وافق قسم التشريع بمجلس الدولة في مصر، وهو الهيئة القانونية التي تختص بمراجعة القوانين قبل إصدارها، على مقترحات لتعديل قانون تنظيم الجامعات كان قد تقدمت به وزارة التعليم العالي. وتشمل التّعديلات التي وافق عليها مجلس الدّولة نصوصا خاصة بتنظيم العمل وحق الإجازات والإعارة خارج الجامعة، وكذلك وضع ضوابط إضافية على تعيين المتفوقين في السلك الجامعي. ولكن الى جانب هذه المواد النمطية، فوجئ الرأي العام الجامعي بوجود مادة تحمل الرقم 189 وتنص على أن تتصرف الجامعة في أموالها وتديرها وكذلك أن تقوم الجامعة بتوفير موارد ذاتية، ثم أضيف في المادة "بما في ذلك" المساهمة في دعم وإنشاء الجامعات الاهلية أو القيام منفردة أو بالاشتراك مع القطاع الخاص والأهلي في المشروعات ذات الطبيعة التعليمية والبحثية، على إن يخضع التصرف في أموال الجامعات وإدارتها الى اللوائح المالية والحسابية التي تصدر بقرار من الوزير المختص، وهو وزير التعليم العالي بعد أخذ رأي الجامعات.
المجانية للجميع
في عام 1958، اصدر الرئيس عبد الناصر مرسوما بمد مظلة التعليم المجاني لتشمل التعليم الجامعي وهو ما أدى إلى رفع الأعداد المقيدة بالجامعات، وكذلك رفع أعداد المبعوثين إلى الخارج. واستمر الحال هكذا أكثر من ثلاثين عاما، حتى جاء الاتفاق مع صندوق النقد الدولي في أوائل التسعينات وبدأت نظم جديدة تسمى "بمصروفات" تطبق داخل الجامعات نفسها مع عدم التخلي عن مكتب التنسيق ومجموع الدرجات كشرط للقبول بالجامعات، بما في ذلك القبول داخل الأقسام بمصروفات. ولكن مع نقص وانحسار المبالغ التي تخصص للإنفاق على التعليم الجامعي، وعدم التوسع في إقامة جامعات جديدة لمواجهة زيادة الاعداد وزيادة الطلب على التعليم العالي، وافقت سلطة مبارك عام 1996 على السماح للقطاع الخاص بإنشاء جامعات، وسمح لها القانون بأن يكون من أهدافها الربح. ولكن ظلت أحوال الجامعات الحكومية كما هي وموازنتها المالية تأتي من الحكومة للإنفاق على الأساتذة والطلاب، ولم يجرؤ مبارك وحكومته التي كانت تعبر عن أقصى اليمين الجديد، من الاقتراب من ملف الخصخصة والشراكة مع القطاع الخاص. والآن عاد هذا الملف للظهور بقوة، خاصة مع التعديل القانوني الأخير الذي سيرسله مجلس الوزراء إلى الرئيس السيسي لإصدار التعديل التشريعي الذي يملكه الرئيس الآن قانونا في غياب المجلس التشريعي.
في المقابل، كان عدد من رؤساء الجامعات الحكومية قد اعترضوا على نظام ترشيد المجانية الذي اقترحه المجلس الرئاسي للتعليم. ويرى رئيس جامعة القاهرة أننا نحتاج أن ننتقل من نظام إلى آخر بهدوء بدون صدمات كهربائية، فلا يجوز أن ننتقل من نظام مجانية كامل الى إلالغاء وتطبيق نظام المنح المجانية للمتفوقين فقط، كما يقترح المجلس الرئاسي، وإنما يجب أن نبدأ بخطط تقترح أن ترفع المجانية عن الراسبين، ولكن لا يمنع أن يدفع طلاب المدارس الخاصة مصروفات عند التحاقهم بالجامعة الحكومية. وهذا أحد الحلول لانه يمكن أن يوفر مليار جنيه سنوياً للجامعات، تساهم في تحسين الخدمة المقدمة للطلاب والاساتذة.
لغة الأرقام
طبقا للغة الارقام في الاحصاء السنوي للدولة الذي يصدره الجهاز المركزي للإحصاء، فان عدد الجامعات الحكومية وصل إلى 24 جامعة بما فيها جامعة الازهر، وهي الاكبر على الاطلاق، حيث وصل عدد الطلاب فيها الى ما يقرب من ربع مليون طالب من إجمالي مليون و654 ألف طالب وطالبة بالجامعات الحكومية، ينفق عليهم جميعا أقل من 2 في المئة من الناتج القومي، بموازنة تصل إلى أكثر قليلا من 10 مليار جنيه، أي حوالي مليار ونصف مليار دولار يذهب أكثر من 80 في المئة منها للمرتبات. وهذا يعني أن ما يصرف على الطالب في المجانية قليل للغاية، لا يتجاوز 200 دولار سنويا فى الكليات النظرية، التي طبقا للإحصاء السابق تستحوذ على أكثر من 75 في المئة من إجمالي عدد الطلاب بالجامعات.
لم يعلن مسبقاً عن التعديل القانوني المقترح، بل على العكس كانت لجنة إعداد قانون جديد للجامعات تعقد الاجتماعات والمناقشات للتوافق حول قانون شامل يحل محل القديم المعمول به منذ عام 1972، لذا طرح المتخصصون سؤالاً أساسياً حول ما يحدث، ولماذا التعجل بتقديم تعديل قانوني في جزء واحد فقط بدل انتظار قانون متكامل يناقشه البرلمان القادم.
يتداول المجتمع الجامعي هذا الموضوع على صفحات التواصل الاجتماعي، وخاصة نشطاء الجامعة، مثل "جماعة 9 مارس" (واسمها يعود إلى تاريخ استقالة أول رئيس لجامعة القاهرة في أوائل القرن الماضي احتجاجا على تدخل الحكومة وأقالة د. طه حسين)، ويتحفظ عدد من الأساتذة كما جاء فى حواراتهم على هذه المادة القانونية التي شملها التعديل المفاجئ، ويرون أنها تحمل بداية النهاية لفكرة المجانية. فتمكين الجامعات الحكومية من إنشاء جامعات أهلية بمفردها أو بالشراكة مع القطاع الخاص يعني التحول من فكرة التعليم المجاني الى التعليم بمصروفات، ويعني أيضا أنشاء الكليات الموازية ليكون لدينا كلية مجانية وكلية بمصروفات. ويرى آخرون أن التعليم بمصروفات سوف تكون له الحظوة والاولوية في توفير كل إمكانيات التعليم الجيد، بدءا من المدرجات المناسبة والكتب الدراسية، كما أنه فى التعليم بمصروفات سوف تتاح فرص التدريب الجيد للطلاب مما لن يتاح لمرتادي الكليات المجانية. وكتب كثيرون ان الخصخصة ليست الحل، وإلا لأفلحت الجامعات الخاصة وبرامج المصروفات في إضافة وتحسين نوعية الخريج الجامعي، بينما أشار البعض إلى مبدأ تكافؤ الفرص، متسائلين عما إذا كان التعديل القانوني الجديد سيلغي الامتحان الموحد لشهادة الثانوية العامة أو البكالوريا المصرية، وكذلك معيار مجموع الدرجات ومكتب التنسيق للالتحاق بالجامعات، ام سيتم قصرها على الطلاب الفقراء فقط، وهل سيطلب شهادة فقر حال عند الالتحاق بالجامعة الحكومية، وماذا عن أوضاع هيئات التدريس ومعايير تعيينهم واختيارهم .
يبدو أن ضعف موارد الحكومة المصرية وعجز الموازنة، بالإضافة إلى مشاكل الإرهاب وغيرها، جعل الحكومة تستنسخ فكرة المجمع الإسكاني (compound) أي فكرة الأسوار المستقلة لتطبقها في التعليم الجامعي، وذلك على الرغم من أن وزيرة السكان في الحكومة الحالية صرحت أن من بين كل 100 طفل فقير يصل واحد منهم فقط إلى التعليم الجامعي والعالي.. فهل المقصود من التعديلات استهداف الطبقة المتوسطة؟