العام 1982، عشية تقطيع أوصال الجهاز العسكري لمنظمة التحرير الفلسطينية وما يرتبط به من بنى مدنية وعسكرية في لبنان، لم يتوانَ حتى الودودين من نقّاد أدائها عن وصفها، بأنّها كانت «دولة داخل الدولة». كانت إدارة منظمة التحرير الفلسطينية، إلى حين خروجها إلى جميع أنحاء العالم العربي نتيجة الاجتياح الإسرائيلي للبنان، قد قاسمت الدولة اللبنانية السيادة على رقعة كبيرة من البلد طيلة معظم العقد السابق، وأقامت مؤسسات شبيهة بالدولة. ولا عجب، إذ كانت قد سيقت إلى ادّعاء تحقيق أهداف بناء الدولة «الوطنية» ولو في منافي مخيمات اللاجئين في لبنان. ومنذ أن دخلتْ لبنان في أوائل سبعينيات القرن العشرين هاربة من «أيلول الأسود» الذي واجهته في الأردن، أقامت المنظمة حضوراً عسكرياً - أمنياً وسياسياً كثيفاً في أرجاء المخيمات وفي معظم جنوب البلاد وشرقه وشماله. وإلى جانب ذلك، لم يأت العام 1982 حتى كان قد ترسّخ نظام محْكم من الخدمات الاجتماعية المدنية (صحة وتعليماً ورعاية اجتماعية)، وحراكاً شعبياً مجتمعياً وحزبياً، ونقابات ومشاريع إنتاج صناعي وتسويقاً. كما جلبت المنظمة أيضاً، خصوصاً فصيلها الأساسي حركة فتح، مئات ملايين الدولارات من المساعدات الرسمية العربية والضرائب التي جُمعت باسمها من فلسطينيين يعملون في دول الخليج، كما كانت تدير شبكات مالية سرية لدعم الكفاح المسلّح في لبنان والعالم.
"بروفا" تغيّرت وجهتها
على الرغم من الهزيمة العسكرية والسياسية التي مُنيت بها الحركة الوطنية الفلسطينية في لبنان في نهاية المطاف، بدا هذا المشهد المؤسسي الواسع للحظة تاريخية كأنّه يبيّن «قابلية الحياة» كطليعة لمشروع الدولة الوطنية في فلسطين الحرّة المقبلة التي كانت لا تزال مجرد ومضة في أعين المخططين الفلسطينيين. كانت مؤسسة صامد التابعة لفتح هي المؤسسة الصناعية الفلسطينية الرائدة في لبنان في ذلك الحين، وقد أقيمت لتُنتج لمنظمة التحرير والسوق الفلسطينية الأوسع. وبحسب رؤية رئيس منظمة التحرير الفلسطينية آنذاك ياسر عرفات، فإنَّ «صامد تجسّد تطلعات تتجاوز الأهداف الأصلية المحدّدة لها، فهي مدرسة للمقاتلين - العمّال، وبنية لتأهيل أبناء الشهداء، وقاعدة صناعية لتشغيلهم، وهذا كلّه يشكّل جوهر الاقتصاد الفلسطيني المستقلّ والقطاع العام الفلسطيني المتحرّر من البيروقراطية والمفعم بالعزيمة وروح الثورة».
بعد ذلك، وفي غضون ما يزيد قليلاً على العقد، وقّعت السلطة الفلسطينية مع إسرائيل في باريس اتفاقية خاصة بالسياسة الاقتصادية ضمن اتفاق حكم ذاتي محدود، أجهضت خطط إقامة اقتصاد فلسطيني وإمكانياته وأعلت من شأن اقتصاد «السوق الحرّة» الذي وُضع تماشياً مع روح العولمة وحرية التجارة. لقد مرّ أكثر من ثلاثين عاماً على إحالة «جمهورية الفاكهاني» إلى مجرّد فصل آخر من فصول الصراع الأهلي اللبناني الطويل وتنقّل حركة المقاومة الفلسطينية من منفى إلى آخر. وخُفِضَ «القطاع العام» الفلسطيني الذي نودي به إلى صندوق استثمار برأسمال 1,5 مليار دولار تعمل كشركة محدودة مع حدّ أدنى من الرقابة العامة، وإلى بعض الأصول المتبقيّة المملوكة لها في الأسواق الاقتصادية الدولية. وتقتصر بيروقراطية الحكم الذاتي الفلسطيني المتثاقلة على إدارة حفنة من الموارد والإيجارات التجارية التي يسمح بها دورها التنظيمي المتواضع. وكذلك، يصعب أن نتبيّن روح الثورة في المطاعم وأماكن الترفيه في مدينة رام الله، عاصمة الأمر الواقع، أو في «المجتمعات الميسورة» الفخمة الناشئة في محيطها.
متى ولماذا تخلّت الثورة الفلسطينية عن برنامجها الوطني التحرري للتنمية الاقتصادية؟ أين وقع الخطأ، أو ربما، متى تم تصويبه؟ هل حرّفت قوى الرأسمالية النيوليبرالية المسار التحرري في صفقة زائفة عنوانها «المال مقابل الأرض والسلام» عوضاً عن صيغة «الأرض مقابل السّلام» التي يفترض أنها شكّلت أساس اتفاقيات أوسلو مع إسرائيل؟ أم أنّ المنظمة، ببساطة، وعلى غرار عديد من سابقاتها في دول الجنوب، وقعت في مزالق القومية نفسها التي حذّر منها فرانز فانون في تحليله للبلدان ما بعد الاستعمار؟ بل، لماذا قبلت أن تقوم بذلك داخل إطار احتلال مديد وحكم استعماري؟
تفحّص جوهري لم يحصل
إن مسار الفكر والممارسة الاقتصاديين الوطنيين هو جزء من تاريخ الثورة الفلسطينية الذي لم يُبحث فيه أو يُكشف عنه حتى الآن، ولا يمكن لهذه الورقة أن تقدم عنه أكثر من تصوّر يخدش سطحه فحسب في محاولة لطرح الأسئلة الصائبة. وعلى الأرجح، فإن الأرشيف والوثائق الأغنى التي ترسم تحولات الفكر والسياسات الاقتصادية الفلسطينية قبل بيروت وبعدها (1982)، وبين مدريد وأوسلو/باريس (1994)، وخلال حكم السلطة الفلسطينية أيام عرفات في الأراضي المحتلة، وكذلك منذ العام 2005، ستظل بعيدة عن متناول الباحثين والمؤرخين لسنوات مقبلة (على الرغم من ويكيليكس)، إن كانت لا تزال موجودة رغم انتقالها من مكان لآخر طيلة الـ30 سنة الماضية.
بالمثل، لم يكتب سوى القليل عن رأس المال الفلسطيني الذي نجا من نكبة 1984 ونُهض به من جديد في الخليج والبلدان العربية في منافي خمسينيات وستينيات القرن العشرين في سياق العروبة الأشمل، ثمّ بروزه من جديد كحليف للثورة الفلسطينية، ومؤخّراً كشريك (إن لم يكن كرائد) في تنمية الاقتصاد الفلسطيني. وكذلك، فإنَّ التكوين الطبقي هو بُعدٌ مهم من أبعاد السياق الأوسع الذي شكّل أيديولوجيا منظمة التحرير وممارستها الاقتصاديتين، وقد يرى فيه بعضهم العامل الحاسم في تراجع اقتصاديات التحرر الوطني وصعود قيم ومبادئ السوق في الآونة الأخيرة. والحال، أن قدراً كبيراً من التعليق النقدي في السنوات الماضية قد تركّز على المفاضلة التي تنطوي عليها سياسات السلطة الفلسطينية مؤخراً (إن لم يكن منذ أوسلو) بين التحرر الوطني والليبرالية الجديدة.
من ناحية أخرى، يؤكّد المدافعون عن السياسة الاقتصادية للسلطة الفلسطينية أنها تتماشى مع العقيدة الاقتصادية التي تبناها «إجماع واشنطن»، ولا تتعارض مع تحقيق الأهداف الوطنية الفلسطينية. وأنها، في الأحوال كلّها، الخيار الوحيد المتاح داخل الإطار الاقتصادي المعمول به في السنوات العشرين الماضية. لا يعرف غالبية الوطنيين الفلسطينيين الليبراليين، الذين نضجوا منذ أوسلو، سوى القليل عن أصول الوطنية الاقتصادية الفلسطينية ولا يهتمون كثيراً بذلك. وثمة آخرون ممن رافقوا منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت إلى رام الله تخلّوا في تسعينيات القرن العشرين (خصوصاً بعد سقوط الاتحاد السوفياتي) عن مفهوم القطاع العام الرائد وعقدوا عهوداً مع الليبرالية الجديدة، ربما من دون أن يفهموها. وقد يسخر معظم الاقتصاديين الفلسطينيين المعاصرين من مجرد فكرة «تاريخ للفكر الاقتصادي الفلسطيني».
وهم لا يرون في كل مظاهر الدولة والأنشطة الاقتصادية الأولية في لبنان وفي فترة ما قبل أوسلو، سوى إدارة متواضعة وغير فاعلة لحركة تحرّر ضلّت طريقها إلى فلسطين في حانات بيروت وتونس ونواديهما. ولذلك، قد لا يُقدّر كثيرون في هذه الأيام حجم التحوّل الذي اعترى الممارسة الاقتصادية الفلسطينية (إن لم يكن الفكر الاقتصادي) بعيداً عن حماية الترابط المجتمعي وتعزيزه وباتجاه تأكيد الغنى الفردي و«نوعية الحياة».
مع ذلك، ما تزال منظمة التحرير الفلسطينية وسياساتها الاقتصادية تستمد شرعيتها قبل كل شيء من ادّعائها تمثيل الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني وقيادته إلى التحرر. وفي حين حاولت أن تتولّى بعض مسؤوليات الدولة في مناطق الحكم الذاتي في الأراضي المحتلة، وثمة اعتراف بأنها لم تفِ بوعدها في تقرير المصير الوطني أو تغلق ذلك الفصل من فصول التاريخ الفلسطيني.
لذلك، فإنَّ أهمية الفهم الحسن لما كان عليه «القطاع العام» الفلسطيني ذات مرة، أو لما كان يطمح إليه، ليست بالأهمية التاريخية فحسب، بل هي أهمية تثقيفية أيضاً لتحديد ما إذا كانت ضرورية إعادة التأكيد في فلسطين على «دور الدولة في التنمية» وكيف يؤدّى هذا الدور، وإن في سياق تراكم رأسمالي مستشرٍ، وكفاح لإزالة الاستعمار لا يزال جارياً لم يبلغ نهايته.
الجزء الثاني: الفكر الفلسطيني الاقتصادي من صامد إلى صمود إلى سلام
الجزء الثالث: هل وُجد قطاع عام فلسطيني يوماً؟
الجزء الرابع: مسار مدريد - باريس - رام الله للاقتصاديات الفلسطينية
النص باللغة الانكليزية على موقع مجلة "جاكوبين" الأميركية