لم تكن عائلة الشاب نور الدين تعرف يوماً أنها ستكون على موعد مراجعات شاقة في مستشفى ابن رشد للأمراض النفسية في بغداد، حيث سيعالج ابنها ذو الستة وعشرين عاماً من عاصفة الجنون التي ربضت بأثقالها فوق رأسه بشكل مفاجئ. هول الصدمة أصاب العائلة بضرب من الهيستيريا، وقادها ذلك إلى الترحال المضني إلى أضرحة الأولياء وأهل الكرامات لطلب معجزة الشفاء العاجل قبل أن تُجرَّب المستشفى. وحين لم ينفع كل شيء، توسّلت الغجر وعيادات تدّعي القدرة على اجتراع العجائب، وكائنات غامضة في طول البلاد وعرضها، تبتزّ المنكوبين وهي تحلب منهم الأموال القاصمة للظهر وتعطيهم زخرف القول والأوهام وسط السفر الخاسر بحثاً عن عشبة الشفاء، ومن أجل استرداد نور الدين من غيابه الحاضر، ومن غابة الهلوسات البعيدة.
الرقاد
ما الحل؟ تردد السؤال حتى صدئت به يوميات العائلة. أشار المقرّبون بعرض الحالة على مستشفى الأمراض النفسية في بغداد، التي تقع في شارع النضال.
دكتور سيروان كردي من مدينة أربيل الذي كان يرأس إدارة المستشفى أيامئذ في نهاية التسعينيات أشرف على حالة نور الدين. وتعاطف معه وبذل قصارى جهده. فمريضه حاصل على شهادة الماجستير في تفسير القرآن، أما غالبية المرضى فهم إما جنود أو كسبة أو نساء ريفيات معنفات لم يحصلن على فرصة التعليم أو مراهقون أو عاطلون عن العمل أو حتى سُجناء. في نهاية التسعينيات البغدادية، كانت يوميات الناس مظلمة والعيش مزرٍ، حيث لا يعرف العروس إلاّ أمّها والماشطة كما يقول المثل!
ولشحة وجود الدواء في المستشفى أو الصيدليات التجارية، كان الدكتور سيروان يصف قائمة مهدّئات. وأما العلاج فهو إبرٌ وعقاقير ينصح باستجلابها من الأردن أو من ألمانيا. ولكن المريض راح، لقلة ذات اليد، يلتهم المهدئات تلو المهدئات ويقترن ذلك بجلسات الصعق الكهربائي المتكررة. كان نور الدين أشبه بجاك نيكلسون في فيلم "طائر فوق عش الواق واق". ولكن، وكالعادة، فالواقع لا تُفلمنُه السينما بحذافيره. وعلى عائلة نور الدين أن تواجه اكتمال الواقع الصعب والمؤلم بكلّ مخالبه.
عندما كتب دكتور سيروان برقاد المريض في المستشفى، كان ليل الغرفة مخصصاً لنوم المريض لأن جلسات الصعق الكهربائي تهدّ قواه في النهار. يخالط ذلك تقديم وجبات الطعام الخفيفة من الشوربة والعصائر، مع حفنة المهدئات إياها.
ومثلما يتم مسخ السجناء والجنود إلى أرقام بدلاً من الأسماء كان الاسم الجديد لنور الدين هو "كَلوزابين"، وهو اسم أحد أدوية المهدئات النفسية. يقول عنه الدكتور سيروان إنه يُعدّ من مهدّئات الأعصاب الكبرى، أنتج نهاية أربعينيات القرن العشرين وولدت منه سلالة المهدئات من مضادات الذهان، ومخصص للتحكم بحالة اضطراب التفكير واضطراب المزاج ثنائي القطب.
لكن الاسم العملي لهذين الاضطرابين يعني النطق بالأوهام والهلوسات ونوبات غضب مميتة واستخدام أيّ شيء على مسرح الإيذاء، وهو مسرح جريمة قد يقوم بها مجنون وتعفو عنه شرائع السماء والأرض!
العودات إلى الصفر
في بداية العام 2000 قال دكتور سيروان إن المريض "كَلوزابين" ما زال في مرحلة الذهان الخطر. ولتكثيف الإشراف على تطور حالته نصح بمراجعة عيادته الخارجية في ساحة بيروت، وهي رأس شارع فلسطين في بغداد. وقد تمّ عمل جدول مراجعات من رقاد المستشفى إلى العيادة. وعلى هذا المنوال كرّت سبحة الأيام. تكررت دورة الزمن تلك حتى منتصف العام 2006. الدكتور سيروان يغادر العراق ويترك رسالة بأنه ترك العمل بالمستشفى والعيادة والوزارة وذهب إلى سويسرا بسبب اشتداد حمّى العنف الطائفي في شوارع بغداد وظهور سلسلة جرائم تستهدف الكفاءات والعقول وعيادات الأطباء. وعمّ الجنون أيضاً في كل مكان خارج المستشفى والعيادة ونظارات الأطباء الخائفين على حياتهم.
تسلم الدكتور صلاح تلميذ دكتور سيروان الإشراف على المريض "كَلوزابين". دقق في قوائم المهدئات وزمن الرقاد وجلسات الصعق الكهربائي واستأنف جلسات التعرف من جديد على المريض. في حومة تلك الأحداث، كانت حالة المريض قد عادت إلى الصفر. أوهام وهلوسات واضطراب وصل إلى أشده فصارت عملية الإتيان بالمريض وإجباره على أخذ العلاج تحتاج الى ثلاثة رجال ميسوري اللحم والعظم وممرضة تكون مهمتها دفع العقاقير بالملعقة في فم السيد كَلوزابين.
تخلخلت العناية بالمرضى داخل المستشفى، وتمّ نصح بعض ذوي الراقدين بمغادرتها. فعلت ذلك عائلة المريض واقتصرت المراجعات على عيادة الدكتور سيروان المهاجر، حيث يشتغل الدكتور صلاح التلميذ.
لم يدم الأمر طويلاً حتى سلّم الدكتور صلاح بطاقات مرضاه إلى الدكتور عامر لأنّ الأول ترك العيادة لإكمال دراسته مغادراً البلاد أيضاً، كما تقول التخمينات.
عاد المريض مع الدكتور الثالث المشرف على حالته إلى مرحلة الصفر الثانية. وتأبّدَ الذهان الخطر معه، ورضيت العائلة بالنصيب.
بلغ المريض كَلوزابين اليوم الأربعين. يعيش مع المهدئات والأوهام والهلوسات التي تتسلق رأسه وتجلس القرفصاء وتضحك من القلب على طرق السفر، وجلسات الصعق الكهربائي، وأدعية الشفاء، وجدول الممرضات المسائي، والنقود الخائبة، وموجات العنف الطائفي التي تضرب البلاد المريضة أيضاً كنوع من اضطرابات ثنائية القطب قد تحتاج يوماً إلى جرعة كَلوزابين والرقاد في مستشفى الشماعية أو إبن رشد للأمراض النفسية.
الهلوسات
كان المريض نور الدين / كَلوزابين قد أكمل تخرجه من مرحلة الدراسة الثانوية – الفرع العلمي بمعدل ضعيف. ولغرض النجاة من السَوق إلى الخدمة العسكرية، كانت الجامعات الدينية في البلاد تستقبل المعدلات الضعيفة عن طريق الرشى أو الواسطة. وكانت الرشوة هي الحالة المتاحة لنور الدين. صار طالباً في جامعة صدام للعلوم الإسلامية في شارع السعدون التي انتقلت بعد ذلك الى الأعظمية. بزّ أقرانه متفوقاً وحاز على البكالوريوس في الفقه المُقارن. أيام الصحو كان نور الدين يقول: سأتفوق على الطلبة العرب والماليزيين والأفغان والبعض ممن يسخرون من معدّلي الضعيف. وخلال الدراسة جعل البيت حلقة يُدرّس فيها زملاءه الطلبة المعممين النحو والصرف والتفسير وأبواب الفقه. حاز على المركز الأول في التخرج وتم قبوله في مقعد دراسة الماجستير في تخصص التفسير. وقبل دخوله الماجستير التحق بالخدمة العسكرية – مركز تدريب لمدة 45 يوماً وفق القانون أيامئذ. أكمل مدة التدريب وأكمل رسالته وهي تحقيق مخطوطة "تفسير الكوّاشي" وحصل على مرتبة الامتياز فيها وهي موجودة الآن في مكتبة الجامعات الرسمية.
فرحت به العائلة عندما ذكر لأبيه أنه بحاجة إلى الذهاب إلى حلقات الدراويش في مرقد الشيخ عبد القادر الكَيلاني. حتى قال مرة: لقد تعلمت الطريقة القادرية في التصوف والدروشة ونقر الدفوف. زاد رواحه إلى هناك حتى طالت لحيته وبدأ ينطق عن أوهام: أنا العَتاقيّ المُفسر. والعتاقي هذا أحد مفسري القرآن يقع مرقده في قرية جنوب مدينة بابل وتسمى القرية على اسمه. ثم اشتدت نرجسية الدرويش والصوفي والمفسر لديه حتى أسلمته لمرحلة الذهان. الذهان الخطر كما قال الدكتور سيروان. يمضي نور الدين وهو يقول في البيت والشوارع الآن: العتاقيّ المُفسر جاءني في صباح بعيد أسلمني الراية وقال: أنت العتاقي المُفسر!
يقول الأطباء: إن صدمة المرض تلقاها أثناء دخوله معسكر التدريب. ولأن عائلة نور الدين لا تعرف شيئاً عما تعرّض له هناك، وهي تستعين بذاكرة ابنها المثقوبة التي سالت منها الأيام وحلقات الدراويش والمعمّمين وأوامر الجيش.
تقول العائلة وهي تترصده: يصلي مريضنا اليوم كيفما اتفق يمد السجادة إلى الخلف أو اليمين أو اليسار ولا يقرأ من الكتب سوى القرآن والصحيفة السجادية ويردد في ساعات الهدوء بيت المتنبي الشهير: أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي / وأسمعتْ كلماتي من به صممُ
وقد جعلته المهدئات سميناً وثقيل الحركة، وغزا الشيب رأسه...