم فروة الرأس، وكان المتصوفة يضعونها من دون العمامة السُنية التي تكون كبيرة وظاهرة.

 ولم نكن نحب ذلك، فإن حب الظهور من أمراض القلوب، وعلينا دائماً ألا نُرى، ولا نرى أنفسنا شيئاً. نعمل الخير فقط، وننسى أننا فعلناه. هكذا فقط يمكن استشعار النقاء في الحياة، والوصول إلى مرتبة الإحسان العظمى، التي تجعل الوجود كله مسخّر بين يديك وفي قلبك وعقلك. وتعرف أنك وصلت عندما تجري بين يديك الكرامات، وتتستر عليها مثل سر عظيم، لأنَّ الكرامات هي سر الصوفي الأعظم في رحلة الكشف والمحبة الإلهية. وعلينا أيضاً أن نجاهد شرور النفس حتى الموت، فهذا هو الجهاد الأكبر بالنسبة لنا، أعني نحن جماعة المكتبة، التي كان أمينها الشيخ خليل إبراهيم نده الكبيسي، الوليُّ الذي أوقد ناراً في رأسي لن تنطفئ، ورحل.

تذكرت العطر الذي كنتُ أضعه حينها، أنبوبة صغيرة، بحجم إبهام اليد، يخلط فيها العطَّار السوداني مزيجاً دهنياً رائحته هادئة، وطيبة، وتستدعي الخشوع في الأرجاء، ثم تذكرت نهاية الشارع المؤدي إلى المكتبة، حيث كان يقف ذلك العطار، وتلك الروائح التي تملأ المكان، وتحوّله إلى محراب كبير، تشعر فيه بالخشوع والإجلال، حتى وإن كان مكتظاً بالباعة والحمَّالين والناس، والصخب. فكما يقول المثل الإيراني: "كلٌّ يذهب حاجّاً إلى مكة على طريقته". كنت أذهب إلى المكتبة على طريقتي.

كانت أمي، كلما ذهبت إلى السوق، تجلس عند إحدى تلك العجائز، وتبتاع منها عود شجرة الجوز، أو الديرم، الذي يستخدم بديلاً عن أحمر الشفاه المصنع، فالديرم في ثقافة المرأة العراقية القديمة، يجعل حمرة الشفاه تبدو طبيعية، مع رائحة مميزة للفم، وهي إحدى علامات الجمال عند النساء.

العطار السوداني كان يتردد على المكتبة أيضاً، يرتدي دائماً غترةً بيضاء يسدلها على رأسه مثلما يفعل القديسون، ودشداشة بيضاء أيضاً، وفي يده دائماً مسبحة طويلة. يجلس وقتاً قصيراً مع الشيخ خليل، يتبادلان الصمت وبعض الأذكار الإسلامية مثل: لا إله إلا الله، سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم، يا رب الخلق... وغيرها من العبارات التي كانت تشبه فواصل لوقت هو يشبه التأمل والخشوع. شعرت بذلك عندما جلست معهم في مرات قليلة. ثم ينهض العطار ويودعه الشيخ خليل باحتفاء يدل على مكانته عنده، ومرة أخبرني الشيخ أن هذا العطار رجلٌ صالح.

مررت بالمكان الذي كان يقف فيه العطار السوداني، فلم أجده، ولم أجد الرائحة، وتذكرت قول حجي سعدي، أحد الدراويش السائحين الذين كانوا يترددون على المكتبة دائماً، كان يقول: "إذا اختفى الصالحون من مدينة، فلتنتظر الخراب". تذكرت وجوهاً اختفت، فشعرت بالخوف، وغيرت الطريق.

الرائحة والسوق القديم

تهنا في درابين (أزقة) السوق القديم، روائح الأقمشة والأحذية تمتزج بروائح البهارات والطرشي (المخللات)، وأعواد البخور وأحجاره التي تعرضها بعض العجائز، اللاتي يفترشن الأرصفة، ويضعن أغراضهن في صرَّة من القماش، ويجتذبن النساء المؤمنات بالطبيعة. وكانت أمي واحدة منهن، كلما ذهبت إلى السوق، تجلس عند إحدى تلك العجائز، وتبتاع منها عود شجرة الجوز، أو الديرم، الذي يستخدم بديلاً عن أحمر الشفاه المصنع، فالديرم في ثقافة المرأة العراقية القديمة، يجعل حمرة الشفاه تبدو طبيعية، مع رائحة مميزة للفم، وهي إحدى علامات الجمال عند النساء. وتشتري منها أيضاً أعواد البخور، وحبة الحلوة والهيل والحناء، وعلك المي، المستخلص من شجرة المستكة. وكذلك تأخذ منها استشارات عن الحمل ومراحله وآلامه، وأحياناً تفسر لها حلماً ما. فأُمّي تؤمن بهؤلاء العجائز، اللاتي يبدون بعباءاتهن السود وتكورهنَّ على أنفسهن مثل الساحرات على قارعة الطريق. كنت أتخيل الواحدة منهن عندما تنهض تتحول إلى سرب من الغربان، وتطير بعيداً.

كذلك هنالك العطارون في كل زقاق، ويندر أن تجد دكاناً لبيع الأعشاب وأدويتها خالٍ من الناس، فالإيمان بين أهل المدينة بالأعشاب راسخ جداً، ويُسمى الطب النبوي، لأن النبي محمد كان يتداوى بالأعشاب حسب ما هو رائج هناك. لذا تجد أكثر رجال الدين والشيوخ في مدينة الرمادي يحترفون العطارة.

شربنا الشاي في دكان صغير جداً، بالأحرى هو شق في جدار، ضيق جداً، لكنَّ الحاج "أبو محمد المشهداني" عرف كيف يستغله ببيع الشاي للمارة ولأصحاب المحلات وعيادات الأطباء الخاصة، وصنع سندويش الفلافل للجائعين في السوق. فمن يبحث عن طعام جيد ورخيص، يذهب إلى "كافتريا أبو محمد المشهداني" كما أن لديه خدمة التوصيل المجاني للأزقة المجاروة، فرقم الهاتف مكتوب بخط اليد واللون الأسود على الجدار في مدخل الكافتريا.

الصباح وداع آخر

حين تدخل إلى السوق القديم، تبتعد الحرب قليلاً ويصبح الشعور بها ضعيفاً، لأن الناس هنا كثيرون، وقريبون من بعضهم، وهنالك دائماً لغة، وتفاوض، وترويج. التأثير على الآخر بالحاجة والجودة لا بالقوة، الناس هنا جاؤوا يقضون حاجات العيش، يشترون أشياء للبقاء، لكن تستطيع رؤية الخوف في الوجوه، لأن الجميع سيذهب إلى بيته ولا يدري ماذا سيحدث في الأيام القادمة.

مررت بالمكان الذي كان يقف فيه العطار السوداني، فلم أجده، ولم أجد الرائحة، وتذكرت قول حجي سعدي، أحد الدراويش السائحين الذين كانوا يترددون على المكتبة دائماً، كان يقول: "إذا اختفى الصالحون من مدينة، فلتنتظر الخراب". تذكرت وجوهاً اختفت، فشعرت بالخوف، وغيرت الطريق.

الحرب تصبح أكثر وحشية كل يوم، وتنظيم داعش مستميت على أخذ المدينة، والقوات الأمنية مفككة ومنهزمة، ومن يقاتل بالفعل هم أبناء المدينة في التشكيلات الكثيرة لوزارتي الدفاع والداخلية. التنظيم استطاع قتل قائد شرطة الأنبار، اللواء أحمد الصداك، وهو عسكري مخضرم في المؤسسة العسكرية قبل احتلال العراق، قتله خلال معركة قادها اللواء أحمد لصد هجوم للتنظيم على المدينة. وهذا الأمر أصاب أهل المدينة بالإحباط الشديد، وتوقع السقوط الوشيك في قبضة التنظيم، لذا فالكثير من أهلها رحلوا بشكل جماعات يومياً.

ليلة أخرى، هي الأخيرة في الرمادي، عائلة حيدر مثل أهلي بالفعل، دافئون وكرماء، ومنزلهم جميل جداً. خالتي أم حيدر أعطتني من الطرشي الذي تصعنه هي. كنتُ مدمناً عليه، وحيدر أعطاني 136 ألف دينار، أو أكثر ربما، وهذا المبلغ يساوي مئة وبضع دولارات، وهو مبلغ كبير لشخص مثلي بدأ ينفد ما عنده من مال، وبحاجة إلى مواصلة الهروب، كذلك أعطتني سوما وحنوشة، شقيقتا حيدر الصغيرتان، هدية فيها صورة لهما، وعلبة فيها أقلام أنيقة جداً، وكتبن على خلفية الصورة: نحبك.

الصباح وداع آخر، ودموع أخرى، وبداية لطريق طويل، صرتُ أعرفه وأدري عند أي نقطة تفتيش سأُشتم، وأعامل مثل حيوان، أو أيّ شيء بلا قيمة، طريقٌ كل خطوة فيه قد تكون ا الأخيرة نحو النهاية، نحو الموت أو الاختفاء. 

الحلقة الأولى
الحلقة الثالثة

مقالات من العراق

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...

للكاتب نفسه

تعبانة.. عن صحة العراق النفسية

ميزر كمال 2024-06-27

لا يتجاوز إنفاق العراق على الصحة النفسية نسبة 2 في المئة من ميزانية القطاع الصحي، الذي بدوره لا تتجاوز نسبة مخصصاته في الموازنة حاجز 5 في المئة من الموازنة الثلاثية...

التعليم في العراق: منحنيات الانهيار

ميزر كمال 2023-12-06

انهيار قطاع التعليم الحكومي، وتفشي الفساد في المؤسسة التربوية، وانتقال وزارة التربية من حزب إلى حزب باعتبارها واحدة من القسائم الانتخابية التي تخضع للمحاصصة الطائفية وفقاً للنظام العراقي بعد 2003،...

أنا كل هذه الوجوه الميتة

ميزر كمال 2023-08-11

الأرقام تقول إن 200 ألف مدني قُتلوا في تلك الحرب، ومثلهم من الجنود، أبناء هؤلاء المدنيين. لكن لا أحد يحصي أعداد الخائفين في أوقات الحرب، الذين نجوا من الموت لكنهم...