سأبدأ من النهاية، عابراً السنوات الضائعة التي تتجمع الآن في ذاكرتي مثل أكوام من القمامة، أو مثل مقبرة كبيرة، النبش فيها يستدعي الجرأة على تقليب جثث الأصدقاء مرة أخرى، والبكاء عليها، ثم تركها ملقاةً على قارعة الطريق، يسيل منها دمٌ حار، يرسم خطوطاً تتجه إلى الغياب. النبش فيها يستدعي أن أترك جثثهم، لتكون عشاءً للكلاب السائبة، لكن لا جرأة لي على ذلك، أو لا طاقة لي على النبش في تلك المقبرة، الآن على الأقل.
ذلك أن البدايات التي أريد الانطلاق منها لسرد ما حدث كثيرة: الولادة بين حربين (الحرب العراقية الإيرانية، وحرب عاصفة الصحراء)، الطفولة في الحصار والجوع، الصبا في احتلال العراق وسقوطه ونشوب الحرب الطائفية، المراهقة في حقبة تنظيم "القاعدة"، الاقتتال السُنّي السُنّي بين الجماعات التي تبنَّت قتال الجيش الأمريكي في الأنبار، وجماعة التوحيد والجهاد، التي كان يقودها أبو مصعب الزرقاوي، والتي أرادت أن يكون القتال في النفس والبيت والشارع، وهذا ما حدث، أعني القتل. إذ كان الموت هو المشاع الوحيد في المدينة، تدل عليه الجثث المنتشرة على الأرصفة، والشوارع الخائفة، وفي الساحات الممتلئة بالنفايات والأجساد المتفسخة، كانت الجهات كلها نوافذ للموت والرعب، والخروج إلى الشارع مجازفة تستدعي الكثير من الصلاة والأدعية، ووصايا الأمهات بالحذر من كل شيء، فلا تدري أين يختبئُ موتك في تلك المدينة التي يشير كلُّ شيء فيها إلى الرماد، حتى اسمها.
إن لم تهرب الآن، ستموت غداً.. أو بعد قليل
تشرين الثاني/ نوفمبر كان مناسباً للرحيل، أو للهرب بمعنى أدق. الصباحات كانت نوافذ يدخل منها الموت، ويهزُّ غبارها القصف، ويكسر زجاجها الرصاص الذي يطلقه الجميع على الجميع. إن لم تهرب الآن ستموت غداً، أو بعد قليل. لذلك كان لا بدَّ من الرحيل، وهذا ما فعلته أنا: قُبلةٌ أخيرة على أنف الأميرة النائمة، هاجر، أختي الصغيرة، وركوع يليق بحضرة غنيَّة محمد جاسم، أمي، ثم الارتماء في حضنها الذي أنا بأمسِّ الحاجة إليه الآن، ووداع أبي الذي ظلَّ واقفاً مثل جندي على الساتر، حتى آخر لحظة. كنتُ أجلس في المقعد الخلفي للسيارة، وأتلفَّتُ إلى الوراء، أنظر إليهم، تتوارى أجسادهم خلف المسافة والغياب.
تشريح العزلة.. بورتريه لرجل خائف ووحيد
19-03-2020
قبل الخروج من المدينة إلى الأبد، كان لا بدَّ من زيارة أخيرة إلى المكان الذي ولدتُ فيه مرة أخرى، مكتبة الرمادي العامة، هنالك حيث أمضيت آخر 5 سنوات من عمري، أختبئُ من الحياة والناس، أقرأ الكتب، وأبكي مثل صوفيٍّ رقَّ حتى بات يرى الله في كلِّ شيء. هنالك حيث عرفت الشيخ خليل، وسلكتُ معه طريقاً قادني إلى الكشف والأسئلة. لكنَّ الرحلة انتهت في 14-02 -2014 عندما سقطت قذيفة هاون على حديقة المكتبة، قرب المكان الذي كان الشيخ يجلس فيه. وبعد عشرة أيام من الغيبوبة، رحل الشيخ متأثراً بجروحه البالغة، وبقيتُ أنا، خائفاً من المدينة والناس والحرب والموت. وحين أردتُ الرحيل أيضاً، قررتُ الانطلاق من المكتبة، لكن، هذه المرة وحدي.
كان الموت هو المشاع الوحيد في المدينة، تدل عليه الجثث المنتشرة على الأرصفة، والشوارع الخائفة، وفي الساحات الممتلئة بالنفايات والأجساد المتفسخة، كانت الجهات كلها نوافذ للموت والرعب، والخروج إلى الشارع مجازفة تستدعي الكثير من الصلاة والأدعية، ووصايا الأمهات بالحذر من كل شيء.
في الثامن من تشرين الثاني/ نوفمبر 2014، أغلقتُ آخر باب في المدينة، باب المكتبة، وركبت مع أربعة أشخاص نحو بغداد، ومنها سأستخرج جواز سفري وأطير إلى إسطنبول. المسافة بين الرمادي وبغداد 108 كيلومترات، وعشرات الحواجز الأمنية وآلاف الجنود والمسلحين، وقوافل لا تحصى من النازحين، كنتُ واحداً منهم، أحمل حقيبة صغيرة، وذاكرة ثقيلة، وهواجس عن الموت والنجاة.
المسافة إلى بغداد
الطريق الذي يستغرق ساعة وبضع دقائق، قطعناه بتسع ساعات ونصف. كانت المسافة إلى بغداد مقسمة إلى خمس مناطق أمنية، كل واحدة منها يسيطر عليها تشكيل عسكري من الجيش أو الشرطة أو ميليشيا الحشد الشعبي، التي كانت بعض الفصائل فيها، مثل "كتائب حزب الله العراقية"، و"عصائب أهل الحق" الموالية لإيران، تنصب كمائن للنازحين وتختطف الرجال والشباب منهم، وتخفيهم في سجون سرية أو تقتلهم وتدفنهم في مقابر جماعية. وكان هذا يحدث كثيراً على طريق الخالدية، ومعبر الرزازة وجسر بزيبز الذي أنا متوجه إليه.
عند كل حاجز أمني أو نقطة تفتيش، كنا نستقبل الكثير من الشتائم والإهانات، كان الجنود يرغبون بضربنا على الأقل، وكنت أتحسس شهوة القتل في عيونهم، ونبرة أصواتهم العالية، أحدهم قال لي: ها أخ الكحبة وين رايح؟ قلتُ له إلى بغداد، فردَّ ضاحكاً: قادمووووون يا بغداد، إلا ننيج خواتكم يا دواعش. عبارة "قادمون يا بغداد" كانت تُردد في اعتصامات المحافظات السُنيَّة على حكومة نوري المالكي، والتي انتهت بفضها بالقوة، ودخول "داعش" ونشوب تلك الحرب.
كان لا بدَّ من زيارة أخيرة إلى المكان الذي ولدتُ فيه مرة أخرى، مكتبة الرمادي العامة، هنالك حيث أمضيت آخر 5 سنوات من عمري، أختبئُ من الحياة والناس، أقرأ الكتب، وأبكي مثل صوفيٍّ رقَّ حتى بات يرى الله في كلِّ شيء. هنالك حيث عرفت الشيخ خليل، وسلكتُ معه طريقاً قادني إلى الكشف والأسئلة.
لم نكن نفعل غير ابتسامة خائفة، مع ترديد كلمتي: "صار وحاضر". عند كل نقطة تفتيش، نبتلع الشتائم ورغبة الجنود بقتلنا أو مضاجعة أمهاتنا وأخواتنا، فمن يعترض يختفي إلى الأبد. وكنتُ أدوس على غضبي طيلة تلك الرحلة.
جزء من المسافة التي كان علينا عبورها كانت بحيرة الحبانية. ركبنا زوارق صغيرة من جهة الرمادي، وانطلقنا إلى المدينة السياحية، هنالك حيث ننزل ونركب بسيارات تنتظر النازحين لأخذهم إلى طريق صحراوي حول عامرية الفلوجة (التي كانت تحت سيطرة الحكومة) ومدينة الفلوجة التي كانت تحت سيطرة تنظيم داعش. وفي الطريق المائي ذاك، كان معنا رجل كبير، رأسه مشتعل بالشيب، وعلى وجهه كل تعب الدنيا.
كنا نقطع المسافة بالحكايات. كلٌ يسرد قصته: من أين نزح، وإلى أين يتجه، ومن يسيطر على المنطقة التي يسكن فيها، هل هي تحت سيطرة تنظيم داعش أم الحكومة وتوابعها من الميليشيات والعشائر المسلحة، وهكذا حتى نبلغ نهاية كل جزء من الرحلة.
ذلك الرجل المتعب، قصَّ علينا حكاية نزوحه وهو ينظر إلى الماء، كان يرتدي دشداشة بيضاء، تشبه لون شعره، ويمسك بكيس صغير يحتضنه كأنَّه آخر ما بقي له في الحياة، حدثنا عن مقتل ولديه قبل أيام، كان يحكي ويختنق بدموعه، وكنا نستمع ونبكي بصمت، كانت حكايته عزاءنا جميعاً، وعذرنا للبكاء على كل ما حدث، ذكر لنا أنه يعيش مع ابنيه: أحمد ومحمد، في جزيرة الرمادي، وهي منطقة تكثر فيها البساتين، خاصة بساتين النخيل. لديهم بستان هناك، وعندما دخل تنظيم داعش إلى المدينة سيطر على جزيرة الرمادي أولاً، وهناك حدثت معارك لاستعادتها من التنظيم. قال إنَّ أحمد كان يتجول في البستان عندما انفجرت عليه عبوة زرعها التنظيم في الأدغال، وعندما ركض نحوه محمد انفجرت عليه عبوة أخرى. "لقد صاروا أشلاءً لم أستطع جمعها"، وأجهش ببكاء مرّ يشبه العراق.
الضفاف.. مرفأ الهاربين من الحرب
رسا زورقنا الصغير على مرفأ المدينة السياحية. كانت الضفاف مكتظة بالزوارق الغارقة، والشاطئ ينحسر - مثل الحياة هناك - عن نفايات وقطع حديد وصخور كانت يوماً ما صديقةً للموج والنوارس. الكثير من الناس/النازحين على الضفاف. كان المشهد كئيباً، والشمس واضحة مثل الحرب، وعالية مثل خيبة أملنا.
المدينة السياحية أهم معالم محافظة الأنبار، وجهة العراقيين من كل المدن، افتتحت عام 1979، شيدتها شركة فرنسية، وحصلت على الكأس الذهبية عام 1982 باعتبارها واحدة من أهم المنتجعات السياحية في الشرق الأوسط. لكن، عندما وصلنا إليها كانت تأوي 60 ألف نازح، وحدائقها تحولت إلى مخيمات للعوائل الهاربة من المعارك، ومساحاتها الخضراء صارت حظائر للماشية التي جاءت مع النازحين، خاصة أولئك الذين جاؤوا من جرف الصخر في شمال بابل، وهجرتهم المليشيات.
ذلك الرجل المتعب، قصَّ علينا حكاية نزوحه وهو ينظر إلى الماء. كان يرتدي دشداشة بيضاء، تشبه لون شعره، ويمسك بكيس صغير يحتضنه كأنَّه آخر ما بقي له في الحياة. حدثنا عن مقتل ولديه قبل أيام. كان يحكي ويختنق بدموعه، وكنا نستمع ونبكي بصمت. كانت حكايته عزاءنا جميعاً، وعذرنا للبكاء على كل ما حدث.
عندما طال وقوفنا بدأنا نتهامس بالأسئلة. قال أحدهم بصوت مرتجف: "ربما هؤلاء ميليشيات"، وهذا يعني أننا قريبون جداً من الموت. لكن وبعد ما يقارب الساعتين من الانتظار المخيف، مرَّ رتل كبير من مركبات عسكرية عالية التسليح تحرس عدداً من سيارات الـ GMC السوداء، متجهاً نحو عامرية الفلوجة. تبيَّن أنهم أوقفونا ليؤمنوا له الطريق.
رأيت الكثير من البؤس في الطريق المؤدي من الشاطئ إلى بوابة المدينة السياحية، حيث تقف سيارات الأجرة تنتظر الهاربين بحقائبهم. عوائل تفترش الطرقات، لا تدري أين تأخذها الساعات القادمة. الوجوه كلها واجمة، وقاسية، والنفايات في كل مكان، والكثير من الصخب والغبار والبكاء الذي حوَّل المشهد إلى مجلس عزاء كبير.
في الطريق الصحراوي، مشينا بقافلة من خمس سيارات من نوع "kia". كان السائقون لا يسيرون في الطريق فرادى، مخافة قطاع الطرق، أما الميليشيات فلا فرصة للنجاة منها إن أرادت إيذاء أحد، تُوقِف من تشاء وتختطف من تشاء وتقتل على الهوية والاسم، وهذا حدث كثيراً عند المعابر والطرق التي يتجه إليها النازحون.
الأنبار.. سطوة المذهب والقبيلة
05-01-2021
في المنطقة الواقعة بين عامرية الفلوجة، وجسر بزيبز، أوقفتنا عربتين عسكريتين، أشاروا إلينا من بعيد، فوقفنا دون أن نعرف السبب، كانت معنا امرأة حامل بدا من تكوّر بطنها أنها في أيام ولادتها، كانت تئنُّ من التعب والألم، يحيط بها أهلها الخائفون، مثلنا نحن جميعاً في تلك القافلة. وعندما طال وقوفنا بدأنا نتهامس بالأسئلة، قال أحدهم بصوت مرتجف: "ربما هؤلاء ميليشيات" وهذا يعني أننا قريبون جداً من الموت، لكن وبعد ما يقارب الساعتين من الانتظار المخيف، مرَّ رتل كبير من مركبات عسكرية عالية التسليح تحرس عدداً من سيارات الـ GMC السوداء، متجهاً نحو عامرية الفلوجة. تبيَّن أنهم أوقفونا ليؤمنوا له الطريق، وبدا أن في الرتل مسؤولين كبار في الحكومة أو المليشيات، لا فرق.
الجسر.. ممر العابرين إلى التيه
ها نحن نصل إلى جسر "بزيبز"، الذي تحول إلى تراجيديا العراق الحديثة. كلما اقتربنا كان المشهد يزداد قتامة، نساء وأطفال وعربات دفع وحقائب ودراجات نارية وجنود، ورجال يخورون في الغبار. مشهد كأنه صورة للحشر الذي قرأنا عنه في المرويات الدينية. الجميع هنا ذاهلون، وتائهون، لا يعرفون غير وجهة واحدة: المرور على ذلك الجسر، الذي لم يكن جسراً بمعناه المعماري والهندسي. كان أشبه بقنطرة عائمة، تربط نهايات الأنبار ببدايات بغداد. ويا لبؤس النهايات والبدايات معاً.
مشيتُ على الجسر وأنا أجر حقيبتي وخيبتي، وعندما رفعت رأسي أكثر، رأيت أعلاماً – منها العلم العراقي - ترفرف عند جهة الجسر من جانب بغداد. كانت أعلاماً حمراء وخضراء وسوداء مكتوب عليها عبارات من قبيل: يا حسين، يا زهراء، إلخ.. وتحتها يقف مسلحون بلحى سوداء طويلة، وكروش ناتئة إلى الأمام، تشبه تلك اللحى والكروش التي تركتها خلفي وهربت. وكان أولئك المسلحون يدققون في هويات العابرين ويسجلون أسماءهم، وعناوينهم في دفتر أبيض كبير الحجم.
ها نحن نصل إلى جسر "بزيبز"، الذي تحول إلى تراجيديا العراق الحديثة. كلما اقتربنا كان المشهد يزداد قتامة، نساء وأطفال وعربات دفع وحقائب ودراجات نارية وجنود، ورجال يخورون في الغبار. مشهد كأنه صورة للحشر الذي قرأنا عنه في المرويات الدينية.
وقفتُ في طابور النازحين بانتظار عرض هويتي وتقييد معلوماتي، وكان الحمَّالون من الأطفال الصغار يمرون بعرباتهم ذهاباً وإياباً يحملون حقائب النازحين وأمتعتهم. وعندما جاء دوري، قدّمت هويتي وسألني كاتب السجل العسكري:
- من وين جاي؟
- من الرمادي
- وين رايح؟
- لبغداد.. آني طالب جامعة (حينها كانت جامعة الأنبار تحت سيطرة تنظيم داعش، والطلبة نقلوا ملفاتهم الدراسية إلى جامعات بغداد وكلياتها، والوضع أخف من الناحية الأمنية حين تقول إنك طالب جامعي، لذا لجأت إلى الكذب لاجتياز هذا المعبر المرعب)
سجَّل ما يريده من معلومات عني، وأشار بيده أنْ تحرك، فمررتُ إلى جهة بغداد، وكنت متعباً، أحبس غضبي وبولي طوال ذلك الطريق الوعر. وعندما سألت عن أيِّ مرافق صحية بالأنحاء، قال لي سائق تاكسي يقف هناك: "بوية بول هناك". وأشار إلى كتف الشارع الترابي الذي ينحدر إلى مبزل ممتلئ بالأوساخ، أسرعتُ إلى حيث أشار، وكانت تلك وقفتي الأولى في بغداد.