منذ سنوات، دأب أحد الأقارب من أبناء القدس الأصيلين يحذّرني من أنّ المخططات الإسرائيلية للاستيلاء على الحرم الشريف جاهزة بل قيد التنفيذ، وسيتم تحويل ساحاته إلى "حديقة وطنية" ترتبط بالمساحات الاستيطانية اليهودية المقامة في شرق المدينة المقدسة (حيث ستقام "الحديقة التوراتية")، بواسطة فتح "باب التوبة" (المغلق منذ العهد الأيوبي) في الجدار الشرقي للحرم، ثم إقامة كنيس في الزاوية الجنوبية الغربية للحرم يطل على ساحة البراق. وكنت أقول له دائماً إن ذلك خيالي وغير ممكن، ولن يُسمح بمثل هكذا تغيير في الوضع القائم (status-quo)، وأن يذهب به بعيداً عن الوضع الفعلي الظاهري. لكن بعد أسبوعين من الفعاليات العنيفة لـ "انتفاضة القدس" وما شملها من فقدان للأرواح وسلسلة إجراءات إسرائيلية عقابية وتقييدية وتقسيمية جديدة تتكاثر وسائلها يومياً، اعترفت لابن العم بأنه كان على حق تماماً بتصويره السوداوي، بل كان يجب عليه أن يذهب أبعد من ذلك ويشمل كل البلدة القديمة والأحياء العربية في القدس الشرقية في تحليله. فلم تعد المسألة تقسيم زماني ومكاني للحرم، بل تحدٍ وجودي شامل!
هكذا يبدو الأمر بنظر غالبية الفلسطينيين من أهالي القدس اليوم: انهم مقبلون على تحويل القدس العربية إلى مجموعة من الغيتوهات تنتشر بينها المستوطنات والمساحات العامة المملوكة للدولة وللشعب اليهودي، ويتحكم الأمن الإسرائيلي بكل نواحي حياة سكانها إلى أن يهاجروا أو يستسلموا أو يموتوا. مهما كان المدى الحقيقي للأهداف التهويدية للقدس، فإن الظروف الراهنة تشكل فرصة سانحة لزيادة القبضة الاحتلالية وجعل المقاومة، بل الحياة، مكلفة أكثر للمقدسيين.
الكلفة عالية
وإذا تم قياس مدى شدة تأثير الحوادث الأخيرة مقارنة بهبّات سابقة من خلال الرقم الأهم، وهو عدد الشهداء الفلسطينيين من القدس، فإنه بحسب الإحصاء الفلسطيني في العام 2014 كان عددهم (15 شهيدا)، وهو من اعلى المستويات منذ 1994 وحتى فترة 2000-2002 (بين 15-19 شهيداً). بينما خلال أول أسبوعين من شهر تشرين الاول فقط، استشهد 13 شاباً من القدس. ومهما يكون مصير المواجهات خلال الفترة القادمة، فإنها نجحت بإعادة القدس المحتلة وأوضاعها المأساوية إلى مركز الاهتمام الشعبي والإسرائيلي والعالمي. فإذا تصاعدت، سيتم تشديد الإجراءات العقابية والأمنية وتتسع رقعة التوتر وتداعياته الاجتماعية، وكذلك الثمن الاقتصادي الذي يتكبده الطرفان.
وحتى إذا توقفت "انتفاضة القدس" خلال الشهر (أو عُلِّقت إلى حين جولة قادمة)، فإن التقديرات الأولى للخسارة الإجمالية للاقتصاد الإسرائيلي لشهر تشرين الأول إلى 5 مليار شيكل (حوالي 1.3 مليار دولار). وهذا يتضمن جزئياً خسائر خاصة بالاقتصاد الفلسطيني في القدس الذي اصبح اكثر من أي عهد مضى ـ وبشكل أشد من بقية الأرض المحتلة ـ مرهوناً للاقتصاد الإسرائيلي. يهيمن الأخير على معيشة ما يقارب 320 ألف مقدسي يسكنون داخل جدار الفصل مع الضفة الغربية (حسب المصادر الإسرائيلية، بينما الاحصاء الفلسطيني يقدر مجموع سكان القدس العربية داخل وخارج الجدار بـ 420 ألفاً. هؤلاء يشكلون 37 في المئة من مجمل سكان "مدينة القدس" بشطريها الشرقي والغربي (830 الفاً عام 2013). وعلى الرغم من الاستيطان اليهودي المكثّف، فإن تلك النسبة تبلغ اليوم مستوى يقارب ما كان عليه التوازن الديموغرافي في القدس بين اليهود والعرب (100/65 ألف) عندما قررت الأمم المتحدة جعلها خاضعة لنظام خاص يديره "مجلس الوصاية" في إطار القرار 181 لتقسيم فلسطين.
وعلى الرغم من كل ما هو معروف عن معجزة الصمود الاقتصادي لهذا الجزء المركزي من الشعب الفلسطيني القاطن على أغلى قطعة من أرضه المحتلة، ناهيك عن الحفاظ على نسيجه الاجتماعي والثقافي والوطني والديني في بوتقة ما يُعرف بـ "المقدسي"، فإن المرحلة القادمة ستزيد الأعباء الاقتصادية والمالية الخانقة على هؤلاء المرابطين في المدينة المقدسة. القصة لم تعد تخص الحرم الشريف والأماكن المقدسة فحسب، بل تحدي البقاء وابتكار الوسائل الكفيلة لدعم الصمود في الظروف القاسية سيكون الشغل الشاغل للجميع. سيشمل صراع البقاء القادم كل بقعة من القدس العربية التي تحاصرها مستوطنات لحوالي 200 الف يهودي. من حارات البلدة القديمة إلى الشيخ جراح وشعفاط وبيت حنينا الشمالية، وصولاً للأحياء الشرقية الجنوبية الأفقر وهي المهددة بشكل أكبر اليوم، تتواصل عملية دؤوبة جارية منذ 40 سنة، تحولت خلالها البؤر الاستيطانية الإسرائيلية إلى بحر يهودي يحاصر البؤر العربية الأصيلة.
مشاكل قديمة تنادي بحلول جذرية
هنالك ما يكفي من المؤشرات إلى تصاعد، بل استفحال الأزمة الاجتماعية والسكنية والاقتصادية التي تواجه المقدسيين في سعيهم ليتدبروا معيشتهم ويحافظوا على وجودهم وممتلكاتهم. وتدل الأرقام المتوفرة من مصادر رسمية فلسطينية وإسرائيلية على شدة تلك الأزمات وقسوة الأحوال المعيشية المتردية للمقدسيين مقارنة بالمواطنين الفلسطينيين في الضفة أو بالمستوطن والمواطن الإسرائيلي المقيم في المدينة نفسها. وهذه الفجوات المرشحة للتوسع والتفاقم خلال الفترة القادمة، تعكس مجموعة من المعطيات التي لا بد من التدخل لمعالجتها إذا كانت القدس ستصمد:
المجتمع المقدسي فتي نسبيا، حيث 30 في المئة من افراده بين 15-29 سنة و35 في المئة منهم دون 14 سنة، على الرغم من أن معدل النمو السكاني للقدس (1.8 في المئة) منخفض عن مثيله في الضفة الغربية (2.6 في المئة) وقطاع غزة (3.4 في المئة). بحسب المصادر الإسرائيلية، فلا ينخفض تقريبا عدد اليهود المقيمين في البلدة القديمة (حوالي 3500)، لكن هنالك هجرة بشرية عربية من البلدة القديمة بلغت حوالي 4700 شخص بين 2011 ـــ 2013، وقد استقبلت الأحياء الشمالية للمدينة داخل وخارج الجدار هذه الهجرة.
يقيم الـ320 ألف مقدسي (داخل الجدار) في ما يقارب 47 ألف مسكن (حوالي 5000 منها في الحارات العربية للبلدة القديمة)، بواقع 7 اشخاص للمسكن ـ مقارنة بمعدل 3.5 شخص للمسكن الإسرائيلي. بينما تراجعت الكثافة السكانية في الأحياء اليهودية الى أقل من 1 شخص/غرفة منذ التسعينيات، فإن المعدل العربي ازداد الى ضعف ذلك (2 شخص/غرفة)، و33 في المئة من الأسر العربية تتكون من 7 اشخاص أو أكثر (مقارنة بالمعدل العام في إسرائيل وهو 18 في المئة). على كل عربي يريد أن يبني أو يوسع مسكنا قائما أن يتحمل رسوما خيالية والانتظار طويلا، حيث تشير الإحصاءات الى أنه في 2013، نسبة 88 في المئة من الأسر التي تقدمت لتصاريح بناء خلال السنوات العشر السابقة كانوا لا يزالون يتابعون المعاملة.
حوالي 58 في المئة من العاملين الفلسطينيين في القدس يشتغلون في القطاع الخاص مقارنة بالقوة العاملة اليهودية التي تتكون 22 في المئة منها في تلك القطاعات. ويتمركز غالبية اليهود (75 في المئة) في قطاعات الخدمات العامة والإدارة وصناعات التقنيات العليا والثقافة والمصارف وغيرها من القطاعات المحرّمة على العرب. و مقابل تركز 75 في المئة من القوة العاملة العربية في المهن الأقل مهارة (طبقة عاملة في القطاعات الإنتاجية والخدمية المذكورة سالفاً)، فإن 60 في المئة من العاملين اليهود في القدس يوجدون في المهن الإدارية والهندسية والتقنية والأكاديمية (مقارنة بـ23 في المئة للعرب).
ونتيجة لضعف عروض العمل، انخفضت نسبة المشاركة في القوة العاملة من 40 في المئة من اجمالي السكان في العام 2009 الى 31 في المئة في العام 2013 (في الفئات العمرية بين 25 و44 سنة). وفي الفترة نفسها ارتفعت نسبة البطالة في القدس من 12 في المئة إلى 19 في المئة من القوة العاملة، وهي ثالث أعلى نسبة بين محافظات الضفة الغربية.
قدِّر الإنتاج المحلي الإجمالي لاقتصاد القدس في العام 2013 بحوالي مليار دولار، 42 في المئة منه من قطاع التجارة والسياحة و43 في المئة من قطاع الخدمات و11 في المئة من القطاع الصناعي (أكثره خارج الجدار). وعلى الرغم من مركزية قطاع الساحة، فإنه شهد تراجعاً في عدد الزوار في العام 2014 إلى ادنى مستوى منذ سنوات (178 الفاً مقابل 264 ألفاً عام 2010). وتدل تقديرات الإحصاء الفلسطيني على مدى اعتماد المقدسيين (داخل الجدار) على الاقتصاد الإسرائيلي ودولة الاحتلال، حيث هو مصدر الرزق الأساسي لـ54 في المئة منهم، وكذلك 19 في المئة من المقدسيين يعتمدون على تحويلات الرعاية الاجتماعية الإسرائيلية (تأمين، شيخوخة، بطالة). في المقابل، يعتاش فقط 21 في المئة من الأسر المقدسية من الاقتصاد العربي المحلي اساساً، ويعتمد فقط 2 في المئة من الأسر العربية داخل الجدار على العمل في الوظائف العامة - مقارنة بـ17 في المئة من الأسر المقدسية خارج الجدار الذين يعتمدون أساسا على وظائف لدى السلطة الفلسطينية.
الأكثر إثارة هو أن الشعب الفلسطيني في القدس ربما يكون الأكثر فقرا بين أبناء وطنه، حيث تفوق نسبة الفقر عند الفلسطينيين في القدس 75 في المئة من الأسر العربية، مقارنة بـ27 في المئة لدى اليهود و(59 في المئة لدى اليهود المتدينيين)، والنسبة أدنى من 40 في المئة في قطاع غزة المنكوب. أي أنه يعيش 230 الف مقدسي في الفقر الإسرائيلي، منهم 117 الف طفل.
صمود دون تنمية
إذا كان من الممكن افتراضياً انتهاج سياسات تنموية في المناطق "أ" و"ب" الخاضعة للسلطة الفلسطينية، فإنه من مسلمات الاقتصاد السياسي الفلسطيني أن التنمية تحت الاحتلال غير واردة، وهذا ينسحب على القدس أكثر من أية ارض فلسطينية محتلة أخرى. لا شك أن مسائل الرعاية الصحية والتربية من أهم عناصر التنمية البشرية المستدامة، ولا بد من بذل الجهود لتطوير هذين القطاعين الحيويين، لكن هنالك اربع مطالب مقدسية اجتماعية ــ اقتصادية ملحّة على رأس قائمة الأولويات، لا بد من تلبيتها في الفترة القريبة القادمة في جهد واسع النطاق لدعم الصمود والتلاحم المقدسي: السكن الكافي، العمل اللائق، الاستثمار والإنتاج المحلي، والتمثيل المدني.
• أولاً، من الضروري توفير الموارد المالية والهندسية والقانونية المكثفة لمساعدة المقدسيين في الحصول على ما يلزم من التصاريح للبناء الشرعي، وتكثيف الاستثمار العام والخاص (المحدود حتى الآن) في مشاريع الإسكان لذوي الدخل المنخفض.
• بينما اصبح من العاجل توفير فرص عمل فلسطينية لائقة لتقليل الاعتماد على الاقتصاد الإسرائيلي، فإن تلك المهمة تقع ليس فقط على عاتق القطاع الخاص الضعيف والهش اصلاً، بل تتطلب حملة توظيف حكومي لأبناء القدس في وظائف موجهة للقدس ولاحتياجاتها وتقديم الخدمات المختلفة لمواطنيها.
• من الواضح ان قطاعات السياحة والتجارة المتصلة بها، ثم المواصلات العامة الهامة جدا بالنسبة لتواصل القدس مع محيطها الفلسطيني الأوسع، بالإضافة للصناعة والحرف التقليدية، هي من أهم القطاعات التي توفر عملا ودخلا وحيوية لأسواق القدس العربية، ولا بد من توفير التمويل الميسر من قبل النظام المصرفي الفلسطيني ومستثمري القطاع الخاص وصناديق الاستثمار العامة، في دفعة كبيرة للاستثمار لتقوية أعمدة الاقتصاد المحلي المنتج.
• بينما تفتقد عاصمة فلسطين إلى قيادة سياسية أو مؤسسات تمثيلية ومشاركة سياسية ديموقراطية، بسبب مقاطعة النظام السياسي الإسرائيلي والانقطاع عن مثيله الفلسطيني، فإنها تحتضن ليس فقط الأماكن المقدسة والتاريخية المميزة، بل أيضاً العديد من الجمعيات الأهلية النشطة، وجامعة القدس ومستشفى المقاصد وشركة كهرباء القدس والمحاكم الشرعية وغيرها من المعالم المؤسسية التي تذكّر بموقع المدينة المركزي السابق. وإذا كانت القدس ستصمد أمام تحديات المرحلة المقبلة، فلا بد من تقوية هذا النسيج المدني المؤسسي وتحويله إلى منبر تتلاقى خلاله الفعاليات المقدسية المختلفة لتتشاور وتتعاون في نفس روح الفداء والتكافل والعمل الجماعي الذي يظهره ويطالب به الشباب المقدسي الثائر.
أن التدخل الخارجي (فلسطيني وعربي ودولي) لمعالجة هذه المسائل ضروري، بل حتمي، والتعبئة الداخلية والوطنية ممكنة، لمواكبة تجربة الصمود البشري الرائع التي تمثلها القدس. فلتكن هذه هي البشرى السارة من فلسطين!