سيُتم أحمد طه عامه السادس عشر هذا الصيف، وهو يعمل مساعداً لمحمد عامل السيراميك الذي لم يتجاوز هو الآخر 23 عاما. سألتُ أحمد عن سبب غيابه عن المدرسة برغم اقتراب موعد الامتحانات فكان رده أنه تركها بعد أن حصل على الإعدادية الصيف الماضي ولا يفكر بالعودة إليها أو حتى الالتحاق بالتعليم المهني الفني. ولما سألته عن السبب، خاصة أن أحواله الأسرية تبدو معقولة وليس من المعدمين، أجاب "لأني لم أستفد شيئاً ولا حتى بالقراءة والكتابة"، وهو ما تأكدتُ منه حينما قال عن جريدة الأهرام إنها جريدة الأهرامات، وأن الخبر الأول عن السيسي، وهو لم يقرأ العنوان وإنما خمنه لأنه يحتوي على صور الرئيس، وعرف اسم الجريدة من وجود رسم الأهرامات!
القاعدة أم الاستثناء
حالة أحمد ليست استثناءً وليست محصورة بعدد قليل من التلامذة. قبل شهور، صرح محافظ البحيرة التي تجاور مدينة الإسكندرية، أنه أثناء تفقده لجان الامتحانات العامة سأل الطلاب عن مستوى الأسئلة فكان الصمت هو الجواب، ثم أمر طالب بأن يقرأ السؤال الأول فتعثر وفشل فى قراءته، واكتشف المحافظ أنها حالة عامة فى المدارس الحكومية بالمحافظة. وفي الأسبوع الماضي جاء الاعتراف رسمياً من جانب الوزارة المسؤولة، حيث أعلن وزير التعليم الجديد عن عدم قدرة حوالي مليون تلميذ في الابتدائي على القراءة والكتابة، وأضاف أنه قرر أن يكتشف الأزمة بنفسه، ولذلك عُقد امتحان مفاجئ في الإملاء أواخر نيسان/ إبريل الماضي لـ 3.2 مليون تلميذ في الصفين الثالث والرابع الابتدائي في كل المدارس الحكومية. وكشفت نتائج "الامتحان التشخيصي" كما أسماه الوزير، أن نسبة من يعرفون القراءة والكتابة في الصف الثالث الابتدائي 66.6 في المئة وفي الصف الرابع الابتدائي ارتفعت إلى 69.4 في المئة، أي أن ثلث الطلاب رسبوا، وهي نسبة كبيرة تقترب من المليون تلميذ. وطرح الوزير حلاً للكارثة يتمثل فى استمرار الدراسة صيفاً لهؤلاء الطلاب في برنامج علاجي يبدأ بعد شهر رمضان ويستمر خلال شهر آب/أغسطس، وهو الاقتراح الذي علقت عليه نادية جمال الدين، المديرة الأسبق لمعهد البحوث التربوية، قائلة "إن الحلول دائماً تأتي على حساب الفقراء، لأن طلاب المدارس الحكومية الآن هم من الفقراء والمعدمين ومن يدور فى فلكهم، وهم ينتظرون بفارغ الصبر الإجازة الصيفية للحصول على فرصة عمل تساعد الأسرة على المعيشة والحياة، لا سيما أن العطلة الصيفية في مصر تقترب مدتها من خمسة شهور كاملة، وبالتالي فهؤلاء الأطفال يمثلون رأس مال لأسرهم. والأفضل كما يقترح اختصاصيو علم النفس التربوي أن يتم الإعلان عن بداية مبكرة للعام الدراسي، وبذلك لا يشعر هؤلاء الطلاب أنهم معاقَبون وفاشلون فيكرهون التعليم والمدرسة. ويضاف إلى ذلك أيضاً سبب آخر هو مساواتهم فى موعد دخول المدارس مع طلاب التعليم الخاص والدولي". وتضيف "إن تفشي الأمية بهذه النسب المرتفعة هو نتيجة للتعليم الرخيص الذى يقدم في المدارس الحكومية. فهناك تدن في المخصصات المالية للصرف على المدارس، التي لا تتجاوز 3.2 في المئة من الناتج القومي، يذهب أكثر من 85 في المئة منها كأجور ومرتبات، بينما تكلفة الطالب لا تتجاوز ألف جنيه سنوياً، أي 125 دولاراً، بجانب ما يقرب من 20 في المئة من المدارس تعمل بنظام الدوامين، وأغلبها في الريف والصعيد، حتى وصلت الكثافة الطلابية فى بعض المحافظات مثل الجيزة الى مئة تلميذ في الصف الواحد في المرحلة الابتدائية. وبناء على سياسة التعليم الرخيص، لا بد أن تكون النتيجة أنه أصبح لدينا ظاهرة "كأن" التعليمية، أي لدينا فصول وكتب وطلاب ومدرسون ووزارة ومسؤولون وتصريحات يومية عن تطوير التعليم، والنتيجة أعلنتها الوزارة رسمياً بأن ثلث الطلاب أميون وحصلوا على صفر".
والمطلوب الآن أن نعرف النتائج التفصيلية للامتحان، لأن من حصل على درجات متدنية هو أيضاً يقترب من مؤشر الأمية. وكما انه على الجانب الآخر، سوف تساعد القراءة الجيدة للنتائج في التعرف على خريطة الفقر بدقة في مصر. والأرقام الرسمية التي أعلنتها وزارة التعليم عن تفشي الأمية بين الطلاب تقترب كثيرا من الارقام والنتائج التي نشرتها في "السفير العربي" عن أحوال الطبقة المتوسطة في التعليم، وملخصها أن فرصة التعليم المتوسط والجيد للهروب من شبح الأمية تقترب من نسبة 50 في المئة من طلاب مصر، أغلبهم في التعليم بمصروفات (غير المجاني، حتى لو كان رسمياً). وهكذا أصبحت الأمية في المدارس مرتبطة بمصطلح المجانية وليس بالفقر فقط، وبدأ معها موسم الهجوم على المجانية.
قُلْ الأمية وليس التعليم
في اجتماعهم الأول قبل شهور قليلة، صرح أعضاء المجلس العلمي أن الرئيس السيسي قال لهم إن حوالي 60 في المئة من طلاب التعليم الثانوي الفني لا يجيدون القراءة والكتابة، برغم انهم تخرجوا وحصلوا على شهادة الثانوي الفني. لغة الأرقام هنا توضح أن 68 في المئة من طلاب الإعدادية (المتوسطة) يلتحقون بالتعليم الفني، وهو تعليم مجاني بأكمله لا يلتحق به غير الفقراء. اللافت للنظر هنا أنه بعد هذه التصريحات وهذا الرقم المفزع، أعلنت وزارة التعليم عن إطلاق برنامج جديد في بداية العام الدراسي الحالي بأسم "القرائية" واعتبرته مشروعاً وطنياً! بل إن وزير التعليم السابق قال إنه حل عبقري لمشاكل القراءة والكتابة التي يعاني منها طلاب المدارس الحكومية، وعرض التجربة دولياً وعربياً، والجهود التى أدت كما قال إلى نجاح 80 في المئة من الطلاب الذين طُبق عليهم البرنامج وتحسن مستواهم، وهو ما دعا أستاذاً في المركز القومي للامتحانات إلى المطالبة بمحاسبة الوزير السابق (الذي ترك المنصب منذ ثلاثة أشهر) بتهمة إذاعة بيانات كاذبة والإعلان عن مشروعات وهمية، والدليل هو الإعلان الرسمي عن نتيجة الامتحان العام التشخيصي أعلاه.
رصف العقول
أين الحقيقة؟ خاصة أن هناك تشكيك في نتيجة الامتحان التشخيصي، إذ أكدت روابط المعلمين أن النسبة.. أكبر من ذلك بكثير، لأن كثيراً من المعلمين ساعدوا الطلاب فى الامتحان حتى لا يتعرضوا هم للمساءلة والتحقيق. الأزمة الأخيرة كشفت أيضاً عن قضية هامة تتعلق بالمستوى العلمي والاقتصادي للمعلمين (والأخلاقي)، وغياب مفهوم الرقابة والتفتيش على أعمالهم، مما أدى إلى شيوع حالة من اللامبالاة في عملهم أوصلت إلى هذه النتائج المفزعة.
تحتاج مصر الى مشروع وطني لرصف العقول عن طريق توفير الحد الأدنى من التعليم، ويتمثل فى محو الأمية الأبجدية للطلاب (ولن نقول محو الأمية التكنولوجية)، مثلما تفعل في المشروع الحالي الذي تسير فيه بسرعة الصاروخ، وهو رصف الطرق وبناء ناطحات السحاب.