تروي القصة المتداوَلة أن محمد بوعزيزي كان يعيل أمه الأرملة وأخوته الخمسة من خلال بيع الخضار على عربته الجّوالة. كان يتعرّض دائماً لمضايقة عناصر الشرطة الى حين أن وصل بهم الأمر الى إهانته علناً. طفح كيله وبلغ حاله حداً من اليأس ليحرق نفسه وأشعل العالم العربي معه.
حال بوعزيزي هي حال أكثر من نصف العمال في البلدان العربية الذين دُفعوا الى العمل اللانظامي. وفق منظمة العمل الدولية، يشمل هذا النوع من العمل العاملين لحسابهم الخاص، والعاملين في المؤسسات التي تستخدم أقل من 5 عمال، والعمال الذين يفتقدون الحماية الاجتماعية، والعمال المقصيين من قوانين العمل (كالعمال الزراعيين والعمال المنزليين).
العمّال اللانظاميون في «حالة الاستثناء»
تنامت ظاهرة العمل اللانظامي في المنطقة العربية منذ ثمانينات القرن الماضي مع بدء «الاصلاحات الاقتصادية» التي اجتاحت دول المنطقة نتيجة عوامل عدّة أبرزها فشل نماذج التنمية الاقتصادية المطبقة. فمنذ خمسينيات القرن الماضي سخّرت الأنظمة العربية الاستبدادية الاقتصاد لشراء مشروعيتها عبر كافة أنواع الدعم للصناعات والأفراد، معتمِدة على الريوع النفطية وغير النفطية لأداء هذا الدور. وكان القطاع العام جزءا أساسيا من هذا النظام، حيث استوعب العمالة المتزايدة بغض النظر عن تطوير الفعالية والبنى الانتاجية لاقتصادات المنطقة. وفاقم ذلك وقوع الحكومات العربية بأزمات مالية حادّة نتيجة انخفاض أسعار النفط في الثمانينيات وسياسات الدعم الزبائنية تلك. فحتمت هذه الأزمة عليها تغيير سياساتها الاقتصادية، وتمّ استدعاء البنك الدولي وصندوق النقد الدولي من أجل إجراء الاصلاحات الهيكلية. فعمدت الاجراءات «الموصى بها» الى تقليص العمالة في القطاع العام، والخصخصة، وتحرير التجارة، وتسخير الجهود الاقتصادية من أجل إحقاق النمو الاقتصادي السريع بحجة أن ذلك سيؤتي بثماره على الجميع.
بذريعة الإصلاح الاقتصادي وتشجيع القطاع الخاص، عمدت السياسات الاقتصادية المتّبعة الى تحويل المجال الاقتصادي الى مساحة «استثناء». فمن أجل فهم هذا التحوّل الاقتصادي يمكننا استعارة مفهوم قانوني - سياسي صاغه عالم الاجتماع السياسي الايطالي جيورجيو أغامبن: «حالة الاستثناء» في القانون. وهو اهتم تحديداً بالمساحة التي تتيحها القوانين وخاصة الدساتير حيث تسمح بتعطيل نفسها بشكل قانوني، وبالأخص في حالات الطوارئ. يخلق ذلك مساحات يعلق فيها القانون بشكل قانوني ولفترات موقتة تصبح دائمة مع مرور الزمن. تتيح لنا هذه المقاربة القانونية فهم «وجود عالم من النشاط الانساني الذي لا يخضع للقانون». فحالة الاستثناء «ليست حالة قانون لكن هي مساحة من دون قانون، مساحة شذوذ، يفرغ فيها القانون كليّا من معناه»، وفق أغامبن.
من خلال تحليل السياسات الاقتصادية من عدسة هذا المفهوم السياسي/القانوني، يمكننا فهم الأزمة الاقتصادية في الثمانينيات من القرن الماضي، التي أنتجت حالة من الطوارئ الاقتصادية تكاملت مع حالة الطوارئ السياسية التي كانت معتمدة في العديد من هذه الدول، وشكلتا معاً جناحي منظومة الاستبداد العربية. وبهدف الاصلاح الاقتصادي، تم إضعاف كلّ من مؤسسات العمل كالضمان الاجتماعي، ونظم التقديمات الاجتماعية، والدعم الاجتماعي. وتمّ تطبيق «مرونة العمل» (عبر إضعاف الأجور وتسهيل الصرف من العمل) وتفكيك أسس الدولة الرعائية بشكل عام التي تحمي العمال من الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية.
فأصبحت اللانظامية وتغيير شروط العمل وتدجين الأطر النقابية ممارسات تنفَّذ من دون أن تكون معرّفة قانونياً، أي أن شرعيتها مكتسبة من إغفالها في القانون أو من حالة الطوارئ. فالانتقال من علاقات العمل القائمة على التعاقد النظامي، والحماية وديمومة العمل الى اللانظامية والتعاقد من الباطن وغيره، لم يصاحبه تغيير في تشريعات العمل يلحظ حقوق العمال في انماط جديدة من الإنتاج وعلاقات عمل غير مألوفة في اقتصادات المنطقة. ما وضع الفئة الأكبر من العمال في «حالة استثناء» قانونية، أعطت استغلالهم الصبغة الشرعية. ووُضع الجزء الأكبر من العمال خارج إطار التشريعات القانونية. فتشير الإحصاءات إلى أن نسبة العمال اللانظاميين تبلغ 60 في المئة في مصر، 50 في المئة في لبنان، 44 في المئة في الأردن و47 في المئة في تونس. وتشكل العمالة المهاجرة جزءا كبيرا من العمال اللانظاميين، خاصة في الأردن ولبنان (أكثر من نصف العمالة في هذه البلدان).
«حالة الاستثناء» النقابية
حالة الاستثناء هذه انعكست أيضا على الحركة النقابية، فالعمال اللانظاميون يقبعون أيضا في حالة «استثناء نقابية». بالفعل فشلت النقابات (المستقلة والرسمية على حد سواء) بالالتفات الى العمال اللانظاميين بالرغم من أنهم باتوا يمثلون معظم القوى العاملة. فنسبة الانتساب الى النقابات في البلدان العربية لا تتعدى الـ5 في المئة من العمال، يتركزون في المؤسسات الكبيرة ويعملون بشكل نظامي، بالرغم من أن المؤسسات الصغرى (أي التي توظف أقل من 5 عمال) تشكل أكثر من 90 في المئة من إجمالي المؤسسات في لبنان والأردن ومصر على سبيل المثال.
تغيّر بنية القوى العاملة وأنماط الانتاج لم ينعكس على الحركة النقابية التي تبدو أنها تماشت مع هذه التوجهات الاقتصادية وانحصر نشاطها بالدفاع عن المكتسبات المهددة، أي مكتسبات العمال النظاميين. وعلى سبيل المثال، يتركّز نشاط «الاتحاد العام التونسي للشغل» بين عمال القطاع العام، ويتركّز النشاط النقابي المستقل في لبنان على زيادة الحدّ الأدنى للأجور الذي لا يستفيد منه العمال غير النظاميين (أي معظم العمال). وكذلك الحركة النقابية المصرية المستقلّة وضعت الحدّ الأدنى للأجور بصلب مطالبها، على أهميته ومحوريته، ولم تستطع بعد أن تضعه في اطار مشروع اقتصادي يعاكس المسار التدهوري لبنى الانتاج في مصر. إلاّ أنه، وبرغم محاولاتها وسعيها لتنظيم العمال اللانظاميين، بقيت الحركة النقابية المصرية متمركزة بين عمال المؤسسات الكبرى.
أما في الأردن، فيبرز اختلاف لافت عن الحالة المصرية، في كون العمال المياومين في القطاع العام، وهم عمال غير نظاميين، كانوا من مؤسسي الحركة النقابية المستقلة، ونجحوا في تكوين نقابتهم المستقلة، ولكن لم ينعكس ذلك بعد على خطاب وطرق عمل هذه الحركة. فمؤخرا ركّزت النقابات المستقلة في الأردن، كما الرسمية، على تخفيض سنّ التقاعد المبكر للعمال الأردنيين. فحصرت نفسها بهذا المطلب الذي يخص العمال النظاميين فقط عوضا عن طرح مسألة الحماية الاجتماعية لجميع الناس. كما أن معظم النقابات المستقلة والرسمية تُقصي بشكل منهجي العمال المهاجرين عبر لوائحها الداخلية وعبر عدم الاكتراث بتنظيمهم، بالإضافة الى اعتبارهم كمنافسين لها.
بذلك نجحت السلطات العربية بجرّ الحركة النقابية معها خارج الاقتصاد اللانظامي وحصرها بما تبقى من انماط العمل السابقة، أي النظامية. وبالتالي، اقتصر العمل النقابي ضمن مؤسسات العمل الرسمية القائمة التي أصبح معظم العمال خارج نطاقها. فركزت النقابات على مطالب جزئية، تطال أقلية العمّال وتهدف الى المحافظة على مكاسب وامتيازات حصل عليها العمال في إطار إرساء الأنظمة لشرعيتها عبر التدابير الاقتصادية التي ذكرناها أعلاه. وذلك يعود لأسباب عدّة منها: 1) جمود العمل النقابي لعقود نتيجة التضييق على الحريّات النقابية، ما أدى الى تدجين العديد من النقابات وجعلها منفذ للزبائنية والامتيازات، 2) تحويل النقابات الى مؤسسات بيروقراطية يقتصر عملها على فض نزاعات العمل وتوفير الخدمات، 3) غياب الأطر الديموقراطية التي تتيح المجال امام اشراك جميع العمال في القرارات والهياكل النقابية بما يسمح بانتاج عمل نقابي بديل ومبتكر، 4) كون النقابات المستقلة انبثقت عن النقابات الرسمية مما لم يتيح بعد ابتكار الأدوات الجديدة والكسر مع الأنماط النقابية التقليدية.
الحركة النقابية العربية: الحاجة إلى أدوات مبتكرة
على ضوء ما ذكرناه أعلاه، يمكننا إعادة صياغة قصة البوعزيزي على النحو التالي: محمد البوعزيزي قدّم طلبا للحصول على عمل في الجيش وفي مجالات أخرى في القطاع العام، ولكنه رُفض لأسباب عدّة، منها الاتجاه الى تقليص حجم القطاع العام. كان عليه أن يعيل عائلته، فاقتنى عربة لبيع الخضرة. أصبح بائعا متجولا، أي عامل لحسابه الخاص (لانظامي) يفتقر الى أي نوع من الحماية الاجتماعية والأجر اللائق. كان يتعرّض لمضايقة الشرطة التي صادرت معدّاته، بالرغم من أن عمله لا يتطلب أي رخصة، لكنه يقع في حالة الاستثناء أي اللاقانون. البوعزيزي فقد وسيلته الوحيدة لإعالة نفسه وإعالة عائلته، بتخلي الدولة عن دورها في تأمين الحماية الاجتماعية لجميع المواطنين، وبغياب تنظيم نقابي يمثله يمكن عبره تأطير سخطه وحمل مطالبه.
لعبت الحركة النقابية دورا في تكريس حالة الاستثناء هذه عبر تعزيزها بفراغ تنظيمي متجاهلة التحوّلات الاقتصادية الجذرية التي مرّت وتمر بها المنطقة العربية.
قصة البوعزيزي (الثانية) والانتفاضات العربية التي كان في طليعتها العمال اللانظاميون تضع الحركة النقابية أمام جملة الأسئلة التي يتحتم الاجابة عنها، ومنها: ألا يجب اعتبار الباعة المتجولين وسائر العاملين لحسابهم الخاص عمّالاً لحمل مطالبهم وتنظيمهم؟ كيف التعامل مع انتقال الثقل العمالي من التركز في المؤسسات الكبرى العامة والخاصة الى تشتتها في مؤسسات بالغة الصغر؟ هل يمكن للحركة النقابية أن تدّعي التحدث باسم جميع العمال، في حين أنها تقصي معظمهم من مطالبها وخصوصا العمال.
المهاجرين؟
التغيّرات في بنية القوى العاملة تطرح معها مسألة إعادة النظر بأدوات عمل النقابات وطريقة تنظيمها كي تخلق لنفسها فضاءات عمل مبتكرة تتيح لجميع العمال المشاركة. وهنا تبرز أهمية اعتماد أشكال تنظيمية مختلفة تكسر مع المركزية التنظيمية التي تحصر العمل النقابي بالمجالس التنفيذية، عبر آليات وهياكل ديموقراطية تنبثق من القاعدة لتصل الى القمة وليس العكس، تستطيع التعامل مع تشتت القوى العاملة.
كما أن توسّع الأنشطة الريعية وازدياد الهشاشة الاجتماعية والاقتصادية لعموم الناس يدفعان بمزيد من العمال الى الانتقال من الاقتصادي النظامي الى اللانظامي، ما ينذر بتقلص مطرد لقاعدة النقابات التمثيلية. وذلك يزيد من حاجة الحركة النقابية الى إعادة تأطير مطالبها وعدم حصر نفسها بالدفاع عن المطالب الجزئية التي تعني العمال النظاميين، كي تطرح خطابا اقتصاديا واجتماعيا يعيد النظر ببنى الانتاج والسياسات الاقتصادية الشاملة.
الانتفاضات العربية بشعاراتها وضعت الحركة النقابية أمام مسؤوليتها كقوة اجتماعية من أجل الدفع نحو نموذج اقتصادي بديل ومنتج على أساس العدالة الاجتماعية. يبقى على الحركة النقابية، خاصة المستقلة منها، أن تأخذ بعين الاعتبار هذه المسائل إذا كانت تسعى الى طرح نفسها كبديل عن القائم.