نجح مسلسل "الاختيار 2، رجال الظّل"، في إحداث حالة من الجدل، لا سيّما بعد تطرقه في رابع حلقاته لأحداث فضّ اعتصام ميدان رابعة العدويّة العام 2013. حُذفت استثنائيا من هذه الحلقة الفواصل الإعلانية الطويلة والمعهودة في برامج رمضان، وعُرض دون انقطاع، ما اجتذب شريحةً كبيرة لمشاهدته.
أثارت الحلقة، التي تخللتّها مشاهد أرشيفية من الحدث، شجون جماعة الإخوان المسلمين. فقد قدمت السلطة عبر الدراما روايتها الرسمية عن الحدث الأهم في مصر خلال السنوات الماضية، وتقرر تخصيص مسلسلٍ كامل لسرد بطولات الشرطة المصرية في مواجهة الإرهاب، بغرض حشد الناس وكسب تعاطفهم مع الذين "يقدمون أرواحهم لحماية الوطن من شرور الإرهاب الإسلاموي"، وذلك ضمن خطّة إعادة الاعتبار إلى قطاع الداخلية بعد انتفاضة "يناير 2011".
رجال الشرطة كما نعرفهم
كان سلوك أفراد وزارة الداخلية برئاسة الوزير حبيب العادلي (1997/2011)، في مقدّمة أسباب معارضة نظام مبارك، في 25 كانون الثاني / يناير 2011، والذي كان في الأساس عيداً للشرطة، رغب المصريون في اقتناصه منهم، رافعين شعاراً شهيراً من بين هتافات الثورة: "الداخلية بلطجيّة". ومع تصاعد العنف ضد المتظاهرين، كان أول رد فعل من الناس، هو حرق أقسام الشرطة وسياراتها المصفحة، في مشهد نادر شهدته عدّة مدن ومحافظات على امتداد البلاد، ما أدى في النهاية إلى انسحاب قوات الداخلية، بعد ثلاثة أيام أنهكت قواها. ولم يتمكّن رجال العادلي من الصمود أمام إصرار الناس على الانتقام من منظومة استخدمت ضدّهم كافة أشكال القمع والتعذيب.
حوّلت إزاحة مبارك ونظامه عيد الشرطة إلى عيد للثورة. لكن سرعان ما أُفسح المجال أمام احتفالات الشرطة بعيدها، مقابل تصديها لموجة الإرهاب في ظل حالة الاستثناء القائمة منذ أكثر من 7 أعوام.
كان البطش والقبضة الأمنيّة الدامية، أبرز ملامح سلوك أفراد الشرطة خلال حكم مبارك، لكنه تزايد بشكل كبير خلال عشر السنوات الأخيرة من حكمه، ما ولّد ثأراً مباشراً بين الشعب وجهاز الأمن، وكان سبباً رئيسياً في تصاعد وتسارع موجة الغضب الشعبي ضد النظام.
تصورات النخبة الأمنية وخطابها حول حكم مصر
21-12-2017
على الرغم من القمع، استطاعت السينما تجسيد مدى تعقّد العلاقة، وتوحُّش سلطات رجال الداخلية عبر أكثر من فيلم، كان أبرزها وأكثرها نجاحاً، آخر أفلام الراحل يوسف شاهين "هي فوضى؟" (2007)، عبر أمين الشرطة "حاتم" وشخصيته المرصّعة بكل تفاصيل وسلوك رجال الداخلية في ذلك الوقت. عاش نموذج "حاتم" بكل تجلياته الواقعية في أذهان المصريين، حتى ظهر للعلن في مدينة الأقصر جنوب مصر، عبر "غرافيتي" بجملة "مفيش حاتم بيتحاكم"، بعد وفاة المواطن طلعت شبيب تحت التعذيب داخل أحد أقسام الشرطة بالمدينة، أواخر عام 2015، ما أشعل احتجاجات الناس مرّةً أخرى، واستدعى حاتم من مرقده.
إعلان الهدنة
بانسحاب قوات الشرطة من كافة أنحاء الجمهورية في 28 كانون الثاني/ يناير 2011، بدأت مرحلة من الهدنة الضمنية وغير المعلنة بين الشرطة والشعب. من جهة أخرى، قامت وسائل الإعلام المحلية بصنع صورة أخرى لضابط الشرطة ما بعد الثورة، باعتبارها ميلاداً لشرطي جديد ساعٍ لإرساء العدالة وحماية أبناء الوطن، وذلك عبر تكرار الحديث عن الانفلات الأمني الذي أحدثته الاحتجاجات، واللعب على وتر الأمن الذي لن يستتب سوى بعودة رجال الأمن إلى مقاعدهم سالمين.
قَدّم آخر أفلام يوسف شاهين، "هي فوضى؟" (2007)، أمين الشرطة "حاتم" الذي عاش كنموذج بكل تجلياته الواقعية في أذهان المصريين، حتى ظهر للعلن في مدينة الأقصر جنوب مصر، عبر "غرافيتي" بجملة "مفيش حاتم بيتحاكَم"، بعد وفاة المواطن طلعت شبيب تحت التعذيب داخل أحد أقسام الشرطة بالمدينة، أواخر عام 2015، ما أشعل احتجاجات الناس مرّةً أخرى، واستدعى حاتم من مرقده.
استمرّت الهدنة بالفعل حتّى خروج الناس ضد سلطة الإخوان المسلمين بعد عامٍ واحدٍ من تنصيب محمد مرسي رئيساً للبلاد. لكن مع فضّ اعتصام ميدانَي رابعة العدوية والنهضة، بدأ فصل جديد من العلاقة بين جهاز الشرطة والمواطنين، كانت الغلبة فيه لصالح الداخلية التي سُمِحَ لها بإعادة إنتاج العنف المعهود منها دون محاسبة، وهو ما برز في تصريحات وزير الدفاع آنذاك، عبد الفتاح السيسي، عن انتهاء عصر محاسبة أي ضابط يصيب أو يقتل مواطناً خلال أي اشتباكات.
استعادة الشوارع
حاولت وزارة الداخلية منذ الإطاحة بالرئيس السابق محمد مرسي، بذل جهودها لتعزيز شرعية النظام الجديد، وبدا حضورها مكثفاً عبر الدوريات والكمائن في الشوارع والميادين، واستمَرَّ الإعلام في إبراز الدور الهام الذي يلعبه رجال الشرطة باعتبارهم نواة الأمن والاستقرار، وهي كلمة سر ومفتاح النظام الحالي في مواجهة ما أسماه بـ"فوضى" ما بعد ثورة يناير.
تفحص لبعض ملامح "يناير 2011"
22-01-2021
كانت دعوات الاستقرار تتعالى مقابل المزيد من الدعايات الإيجابية لصالح جهاز الشرطة، وإعادة هيكلته لمواجهة الإرهاب الذي ضرب قلب القاهرة، ما بررّ الحضور المكثّف لقوات الأمن، ونقاط التفتيش المنتشرة في كل مكان، والتي كان لميدان التحرير منها نصيب الأسد.
حوّلت إزاحة مبارك ونظامه "عيد الشرطة" في 25 كانون الثاني/ يناير إلى عيد للثورة. لكن سرعان ما أفسح المجال أمام احتفالات الشرطة بعيدها، مقابل تصديها لموجة الإرهاب في ظل حالة الاستثناء القائمة منذ أكثر من 7 أعوام.
وبذريعة محاربة الإرهاب، أصبح الوجود الأمني مألوفاً لدى المصريين. ومع تكثيف الحديث عن شهداء الشرطة الذين لقوا مصرعهم على أيدي مسلحي الجماعات الإسلامية، بدأ الجليد في الذوبان. فيما تحوّلت احتفالات ثورة يناير إلى احتفالات عيد الشرطة من جديد، وشهد ميدان التحرير في الذكرى الثالثة لأحداث يناير، احتفالاً من قبل المواطنين برجال الداخلية لا بالثورة عليهم... ومع ذلك ظلّت العلاقة بين الجانبين شائكةً، نظراً للاعتقالات العشوائية الواسعة، التي طالت كل رموز المعارضة المصرية بكل اتجاهاتها، ووصلت إلى آلاف المواطنين، إسلاميين وغير إسلاميين، وإلى مناضلي حقوق الإنسان وإعلاميين وفنانين...
اختيارات شركة "سينرجي"
استكمالاً للبروباغندا الإعلامية لصالح رجال الداخليّة، مثلّت الدراما الرمضانية أسهل وأسرع طرق الوصول إلى عقل المواطن، وتجرعه حب رجال الجيش والشرطة إلى جانب وجبة الإفطار. وبعد استحواذ شركة "سينرجي" على الإنتاج الفني في مصر منذ عام 2018، قدّمت أولى اختياراتها رمضان الماضي، تخليداً لذكرى شهداء "كمين البرث" الذين سقطوا خلال مواجهة عناصر إرهابية في مدينة رفح (شمال سيناء) عام 2017.
لاقى المسلسل نجاحاً كبيراً، وأحدث جدلًا بين صفوف المعارضين، بعدما انقسموا إلى رافضين لكل ما يقدّمه النظام الحالي، متهمينه باستخدام الحرب على الإرهاب ذريعةً لإسكات الجميع، بينما رأى قطاع آخر من المعارضة نفسها وجوب الفصل بين بطولات الجيش والشرطة "الذين هم أبناؤنا وإخواننا"، وبين أي خصومة سياسية مع النظام تتعلّق بخياراته، ومنها ما يخص الحريات وحقوق الإنسان.
بعد فض الاعتصامين، بدأ فصل جديد من العلاقة بين جهاز الشرطة والمواطنين، كانت الغلبة فيه لصالح الداخلية التي سُمِحَ لها بإعادة إنتاج العنف المعهود منها دون محاسبة، وهو ما برز في تصريحات وزير الدفاع آنذاك، عبد الفتاح السيسي، عن انتهاء عصر محاسبة أي ضابط يصيب أو يقتل مواطناً خلال أي اشتباكات.
عكست مواقع التواصل الاجتماعي هذا الجدل العام الماضي، ووصل إلى مداه بعد هجوم إرهابي في مدينة بئر العبد / شمال سيناء، أسفر عن مقتل وإصابة 10 أفراد من عناصر الجيش المصري، ثامن أيام شهر رمضان، ما زاد من الإقبال الجماهيري على مشاهدة المسلسل الذي نال استحساناً بشكل عام، حتّى أعادت فضائية "E ON" عرض حلقاته الأخيرة خلال أيام عيد الفطر، بناءً على طلبات المشاهدين. وهكذا، سرعان ما أعلنت الشركة المنتجة عن الجزء الثاني من المسلسل، تخليداً لذكرى ضحايا الشرطة الذين سقطوا على أيدي جماعة الإخوان المسلمين، وهو ما أعاد حالة الجدل، مع اتهامات إلكترونية تلاحق من يعترض على هذا النوع من الدعاية الدرامية، بالخيانة والعمالة لجهات خارجية، أو بانتمائه لجماعة الإخوان.
ملائكيّة رجال الظل
عمل صنّاع المسلسل على تقديم الجانب الإنساني لرجال الشرطة، دون إخلال باستعراض دورهم المهني. بدا أبطال "الاختيار"2 ملائكةً عاشوا بيننا، مثاليين مع العائلة والأصدقاء، حريصين على أداء الواجب، وفي المقام الأول منه حماية الشعب من شرور الإرهاب، والتضحية بأنفسهم زودا عن جموع المصريين. وعلى الرغم من أنّ مثالية ضباط الجيش والشرطة هي سمت أغلب الأعمال الفنيّة المصرية، إلّا أنّها أخذت شكلاً مبالغاً فيه خلال السنوات الأخيرة. وقد تربّعت على عرش هذه المثالية اختيارات "سينرجي".
استكمالاً للبروباغندا الإعلامية لصالح رجال الداخليّة، مثلّت الدراما الرمضانية أسهل وأسرع طرق الوصول إلى عقل المواطن، وتجرعه حب رجال الجيش والشرطة إلى جانب وجبة الإفطار. وبعد استحواذ شركة "سينرجي" على الإنتاج الفني في مصر منذ عام 2018، قدّمت أولى اختياراتها في رمضان الماضي، تخليداً لذكرى شهداء "كمين البرث" الذين سقطوا خلال مواجهة عناصر إرهابية في مدينة رفح عام 2017.
برز تنفيذ أحكام الإعدام قريناً لعرض "الاختيار" بجزئيه. في العام الماضي أُعدم قبيل عرض المسلسل، الضابط السابق بالقوات المسلحة، هشام عشماوي، وعُرض المشهد الحقيقي للإعدام في سابقة هي الأولى من نوعها. ومع "الاختيار 2"، نُفّذ حكم الإعدام بحق 17 متهماً في القضية المعروفة إعلامياً بـ"اقتحام قسم شرطة كرداسة"، بعدما تطرّق المسلسل لها خلال حلقة فض اعتصام رابعة العدوية.
هذه النوعية من الأعمال الدرامية ليست استحداثاً أو اختراعاً من قبل النظام الحالي، بل هي امتداد لنهج مسلسلات الثمانينيات والتسعينيات من القرن الفائت، مثل "دموع في عيون وقحة"، و"رأفت الهجّان" وغيرها، الموظفّة في المقام الأول لشحن "الروح الوطنية" لدى المصريين، والتي تبدو أن السلطة الحالية في أمسّ الاحتياج لشحنها.
شهد عام 2020، واقعتين في زمن متقارب، الأولى كانت مقتل الشاب إسلام استرالي في شجار بالأسلحة البيضاء، وقد اتهمت والدته رجال الشرطة بقتله، أعقبها مقتل عويس الراوي في مدينة الأقصر أمام ذويه برصاص فرد من الشرطة، ما أشعل غضب أهالي القتيلين، واندلاع احتجاجات سرعان ما أخمدتها القوة الأمنية.
برز تنفيذ أحكام الإعدام قريناً لعرض الاختيار بجزئيه. في العام الماضي نفّذ حكم الإعدام بحق الضابط السابق بالقوات المسلحة هشام عشماوي، قبيل عرض المسلسل، فيما عرض المشهد الحقيقي للإعدام في سابقة هي الأولى من نوعها. ومع "الاختيار 2"، نُفّذ حكم الإعدام بحق 17 متهماً في القضية المعروفة إعلامياً بـ"اقتحام قسم شرطة كرداسة"، بعدما تطرّق المسلسل لها خلال حلقة فض اعتصام رابعة العدوية.
يبدو "الاختيار2" فعالاً في تحقيق هدفه، على الرغم من الممارسات العلنية لعناصر من الشرطة، من قتل في وضح النهار وأمام الناس. إلّا أنّ البروباغندا استطاعت تدجين قطاع كبير من المجتمع، تناسى التاريخ القمعي الطويل لأفراد الأمن، الذين تحوّلوا في غضون سنوات قليلة من آلة بطش لا تتوانى عن استخدام كل ما أوتيت من قوّة، إلى أبطال خارقين "يقدمون أرواحهم كقرابين لضمان حالة الاستقرار واستمرار عجلة الإنتاج في الدوران".
في مصر إرهاب دولة
24-05-2018
خوف الطغاة من الأغنيات
11-03-2018
تحت سطوة الحشد الإعلامي، لا يتبقّى أمام المواطن المصري سوى الوقوع في حالة من الشّك والإنكار. فأروقة جهاز الداخلية وحضور كوادرها في كل منحًى من مناحي الحياة اليومية، ومستويات الاعتقال الممتد والتعسفي الذي شمل عشرات الألوف من المصريين، لن يعزز الصورة الدرامية، لكنّ لعله يُحوّل العلاقة العدائية التاريخية بين الشعب والشرطة إلى علاقة رضائية، يرضخ فيها المواطن لسلطة رجال الأمن.