أفضى واقع الثورة في مصر إلى أحداث وتطورات متسارعة متشابكة ومعقدة، حتى تحولت الساحة إلى ما يشبه مباراة كبيرة بين فريقين، يمتلك كل منهما أدوات ضغط ومساحة متفاوتة من التأييد الشعبي، وإن كانا فريق قوي وفريق ضعيف. ويجعل هذا مصر تعيش معضلة كبيرة، تبدو فيها الحلول في كثير من الأوقات تكريساً للأزمة لا العكس، ما يثير السؤال حول جدوى الاستمرارية في هذا الطريق، حيث يبدو الوطن وكأنه لم يعد يتسع لمجتمعين مختلفين، أحدهما يؤيد ما حدث في الثالث من تموز/ يوليو الماضي (عزل مرسي) وآخر يرفضه تماما وينكره ويريد إنهاءه. ومع الوقت تحول الصراع إلى صدام، وباتت مصر تبحث عن خروج آمن لها من كل ذلك.
جدران القاهرة: ثورة الأحرف السياسية اللاذعة
تكرس الشوارع هذه الأيام مجتمعين يعيشان في وطن واحد، وكل منهما يتعامل مع موقفه باعتباره الحقيقة المطلقة، بل ويتعامل مع الطرف الآخر على أنه فاقد لمصريته. عدد كبير من الجدران في القاهرة والمحافظات المصرية تحولت إلى مسرحٍ ترقص فيه الأحرف، إما منددة بعزل الرئيس السابق مرسي أو مؤيدة له. ويظل الفريق السيسي هو الأكثر حضوراً وسط هذه الأحرف المتناثرة، إما بتخوينه أشد تخوين وسَبّه بأقذع الشتائم، أو باعتباره بطل مصر وقائدها وناصرها الجديد وأملها المتجدد. وتتفاوت العبارات في صياغتها وقوتها أو ركاكتها بهُوية مَن يكتبها، وهو ما يعكس تفاوتا كبيراً ثقافياً واجتماعياً، بقدر ما يعكس الاستقطاب الذي وصل إلى درجة غير مسبوقة في المجتمع المصري. وينشغل الفريقان بصراع محتدم حول تسمية ما حدث في الثالث من تموز/يوليو، حيث يعتبر الفريق المؤيد لعزل مرسي أن ما حدث هو ثورة شعبية أيّدها الجيش، بدليل الحراك الواسع في الشارع في تظاهرات الثلاثين من حزيران/يونيه، وأن خارطة الطريق التي طرحها الجيش حينذاك تحدد مستقبلا، الإخوان فيه خارج السلطة. بينما يرى الفريق الآخر أن ما حدث هو انقلاب لأن الجيش تدخل وانحاز للطرف الآخر من دون أن يعرض الأمر على استفتاء شعبي يؤكد أو ينفي الشرعية القائمة آنذاك. وربما تأتي حجة الإخوان والمتعاطفين معهم ضعيفة في القول بأنه كان يجب العودة للصندوق من أجل اختبار الشرعية، إذ يتناسون أن مصر تحوّلت في تلك التظاهرات الهائلة إلى صندوق بطول البلاد وعرضها، وكذلك يتناسى الإخوان أن رئيسهم كانت أمامه فرصة لاختبار شرعيته وضيّعها، كما أجاد الإخوان تضييع الفرص المتاحة ليثبتوا أن حب مصر المجموع أكبر من مصر الجماعة، حيث انحازوا للجماعة في نظرة ضيقة للغاية جعلت عددا كبيرا من المصريين يعاديهم باعتبارهم أعداء للوطن، وهو ما ظهر في الشارع في أماكن متفرقة من هجوم على الإخوان ومحاولة للفتك بهم لولا تدخل الجيش والشرطة. وينذر الموقف باتساع دائرة الكراهية للإخوان، خاصة أن المزاج العام في مصر حالياً هو مزاج عسكري بامتياز.
الأنسنة تأن
تتلاشى إنسانيتنا مع الوقت في ظل هذه الموجات من العنف والأحداث الدامية وأعداد القتلى والمصابين، بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية. تتأوه مصر وتتوجع، بينما يجري تكريس وجود مجتمع يدعم الجيش وتدخله وخارطته، ومجتمع آخر مواز، عدو للمجتمع الأول، يدعم مرسي. يحكي شاب أصيب مؤخراً في إحدى التظاهرات بأنه ذهب إلى أحد المستشفيات وهو يكاد يموت، ولكن الطبيب الملتحي رفض علاجه لأنه مختلف معه سياسياً، وهناك صور لمواطن آخر في مقتبل العمر يموت وبجواره شرطي يقف ممسكًا سلاحه من دون اكتراث بمحاولة إنقاذه. مع الوقت، تتوارى إنسانيتنا وتصبح في المقاعد الخلفية من أحاديثنا ومن اهتماماتنا، حتى بات الدفاع عن احترام حق الجميع في الحياة سبباً كافياً للتخوين أو لاعتبار قائل ذلك من "الطرف الآخر"، العدو. وهو أمر يهدد النسيج الاجتماعي للوطن.
الإخوان: تمنيّ مكاسب خاسرة!
يحاول الإخوان رفع سقف مطالبهم بالتأكيد على ضرورة عودة الشرعية المتمثلة في الرئيس السابق مرسي، وهو مطلب يعلم قادة الإخوان جيداً أنه ضرب من المستحيل، وأنه بات جزءاً من الماضي. وهي محاولة للحفاظ على زخم في الشارع في أضيق حدوده. وكذلك يعي قادة الإخوان جيداً أنهم لو قبلوا بالاعتراف بالواقع فسوف يشهدون ثورة اخوانية ذاتية تطيح بهم. ومرور الوقت في غير صالح الجماعة لأنه، مع الوقت يزداد التشنج، ويصبح سقف المطالب أعلى، وما يمكن تحقيقه على أرض الواقع أقل، بعلاقة عكسية مستمرة. وهذا نوع من قصر النظر الذي يمارسه قادة الإخوان في بيع الحاضر والمستقبل من أجل العودة لماضٍ لن يعود، خاصة مع الملاحقات القضائية لقادة الجماعة ووجود مجتمع يؤيد الجيش نكاية بالإخوان، بل وقد يبرر العنف المفرط ضدهم حتى يتوقفوا عن التظاهرات التي لا تصنع أي تقدم سياسي، وخاصة في ظل ربط كل أحداث العنف التي تقع ضد قوات الجيش والشرطة بجماعة الإخوان ومناصريهم، حتى وإن لم يتم إثبات توُّرطهم في غالبيتها، باعتبارهم الوحيدين المستفيدين من زعزعة الاستقرار النسبي القائم. وهذه مراهنة على الوهم.
الخروج الآمن لمصر
مهما كانت أخطاء وخطايا الإخوان في السلطة، فلا يمكن أبداً إنكار أنهم جزء من الوطن، كما أن لفظهم لن يقصيهم ولن ينهيهم. ولأنهم لم يتعلموا من التاريخ وأداروا فشلهم بنجاح بالغ، فلا بد بالمقابل من تعلم الآخرين من التاريخ الذي يقول إن إقصاء الإخوان وسجنهم واعتقالهم في الماضي لم ينههم بل هم نجحوا بعد ستة عقود فقط من الوصول إلى قمة السُلطة في مصر.
استمرار الإخوان في إنكار الواقع سوف يمنح فرصة أخرى، أقوى، للجيش كي يلعب دوراً سياسياً كبيراً مدعوماً شعبياً. ومصر تستحق أن تخرج من ثنائية الأخونة أو العسكرة، لأن هناك كتلة ثالثة تعيش بين هذين المجتمعين لا تريد عودة الإخوان وفي الوقت نفسه تريد تحييد الجيش عن أي دور سياسي، تريد دولة مدنية بحجم تطلعات ثورة يناير بالأساس. وما يحدث اليوم يؤثر سلباً على الجانب الاقتصادي غير المستقر بالأساس، بمقدار ما يؤثر على الجوانب الاجتماعية والسياسية، وهو ما يجعل البلاد في مأزق، لا خروج منه إلا بصيغة توافقية، وهو ما يعني طرح ضرورة قيام حوار فاعل وجاد ومبادرات تقبل بعودة الإخوان مرة أخرى إلى شرعية الدولة المصرية، بعد إعلانهم التخلّي عن التشبث بفكرة عودة مرسي، وكذلك عن أي عنف بأي شكل من الأشكال، مع منحهم حق الإفراج عن أيّ من قادتهم أو مناصريهم من السجون من غير المتورطين جنائياً، والوقف الفوري للاعتقالات العشوائية والتحقيق في أي قتل تمًّ ضدهم أو منهم. وعلى السلطة والقوى السياسية المختلفة أن تعلن خريطة الطريق هذه بوضوح، وهي فرصة أخيرة لخروج مصر الآمن من المأزق الحالي.