مصر الآن تصنع الوهم، تحاول تصدير صورة الوطن الذي يحتوي الجميع ولا يفرق بين أحد بسبب اختلاف في المكانة الاجتماعية أو الموقف السياسي من السلطة. مصر بلد متحضرة ورائعة وديموقراطية فقط في الإعلانات، أما الواقع فمختلف تماماً.
الوهم الأول: مصر للجميع
"لا لمحطة المترو الجديدة.. لا لتدمير حيّ الزمالك"، هذا عنوان ملصق وضعه أهالي حيّ مترف في القاهرة، هو حيّ الزمالك، حيث رفض أهاليه فتح محطة للمترو الجديد في حيّهم، وذلك وبحسب تعبيرهم، من أجل "عدم الاختلاط مع عامة الشعب". وحاول البعض منهم تبرير ذلك الموقف برفضهم حدوث العشوائية، وظاهرة التجمُّع السكاني، والضوضاء، في الحي الهادئ.
وعلى الرغم أن هذه كارثة، إلا ان الكارثة الكبرى حلّت بموافقة الحكومة على تلك الرغبة، بل وإعلان عدم فتح محطة المترو بالحيّ من أجل عدم اختلاط هذه الطبقة المترفة بالطبقة السفلى، أي عامة الشعب من الفقراء.
ويبدو أن الثورة التي قامت في مصر منذ ثلاث سنوات، من أجل المساواة بين كل المواطنين، كأنها لم تقع. وأما نزول الدولة عند رغبة هؤلاء فهو تمييز سلبي ينسف أي أوهام عن مصر كوطن للجميع. وفي ظل هذا التمييز البيّن والتهميش الكبير، فهناك معركة اجتماعية قريبة متوقعة قد يكون ثمنها باهظ للغاية.
الوهم الثاني: مصر دولة ديموقراطية
لأول مرة في تاريخ الاستحقاقات الدستورية، يعلن رئيس مصر عن استفتاء على الدستور يدعو فيه الشعب للتصويت والاختيار، ولكن كل شيء معد ليكون من سيُصوّت بنعم هو من له حق المشاركة والتعبير والاختيار، أما من سيُصوّت بلا أو يعلن ذلك، فيواجه كل تضييق وعنف وضرب شرس. وهناك حادثة متداولة حدثت مع أحد الفتيات التي كانت تقف بسلمية في طابور الاستفتاء، وسألتها سيدة تقف معها عن تصويتها، فأجابت الفتاة أنها ترفض بعض مواد الدستور وبالتالي سوف تُصوّت بالرفض. لم تكمل الفتاة كلمة "لا" حتى انقضّ عليها عدد من المتجمعين وضربوها، سيدات ورجال، بل اعتبروها خائنة واتهموها بأنها إخوانية وإرهابية، ولم تتحرك عناصر الشرطة، بل وقفوا يتفرجون، طالما أن من يقع عليه العنف خصم سياسي.
كذلك فإن أخبار القبض على بعض من كانوا يوزعون منشورات تدعو بالتصويت بالرفض على الدستور، هي أخبار عادية. وفي ظل هذا التضييق الشديد بداعي الأمن القومي، سوف يؤول الوضع إلى مجتمع إقصائي يرفض الآخر طالما أنه مختلف معه ويؤيد العنف ما دام يطال الخصم.
بالمقابل، وأمام قسم شرطة الطالبية في شارع الهرم الشهير في الجيزة، وهو قسم ملاصق لمدرسة اقامت فيها لجنة للاستفتاء، تجمّع الناس كي يغنوا بنعم وكي يهتفوا للفريق السيسي ويرفعون صورته، وسط حماية وبهجة عارمة من الشرطة، بل إن أحد المواطنين تسلق عربة شرطة وأخذ يرقص فوقها، ويهتف بنعم، ويهتف للفريق السيسي دون أي تدخل من الشرطة التي كانت تحرسه، طالما أنه مندمج مع السلطة ويعبر عنها.
الوهم الثالث: ضرورة أن يحكم الجيش ليواجه الإخوان
الجيش ممثلاً بفكرة ترشُّح السيسي ليس في حاجة لمنصب الرئيس كي يواجه الإخوان، وفكرة وجود السيسي بشخصه في رئاسة مصر بعد الإطاحة بالرئيس الإخواني السابق محمد مرسي عن طريق السيسي نفسه، سوف تغلق الدائرة القانونية لفكرة الانقلاب، وتصبح حقيقة، بتدخلٍ الجيش من أجل السلطة، رغم أن الإطاحة بالرئيس الإخواني كانت رغبة شعبية بالأساس. ثم ان الدولة الأمنية، ممثلة بوزارتي الدفاع والداخلية، وأجهزة كل منهما، كفيلة بالتعامل مع خطر الإخوان القائم والمستقبلي دون الحاجة لوجود رئيس عسكري يُعيد مصر إلى الخلف.
فالإخوان انتهوا ولن يعودوا، وسوف يتلاشون أكثر مع الوقت لأنهم ما زالوا يعيشون دور الضحية، ولا يعترفون بدور المخطئ. ذلك أن المخطئ قد يعرف خطأه ويعترف به ويُقيّمه ويقوّمه ويصبح أفضل، بينما الضحية سيظل دوما يبحث عن جلّاديه وعن الجُناة فيتقمص أكثر دور الضحية الذي لا يعيش بغير جلاد أو جاني.
الإخوان هم أعداء أنفسهم قبل أن يكونوا أعداء الوطن، والجيش أحق بأن يحتفظ بموقفه التاريخي المنحاز للشعب في الإطاحة بحكم الإخوان الفاشل من دون أن يجعل السلطة تُفقِد هذا الموقف التاريخي بريقه المتوهج.
القادم بين المتوقع والتمنيات
التوافق داخل الجيش على ترشُّح السيسي لحكم مصر وسط تأييد شعبي ليس بقليل، سيصب في مصلحة موقف الإخوان عالمياً أكثر مما في مصلحة مصر داخليا. وبين كل هذه الألاعيب السياسية والوضع الاجتماعي المهترئ، يبدو أن مصر أمامها مشوار طويل كي تصبح كما تستحق: أفضل!