على الرغم من الضعف الشديد الذي لحق بمنظمة التحرير الفلسطينية المنفيّة، واصلت المنظمة، في أعقاب عزلتها التي تلت حرب الخليج في العام 1991، مقاومة مؤتمر مدريد للسلام الذي تلا تلك الحرب وأطلق مفاوضات سياسية دخلت الآن عقدها الثالث. وهذه «العملية» المتطاولة تنطوي بحدّ ذاتها على مفاضلة بين سعي إلى التحرر الوطني من خلال المقاومة وسعي إليه من خلال التعاون، وهو ما نشهد اليوم أكثر من أي وقت مضى نتائجه الكارثية.
لكن هذا الإرغام الموروث لا يبدو كافياً لتفسير المخاطرة الدرامية والانقلاب اللذين عمدت إليهما المنظمة حين وقّعت «بروتوكول العلاقات الاقتصادية» مع اسرائيل في باريس العام 1994، ملحقاً باتفاقيات أوسلو.
حتى حين سيق المفاوضون الفلسطينيون إلى اتفاقية سرية مع إسرائيل في أوسلو 1993، كان واحد من المسؤولين الرسميين (هو أحمد قريع، أبو العلاء الذي لم يشغل بالصدفة منصب مدير عام صامد والقسم الاقتصادي في منظمة التحرير) يضع في تونس اللمسات النهائية على إنجاز المنظمة الكبير الذي قاده يوسف صايغ وفريق خبراء فلسطينيين، وبدأ في العام 1991.
كان «برنامج تنمية الاقتصاد الوطني الفلسطيني 1994-2000» (PDP)، منسجماً تماماً مع ذلك الصنف من الاقتصاد المبتدَع، اقتصاد الخيرات العامة والعدالة الاجتماعية الذي كان ماركة مسجلة للصايغ. كما كان منسجماً فكرياً مع تراث «الوطنية الاقتصادية» لدى منظمة التحرير الفلسطينية ويعكس الشروط والمتطلبات اللازمة لإقامة اقتصاد فلسطيني يتوجه نحو إنهاء الاحتلال والتبعية بدلاً من العمل على التكيّف معهما. غير أن «برنامج تنمية الاقتصاد الوطني الفلسطيني» كان في الوقت ذاته عودةً إلى الوراء واندفاعةً إلى الأمام نحو حقبة مختلفة، إنما في لحظة أطلق فيها العنان لقوى اللبرلة الاقتصادية العالمية وراحت أصوليّة الأسواق تتمتع بتربّعها على القمة.
البنك الدولي يدخل إلى المشهد
في تلك الحقبة، شهدت الانتفاضة الأولى سلسلة من مبادرات الاعتماد على الذات الشعبية والمدعومة، من ضمنها مقاطعة الوظائف في إسرائيل والبضائع الإسرائيلية، وإضرابات التجار، والامتناع عن دفع الضرائب، وعودة واسعة إلى الزراعة وظهور ما يُسمّى بـ«الاقتصاد المنزلي».
لكن كان من الصعب أن يصمد الفلسطينيون اقتصادياً. وحتى لو تأثر الاقتصاد الاسرائيلي بعض الشيء، ما كان بمقدور البنية الاجتماعية الفلسطينية أن تحتمل الانتقام والعقاب الجماعي الذي لا هوادة فيه، ولا بمقدور التنظيم السياسي تحويل ذلك إلى استراتيجية قابلة للحياة على المدى الطويل، خصوصاً بعد حرب الخليج و«الإغلاقات» الإسرائيلية العقابية الأولى.
وفي هذه الأثناء، كان انفتاح قادة منظمة التحرير الفلسطينية يتزايد تجاه أي صيغة من شأنها أن تعيدهم إلى فلسطين وتحقق ما يعتقدون أنها ستكون مرحلة انتقالية قصيرة إلى الاستقلال.
حتى «برنامج تنمية الاقتصاد الوطني الفلسطيني» جرى تعديله في آخر لحظة ليشمل «مرحلة انتقالية» من الحكم الذاتي من دون تغيير مبادئه أو أهدافه أو مؤسساته.
لذلك، وفي استرجاع لما كان، ليس من الصعب أن نرى لماذا لم تتح لـ«برنامج تنمية الاقتصاد الوطني» الذي يمثل ذروة فكر الجيل السابق، فرصة ما إن دخل البنك الدولي المشهد في العام 1993.
لا يمكن هنا أن نقتفي بما يكفي من العمق القصة الكاملة لانزلاق المنظمة نحو الليبرالية الجديدة وهي تحتاج في جميع الأحوال بحوثاً جديدة لفهم الحسابات التي كانت في ذلك الوقت.
ولا شك في أنّ التحوّل الواضح في تلك السنوات القليلة من «الصمود من أجل التنمية» في «برنامج تنمية الاقتصاد الوطني الفلسطيني» إلى «التنمية من أجل السلام» (مدار بحث أولى الدراسات التي أجراها البنك الدولي في العام 1993) يعطي فكرة مختصرة عن نوع القرارات التي اُتخذت في ذلك الحين.
ثمة جدال جرى مؤخراً بين الفلسطينيين عمّا إذا كانت «الفيّاضية» (نسبةً إلى سلام فيّاض) في بعدها الاقتصادي مجرد مرحلة متقدمة من «العرفاتيّة»، ما دام عرفات قد وافق على جميع الاتفاقات الاقتصادية التي أبرمت مع إسرائيل ولم يبق على فيّاض سوى أن يصل بها إلى نتائجها المنطقية.
وفي النهاية، فإنّ مشروع فتح الاقتصادي لم يكن يوماً مشروعاً اشتراكياً، بل إنّ «صامد» كانت تطمح إلى العمل وفق معايير السوق.
ومع أن«برنامج تنمية الاقتصاد الوطني الفلسطيني» ربما كان برنامج تنمية وطنية سليمة، فإنه لم يكن قطعاً تخطيطاً مركزياً أو وثيقة راديكالية.
وربما تكون السلطة الفلسطينية في أيام فيّاض قد شهدت مزيداً من المركزية ووضوح الوظائف المالية في ظل وزيرٍ للمالية/ رئيسٍ للوزراء (بدلاً من رئيس منظمة التحرير الفلسطينية)، الأمر الذي يعود في قدر كبير منه إلى طلب الجهات المانحة وصندوق النقد الدولي.
لكن جوهر الفلسفة والسياسات الاقتصادية لدى السلطة الفلسطينية في ظلّ بروتوكول باريس بقي ثابتاً على مدى السنوات العشرين الماضية، على الرغم من التحول التدريجي نحو اليمين في السنوات الخمس/ السبع الماضية.
لعل الأمر الأكثر أهمية هو النظر في الخيارات المحدودة التي كانت مطروحة أمام قيادة وطنية (وحركة مقاومة منهكة) في أوائل تسعينيات القرن العشرين. كانت هذه الحدود والقيود واضحة سواء من حيث القدرة على مقاومة الشروط التي يمليها «ترسيخ السلام» أم من حيث القدرة على تدبّر عيش نحو 3 ملايين فلسطيني مع مؤسسات كانت قد بُنيت في المنفى وعلى عجل وبصورة منقوصة.
أمّا الفرصة التي وفرتها أوسلو لرأسمال «الفلسطيني المهاجر» لإعادة ربطه ثانية بالمنظمة، إنما في داخل فلسطين هذه المرة وضمن برنامج اقتصادي واستثماريّ مشترك، فعنت أنه لم يكن أمام منظمة التحرير الفلسطينية سوى أن تنحني للريح السائدة، ناهيك عن إيلاء الاهتمام لموجة العولمة المتعاظمة وتنامي نفوذ المؤسسات المالية الدولية.
النص باللغة الانكليزية على موقع مجلة "جاكوبين" الأميركية