مع التضييق الأمني على وسائل التعبير عن الرأي، تبرز السخرية كوسيلة للمقاومة. وهي معروفة في كل المجتمعات على مر الزمن، وناقشها بكل جدية في مؤلفات طويلة فلاسفة كـ"هوبز" و"كانط" وقبلهما "باسكال"، وقبل الجميع ناقشها الفلاسفة اليونانيون.
تلخص جملة الممثل الفرنسي الشهير والمناضل الساخر، كولوش، الموقف: "المزاح كان على الدوام مناهض للسلطة". والنكتة والسخرية وسائل معروفة لمجابهة الديكتاتوريات القاسية، التي لا يمكنها قمع ما يُتداول بهذه الطريقة، مما يساهم في كشف ازدراء الناس لجبروتها بالوسائل المتاحة، ومما يصيب في الوقت نفسه هذا الجبروت فيكسر صورته الكلية. ليست النكتة والسخرية، والضحك، حديثة في المجتمع المصري، فلقد وصف البعض الثورة المصرية في "25 يناير" 2011، بأنها "الثورة الضاحكة"، والشعب المصري لطالما وُصِف بأنه "ابن نكتة"... وهي قد تكون مريرة، وليس من تناقض.
وكان تقرير نشره موقع بي بي سي لإبراهيم الجارحي في آذار/مارس 2005، قد أشار إلى أن النكتة السياسية تعود إلى عصر الفراعنة، وأنها مدونة في بعض كتابات ذلك العصر، وإلى ما عرف بـ"المضحك - خانة الكبرى"، وهي عبارة عن مقهى أنشئ في حي باب الخلْق بالقاهرة، وكان قبلة للساخرين ومؤلفي النكات السياسية التي كانت تستهزئ بالاحتلال البريطاني آنذاك، وكان أيضا هدفا للشرطة المصرية للقبض على هؤلاء الساخرين، إلى أن أغلقته في نهاية الأمر.
وفي العصور الحديثة كان الكاريكاتير والنكتة السياسية حاضرين زمن عبد الناصر، ثم زادت وتيرتهما ضد السادات، ومبارك. لذا كان من الطبيعي أن يمتلئ ميدان التحرير إبان الثورة بلافتات ساخرة مثل "ارحل بقى ايدي وجعتني" أو "إرحل عشان عايز احلق"، وحتى بعد تنحي مبارك، مثل لافتة "ارجع يا مبارك احنا كنا بنهزر معاك".
أساحبي
والسياسة بعد الثورة أصبحت محور اهتمام غالبية المصريين، خاصة الشباب، لذا انتشرت أنواع جديدة من السخرية السياسية: برامج ساخرة مثل برنامج باسم يوسف، دمية ساخرة مثل "أبله فاهيتا"، فيديوهات وأغاني ساخرة عديدة مركبة على مقاطع مسجلة لسياسيين، أو حتى عرائس ساخرة تجوب الميادين في التظاهرات والاعتصامات لتسخر من قيادات سياسية، بالإضافة إلى النوع الأكثر انتشارا وهو "القلش السياسي" أو "السخرية الالكترونية" بواسطة "فوتوشوب" و"كوميكس". انتشرت صفحات متخصصة في هذا النوع من السخرية على شبكات التواصل الاجتماعي وكانت أشهرهم صفحة Asa7be Sarcasm Society المعروفة باسم "أساحبي".
لم يكن هناك تخطيط للصفحة، بدأ الأمر باختراع شخصية أساحبي والسخرية من الأخبار السياسية في شكل "الكوميكس"، وفي خلال شهر وصل عدد المتابعين للصفحة إلى 220 ألفاً. حينئذ بدأ المؤسسون بأخذ الموضوع بجدية، وبتشكيل فريق يصل عدده الآن إلى 30 شخصاً، بعض أعضائه تتراوح أعمارهم ما بين الـ 12-15 عاماً. الصفحة يتابعها الآن حوالي أربعة ملايين وثلاثمائة ألف شخص. يقول أحمد عبد العزيز (24 عاما) وهو يعمل في مجال الدعاية والإعلان، وواحد من مؤسسي هذه الصفحة، منذ عامين: "ما ساعد على انتشار الصفحة واعتبارها صفحة ثورية، انها غير تابعة لأي جهة، بالإضافة إلى ارتباط كل شيء بالسياسة بعد الثورة، ورغبة الناس في متابعة الأخبار السياسية بشكل ساخر".
المعيار في اختيار "الكوميكس" أن تكون ساخرة وأن تقدم معلومة، وهذا يقيمه فريق الصفحة. وتتراوح الأعمال المنشورة ما بين أعمال أعضاء الصفحة أو أعمال يرسلها المتابعون، ولكن أغلبها يحمل "لوغو" الصفحة، ما يلزم قبلا المؤسسين بالتأكد من مصدرها. يقول أحمد عن السخرية كوسيلة ثورية: "السخرية تنتشر اكبر وأسرع من الكلمات العادية، لأنها توضح المشكلة بشكل بسيط ومضحك، وبالطبع يكون لها تأثير اجتماعي وسياسي، ربما يحتاج الى مدى طويل. لكنه لا يمكن أن يكون مفيدا لوحده، فبعض الأشخاص يرون أن السخرية قد تأتي لهم بحقوقهم، لكن حقيقة الأمر أنه على الجانب الآخر يجب أن يكون هناك حشد بالشارع مستعد للضغط لحل المشكلات السياسية والاجتماعية".
الفوتوشوب وسيلة
كان أبرزها حملة السخرية من خبر ترشح الفريق سامي عنان للرئاسة في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام الماضي. فبعد ساعات قليلة على نشر الخبر بصورة رسمية، امتلأت شبكات التواصل الاجتماعي بصور ساخرة، حتى وصل الأمر إلى تأسيس صفحة الكترونية تحت عنوان: "حملة سامي عنان للترشح للرئاسة لتعليم الفوتوشوب". مؤسس الصفحة الذي اكتفى بذكر الحروف الأولى من اسمه هو متخرج متخصص في الإعلام التربوي، يبلغ من العمر 29 عاما، جاءته فكرة الصفحة واسمها من تعليق أحد الأصدقاء على كمية الصور الساخرة التي ظهرت بعد خبر ترشح عنان.
كان مؤسس الصفحة يتعلم "الفوتوشوب" بنفسه، وكان لديه صفحة ساخرة بالفعل، ولكنه غير اسمها لاحقا حين توفرت لديه 12 صورة فوتوشوب ساخرة لسامي عنان. هو أيضا مؤسس لصفحات أخرى ساخرة تحمل أسماء مرشحين آخرين للرئاسة، تبقى هذه الصفحة أشهرهم. يقول عن الصفحة: "الفكرة توجيه رسالة إلى الناس عن طريق صورة أو فكرة تعبر عن الرأي وتضحكهم من دون الخروج عن حدود الأدب، وفي الوقت نفسه تعطي مساحة للشباب الموهوبين لعرض موهبتهم من خلال هذه الصور".
عدد متابعي الصفحة وصل بعد ساعات من إنشائها إلى 30 ألف شخص ووصل الآن إلى 51 ألف متابع. الانتشار الواسع لهذه الحملة جعل الأمر موضوعا للإعلام. يقول مؤسس الصفحة عن ذلك: "ربما لا تقع الخطورة على من يقومون بعمل الصور "الفوتوشوب" لكثرة عددهم، بقدر ما تقع على مؤسسي الصفحات، وذلك بسبب تقييد الحريات، واتهامات الإعلام لمؤسسيها بالعمالة وغيرها". وهو يرى أن هذا النوع من السخرية له تأثير إيجابي، وبالفعل قد يدفع الى التراجع عن القرار الذي تمت السخرية منه. يقول: "يمكن اعتبار صور الفوتوشوب كاستبيان يعرض آراء الناس حول أمور معينة، هو وسيلة مثله مثل القلم أو الكاريكاتير".
التضامن مع الدمية
تحويل بلاغ للنائب العام للتحقيق بتهمة أن الدمية الساخرة "أبله فاهيتا" تقوم بإرسال رسائل مشفرة تحرض على الإرهاب من خلال إعلان تليفزيوني لإحدى شركات الاتصالات المصرية، كان واحدأ من أبرز حملات السخرية التي جرت مؤخرا على شبكات التواصل الاجتماعي. وهناك حملات أخرى كالحملة على "حملة نعم للدستور"، وعلى شخصيات سياسية مثل السيسي وغيره، وعلى قانون التظاهر وموضوع التنصت على مكالمات النشطاء السياسيين وغيرها. واحدة من الصفحات الساخرة هي صفحة "Contemporary Art" التي تأسست في منتصف عام 2012 ، بالرغم من أن فكرتها تدور في ذهن المؤسس منذ العام 2010.
يقول مؤسس الصفحة الذي يفضل عدم ذكر اسمه، إن الأمر بدأ بـ"الاهتمام بتجميع الصور الفنية، وكانت اغلبيتها أجنبية". ربما ينبع هذا الاهتمام من مجال عمل مؤسس الصفحة كفنان تشكيلي، ولكنه لا يشارك في تصميم هذه الأعمال، بل ينشر المرسل خصيصا للصفحة، أو أعمال نشرت في صفحات أخرى، ويعتبرها جميعا أعمالا فنية. كتب على الصفحة انها محاولة لتوثيق تاريخ شبكة الانترنت في هذه المرحلة المهمة، وكان له صفحة أخرى ساخرة تأسست بعد الثورة مباشرة وقامت بتجميع صور ساخرة في ألبومات، مثل "الراجل اللي ورا عمر سليمان"، أو البوم "انتخبني"، للسخرية من مرشحي الرئاسة في بداية 2012.
واستمرت هذه الحملات لفترة، قبل أن تغلق الصفحة بسبب حملات الكترونية عنيفة ضدها، حتى عادت بهذا الاسم الجديد في منتصف 2012 ليصل عدد متابعيها الآن إلى حوالي 255 ألفاً. يقول عن علاقة صفحته بالثورة إن "الفن المعاصر مرتبط بالحياة الاجتماعية والسياسية بشكل كبير، وهناك أنواع من الفن السياسي كثيرة مثل الكاريكاتير وفنون الديجيتال آرت"، ويضيف: "الصور الساخرة هي مرايا لما يحدث في الواقع من ثورة أو أي شيء سياسي أو اجتماعي. الصور الساخرة هي طريقة من طرق التعبير المعترضة على أحداث في المجتمع، لذلك من الطبيعي أن تكون الصور مواكبة لأحداث الثورة".
تحمل الصفحة الآن حوالي ثلاثمئة ألبوم من الصور، بعضها يقوم مؤسس الصفحة فقط بتجميعها، والبعض الآخر تكون نتيجة لطرحه فكرة كموضوع لألبوم ليبدأ في تلقي الصور الساخرة في هذا الموضوع، وهذا ما حدث في حملة "ابله فاهيتا" على سبيل المثال.
ربما كانت الصورة الأبرز مؤخرا هي تلك التي أرسلتها إدارة الشؤون المعنوية للجيش المصري لبعض الصحف، وفيها استعراض للجنود المفترض بهم تأمين الاستفتاء على الدستور. وإلى جانب الخطأ الإملائي لوصف "دورية التأمين" في الصورة، فقد احتوت أيضا على جنود يرتدون بدل حمراء ضخمة واقية تشبه شخصيات الكرتون. شكك الكثيرون في صحة الصورة، ظنا منهم انها "فوتوشوب".
وفي الحقيقة كانت صورة "فوتوشوب" رسمية، من صنع الدولة.