أمر معتاد أن تتصدر أنباء انهيار العقارات عناوين الأخبار في مصر، كونها تتمتع بالمواصفات المثالية للقصص الصحافية الجاذبة، من حيث أعداد الضحايا والقتلى، وغموض الأسباب والفاعل، وملامسة مخاوف القارئ من فقدان واحد من حاجته الأساسية، المسكن الآمن. كما أن ذلك النوع من الحوادث لا يدين أحداً بشكل مباشر، إذ ينتهى شغف القارئ لمتابعتها سريعاً، وبالتالي التغطيات الإعلامية، قبل صدور التقرير الفني الذي يدين الجاني سواء كان صاحب العقار أو الجهات الرقابية، ودون حصول الضحايا على حقوقهم أيضاً.
البيانات الحديثة الموثقة عن عدد العقارات المنهارة بشكل سنوي غير متوفرة، لكن خلال المسح السكاني الأخير في مصر - عام 2017 - الذي يجري بواسطة الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، رُصد ما يقرب من ثلاثة ملايين عقار بحاجة للترميم، تمثّل نسبة 23 في المئة من إجمالي 13 مليون عقار، هو عدد العقارات التي شملها التعداد على مستوى الجمهورية.
وإلى أن يحين موعد صدور المسح السكاني التالي، يمكن اعتماد تلك الأرقام في تحليل مشكلة انهيار العقارات في مصر، خاصةً مع عدم الإعلان عن حملات شاملة في المحافظات للترميم والإزالة، بينما كانت صدرت بخصوص العقارات المنهارة حديثاً قرارات إزالة سابقة بشأنها، تعود لعقود مضت.
ترميم أم إزالة
لا تمثل جميع العقارات التي تحتاج إلى ترميم التهديدَ نفسه على حياة قاطنيها. فالتقرير فصّل الترميمات المطلوبة من حيث الشدة، من الترميم البسيط إلى الترميم الشامل، فيما تمثل نسبة العقارات التي لا يمكن ترميمها، وتحتاج إلى إزالة كاملة 3 في المئة من إجمالي الرقم المذكور.
الانتشار الجغرافي للعقارات التي يلزم هدمها وفقاً للتقرير، يخالف التوقعات بانفراد محافظتي القاهرة والإسكندرية بالنصيب الأكبر. فنجد أن محافظتي الشرقية والمنيا ثم سوهاج والدقهلية هم أصحاب النصيب الأكبر من العقارات التي تمثل تهديداً مستمراً على أرواح قاطنيها.
أغلب العقارات في المحافظات الأربع تتكون من طابقين أو أربعة طوابق، لذلك فإن الحوادث الناجمة عن انهيارها لا تحمل خسائر كبيرة في الأرواح، بالمقارنة بخسائر مثيلاتها بالعاصمة على سبيل المثال.
ضحايا "محظوظون"
أثارت صورة انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي للعروسين سامح رمضان، وزوجته إسراء، تعاطف المتابعين، حيث ظهر الزوجان الشابان أثناء تفقدهما حطام العقار المنهار مؤخراً بمنطقة جسر السويس بمحافظة القاهرة، بحثاً عما يمكن إنقاذه من متاعهما المفقود أسفل الكتل الخرسانية ودماء الضحايا.
الحظ وحده كان كلمة السر في نجاة الزوجين حتى لا يكونا من ضمن الضحايا الأربع والعشرين لانهيار العقار المشار إليه، لكنهما في المقابل فقدا كل ما يملكانه، وحلّا ضيفين في منازل أقاربهم في انتظار تعويض ما، ربما يتأخر أشهراً أو لا يأتي من الأساس.
الانتشار الجغرافي للعقارات التي يلزم هدمها وفقاً للتقرير، يخالف التوقعات بانفراد محافظتي القاهرة والإسكندرية بالنصيب الأكبر. فنجد أن محافظتي الشرقية والمنيا ثم سوهاج والدقهلية هم أصحاب النصيب الأكبر من العقارات التي تمثل تهديداً مستمراً على أرواح قاطنيها.
رمضان الزوج شاب بسيط يتقبل برضًى كل ما حدث، ويتردد في الشكوى، إلا أن نبرة الحزن تمتزج بالتفاصيل الخاصة بتجهيزات مسكنه، الذي قام بتأجيره من مالك العقار المنهار بناءً على نصيحة أحد الأصدقاء، ومثلت حيطانه حلم الاستقرار مع من أحب، بعد عناء يعلمه جيداً كل شاب مصري ينتمي للطبقة المتوسطة التي يزداد تآكلها يوماً بعد آخر بفعل الغلاء.
حادثة انهيار هذا العقار نهاية الشهر الماضي، مثلت مأساةً حقيقية بسبب الخسائر البشرية من قتلى ومصابين، بعد أن تهاوت الطوابق الخرسانية العشرة فجراً، فيما لم ينجح أيٌّ من الناجين في استخلاص أي شيء من ممتلكاتهم.
في الوقت نفسه، كثرت التفسيرات حول أسباب الانهيار، فقيل أن أحد المستأجرين استخدم الأدوار الأرضية كمصنع، وعمد إلى إزالة أعمدة خرسانية فيه لزيادة مساحته، أو أن العقار خالف رخصة بنائه بالأدوار المحددة.. في حين نقلت وسائل الإعلام عن رئيس حي جسر السويس تصريحه بتحرير محضر مخالفة ضد صاحب العقار سابق على تاريخ الحادثة.
ما يمكن إيراده كنتيجة ليس سوى مؤشر كاشف للظاهرة وليست أرقاماً نهائية. وقد تبين أن هناك عشرين حادثة انهيار لعقارات عبر محافظات مصر، وصل عدد الضحايا فيها إلى 48 قتيلاً، و36 مصاباً بجروح، وإلى تشريد عدد غير محدد من الأسر. واحتلت محافظة الإسكندرية النصيب الأكبر من أخبار العقارات المنهارة.
تنوعت أسباب انهيار العقارات، ما بين صدور قرارات سابقة بالترميم أو الإزالة، أحدها تعدّى الثلاثين عاماً، إضافةً إلى تحرير محاضر سابقة بمخالفات، وأخطاء خلال تنفيذ التصميمات المعمارية. وهناك انفجار أسطوانة غاز، أو تراكم مياه الصرف الصحي أسفل العقار، فضلاً عن إزالة عقار مجاور.
الحقيقة ستظل مموهةً لحين صدور التقرير الهندسي حول أسباب الانهيار، وعليه ينتظر السكان الناجون التعويضات التي يمكن الحصول عليها من صاحب العقار، والتي تستغرق إجراءات معقدة وطويلة. أما الدولة فليس هناك ما يلزمها بتوفير مساكن مؤقتة لهم، على الرغم من تحرك وزارة التضامن الاجتماعي في حالات مشابهة لتقديم مساعدات عاجلة، لكنها تظل غير ملزمة بنص قانوني أو ما شابه، فتمنح أو لا تمنح.
هند أم معيلة وإحدى الناجيات، تعيش حالةً من الحزن والغضب، نتيجة الملاحقة الإعلامية لها كناجية حسنة الحظ، تقول هند: "تحدثت كثيراً للإعلام ولكن دون فائدة"، حتى الآن لا توجد مؤشرات عن إمكانية تعويضها بشكل عاجل عن خسارتها لمسكنها المريح، الذي يصعب تعويضه لكونه تمليكاً وليس إيجاراً.
وتنفيذاً لنصيحة أحد أصدقاء هند، قدّمت طلباً إلى وزارة التضامن الاجتماعي للحصول على إحدى الشقق المخصصة للإيواء العاجل، بصحبة عائلات ناجية أخرى، وحصلت بالفعل على وعد بتنفيذ طلبها، لكن خلال شهر أو اثنين، وهو ما يعنى حلولها ضيفةً هي وأولادها في منازل أقاربها لوقت أطول.
مؤشرات صحافية
قد يفيد استخلاص البيانات الخاصة بانهيار العقارات خلال الربع الأول من العام الحالي لفهم ما يجري . وما يمكن إيراده كنتيجة ليس سوى مؤشر كاشف للظاهرة وليست أرقاماً نهائية.
تبين في المراجع أن هناك عشرين حادثة انهيار لعقارات عبر محافظات مصر، وصل عدد الضحايا فيها إلى 48 قتيلاً، و36 مصاباً بجروح، وإلى تشريد عدد غير محدد من الأسر.
يمكن ملاحظة الخلل في العقارات بالإسكندرية بالنظر المجرد، فالعقارات المائلة منتشرة في الشوارع الداخلية في الأحياء الشعبية، وتزدحم المحافظة بما يقرب من مئة ألف عقار بحاجة إلى ترميم، من بينهم 2500 عقار يجب إزالتها وفقاً للمسح السكاني لعام 2017.
احتلت محافظة الإسكندرية النصيب الأكبر من أخبار العقارات المنهارة، وكان سوء الأحوال الجوية لفصل الشتاء يصاحبه أنباءٌ عن انهيار العقارات أو جزء منها، كعامل مساعد. تلتها محافظة المنيا ثم القاهرة والدقهلية. أما أسباب انهيار العقارات فتنوعت ما بين صدور قرارات سابقة بالترميم أو الإزالة، أحدها تعدّى الثلاثين عاماً، إضافةً إلى تحرير محاضر سابقة بمخالفات، وأخطاء خلال تنفيذ التصميمات المعمارية. وهناك انفجار أسطوانة غاز، أو تراكم مياه الصرف الصحي أسفل العقار، فضلاً عن إزالة عقار مجاور، ما ينتج عنه تهديد لسلامة العقارات الأخرى الملاصقة أو القريبة. وكانت أغلب تلك العقارات قديمةً من حيث تاريخ البناء.
بطء الإجراءات
يقول الدكتور سعيد علاّم، عميد كلية الهندسة بجامعة الإسكندرية: إن من الأسباب الشائعة لانهيار العقارات مخالفة الرسومات الهندسية للعقار، أو مخالفات الارتفاعات، فضلاً عن اشتراطات البناء من مواد وموقع وغيرها.
علاّم كان من ضمن لجنة فنية شاركت خلال عام 2017 في هدم أحد العقارات الآيلة للسقوط بحي الأزريطة بمحافظة الإسكندرية، وهي الواقعة التي شغلت وقتها الشارع الإسكندريَّ، بسبب تهديد العقار المائل لسلامة أربعة عقارات مجاورة، ما استلزم إخلاء تلك العقارات خلال مدة هدم العقار المشار إليه، والتي وصلت إلى أسبوع كامل. وهو يقول إن قرارات الإزالة للعقارات المخالفة، أحياناً ما يتأخر تنفيذها نتيجة لبطء الإجراءات، أو طعن أصحاب العقار، أو صعوبة تنفيذ قرار الهدم، والحاجة إلى إمكانيات يصعب توفيرها.
ويمكن ملاحظة الخلل في العقارات بالإسكندرية بالنظر المجرد، فالعقارات المائلة منتشرة في الشوارع الداخلية في الأحياء الشعبية، وتزدحم المحافظة بما يقرب من مئة ألف عقار بحاجة إلى ترميم، من بينهم 2500 عقار يجب إزالتها وفقاً للمسح السكاني لعام 2017 أيضاً.
مصالحة ممكنة
ومنذ نهاية آذار/ مارس الفائت، انتهت مدة السماح الخاصة بالتصالح في مخالفات البناء وتقنين أوضاعها، وفقاً للقانون رقم 17 لسنة 2019، والمعدل بالقانون رقم 1 لسنة 2020.
ويقضي القانون بجواز التصالح في مخالفات البناء وفقاً للقوانين المنظمة، مثل القانون رقم 119 لسنة 2008. وحدد القانون الجديد غرامات التصالح، لتتراوح ما بين 50 إلى 2000 جنيه للمتر المسطح الواحد، واستثنى من المصالحة المباني التي تهدد حياة ساكنيها، وتلك المقامة على أراضٍ مملوكة للدولة. وأثار القانون الجدل بسبب تحميل الساكن تكلفة المخالفات وليس فقط مالك العقار، فضلاً عن الازدحام الذي صاحب معاملات الانتهاء من إجراءات التصالح، رغم أجواء الوباء التي تستلزم التباعد الاجتماعي.
كمثال على عدم فاعلية المصالحة في كشف المخالفات أن عقار جسر السويس حصل على مصالحات، ومع ذلك تعرض قاطنوه لحادث الانهيار المروع، مع ما يشير إلى وجود مخالفات تسببت في ذلك الانهيار، وهو الأمر الذي أكده عدد من سكانه الذين أقروا إتمامهم للمصالحة قبل بضعة أشهر فقط من تاريخ انهيار العقار.
فهل يعنى التطبيق الصارم للقانون الجديد القضاء على ظاهرة انهيار العقارات المخالفة، عن طريق وضعها تحت رقابة الدولة، وتقديم الأوراق التي تثبت صحة العقار، ومن ضمنها الرسم الهندسي المعماري والإنشائي الذي يعدُّ أحد الأوراق الأساسية لعقد المصالحة؟ ..الإجابة لا!! وفقاً لمحمد عبد العال المستشار القانوني لـ"المركز المصري للحق في السكن".
يرى عبد العال أن الضغط لإحداث سرعة التصالح بتلك الكيفية حَوّل الرسومات الهندسية التي تثبت السلامة الإنشائية إلى مجرد تقارير روتينية، لكن في الوقت نفسه سيقضي قانون المصالحة باشتراطاته الحالية على البناء المخالف فيما بعد تاريخ العمل به، وهو أحد الإيجابيات الهامة التي يمكن أن تعمل على تنظيم البناء في مصر. دليل عبد العال على عدم فاعلية المصالحة في كشف المخالفات يتمثل في كون عقار جسر السويس حصل على مصالحات، ومع ذلك تعرض قاطنوه لحادث الانهيار المروع، مع ما يشير إلى وجود مخالفات تسببت في ذلك الانهيار، وهو الأمر الذي أكده عدد من سكان العقار عبر اتصالات هاتفية، الذين أقروا إتمامهم للمصالحة قبل بضعة أشهر فقط من تاريخ انهيار العقار.
هل تتحول مدننا إلى مطارات؟
27-12-2020
وبحسب عبد العال فإن مجموعة تشريعات الحق في السكن تحتاج إلى تعديلات تشريعية وتفعيل موادها، حتى تكون أكثر فاعلية في الحفاظ على ثروة مصر العقارية، من ضمنها قانون البناء، وقانون اتحاد الشاغلين، وقانون الإدارة المحلية.