"وإن الصحافة الحق هي استشهادٌ على ورق"، يكتب نزار قباني من شرفته المطلة على صباح صيف ـ بيروت 1980. وبعد 35 عاماً يكتب الأستاذ محمد حسنين هيكل من شرفة بيته المطل على نيل القاهرة ـ خريف 2014: "يمكن للمهنة، وفي هذه الظروف، أن تكون آخر ريشة في آخر جناح يقدر على الطيران في أجواء مضطربة، علّها تكفّر عن نصيبها من المسؤولية باكتشاف ممر مفتوح إلى المستقبل".
وفي المساحة بين الاستشهاد والتحليق، التحليق والاستشهاد، كم كانت ولا تزال تتبدل الأدوار، تقصر وتمتد المسافات التي عبْرها يكتب كل جيل يحترف الكتابة تجربته وفلسفته في فهم معنى وكلفة العمل بالصحافة.
وإن المعنى هذه الأيام لشديد الحساسية، وإن الكلفة لشديدة العلو، ولهذا يقضي "إسماعيل" وثلاثين غيره من الصحافيات والصحافيين في مصر شهراً جديداً للصيام داخل الزنازين، بلا قلم، بلا ورق، بلا حياة، فإلى متى يستمر هذا الأمر المر؟!
الغياب
يمضي الزميل الكاتب والباحث "إسماعيل الإسكندراني"، من فريق كتّاب "السفير العربي"، عامه السادس بالحبس، والتهمة: "الحصول على سرّ عسكري ونشره، والانضمام لجماعة محظورة، ونشر أخبار كاذبة في الخارج"، وهو الحكم الصادر من محكمة عسكرية، أحيل إليها بناءً على قرار النيابة العامة، ومن دون علم هيئة الدفاع عنه. صدر الحكم بعد أن أمضى سنتين ونصف بالحبس الاحتياطي منذ توقيفه بتاريخ 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 2015 عقب عودته إلى مصر بعد استضافات جامعية في أوروبا وأميركا.
صرنا في "صحافة سامسونج"! وقد تدحرجت الحالة النقابية من الضغط من أجل المطالبة بالحقوق للتفاوض ثم الاستجداء، وترديد الخطاب الرسمي وتبني مصطلحاته، حول سجناء الرأي ووصم زملائهم، كفرصة أخيرة للتخلص من حملهم.
لم يعد المطلب هو حظر الحبس الاحتياطي للصحافيين في قضايا النشر، والإفراج الفوري، بل أصبحت المقايضة حول تقليل عدد المحسوبين على قائمة المحبوسين بتصنيف الاتهامات الموجهة لبعضهم باعتبارها اتهامات جنائية، أو أخرى سياسية لا تتعلق بممارسة المهنة.
لا أحد في القاهرة يعلم ما هو السر الذي أفشاه إسماعيل، ولا أحد يعلم في الإسكندرية حجم أصقاع الغياب الذي تعيشه أسرته صيفاً وشتاءً، لكن أصبح الجميع على امتداد أرض مصر يعلم الآن ـ ولو دون معلومة دقيقة ـ عناوين المشهد القائم فوق شبه جزيرة سيناء، يشير إليها القاصي والداني، على الصعيد الرسمي والشعبي، بشكل صريح أو مجازي، فيتندّر الأصدقاء والقرّاء مع كل حدثٍ جديد، بأغلب الظن أليم. أليس هذا ما كان يردده إسماعيل، وهو يحاول "سبر الأغوار" بتلك الأرض العزيزة في حربها على الإرهاب، وما تخفي داخلها من تفاصيل خوف وعذاب. فلم كان كل هذا؟ وما معنى "الإفشاء"؟
الرواية
النقاش لا يستدعي غالباً البحث عما وراء الإفشاء، وإنما عن معنى الصحافة، وكلفة الخوض في المساحة بين ما هو مسموح به سلطوياً وما هو منتظر إنسانياً، وهل هناك ما يستحق كل هذا العناء؟
هكذا هي قصة "إسماعيل" ورفاقه، ومن حولهم تنساب عشرات التفاصيل الهامة التي ترسم ملامح النسخة الباهتة الرديئة التي أصبحت عليها هذه المهنة الجليلة في مصر، بل في العالم العربي وكافة عوالم اللاحريات فوق سطح الكرة الأرضية.
ملامح تربط ما بين المناخ العام بتفاصيله الضاغطة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وبين انعكاس هذا على حالة ملكية الصحف ومن يتحكم بها. طرق صياغة خريطة الإعلام في مصر، وسر اختزالها في كلمة موحية لم تعد تحتاج لكثير من الشرح، وهي "صحافة سامسونج". الحالة النقابية التي تدحرجت من الضغط من أجل المطالبة بالحقوق للتفاوض ثم الاستجداء، وترديد الخطاب الرسمي وتبني مصطلحاته، حول سجناء الرأي ووصم زملائهم، كفرصة أخيرة للتخلص من حملهم.
الفعل
عبر الوقت، تحول "إسماعيل" و"سولافا" و"معتز" و"أكسجين" إلى نماذج حقيقية لدفع الثمن مقابل ممارسة المهنة بشكل مباشر. فهذا يخوض في ملف سيناء ويعطي تشريحاً حول الإرهاب والإدارة الأمنية الخاطئة وما راكمته من مظالم قابلة للتحول لقنابل موقوتة، وذاك يقضي عامه الثالث عقاباً على إجرائه حواراً صحافياً مع مرشح رئاسي محتمل من المؤسسة العسكرية، وتلك عملت كمراسلة صحافية تنقل فعاليات جلسات المجلس الدولي لحقوق الإنسان وبيانه المنتقد لأوضاع الحريات في مصر، وذاك أنتج قناة على وسائل التواصل الاجتماعي تعرض مقاطع فيديو لمشكلات ميدانية.
وهكذا تحولت مهنة الصحافة في مصر إلى مجازفة، فكلما تطايرت ريشة وحاولت أن تشب، اشتبكت بسلك شائك اعترض طريقها. أما الورق فلا يزال ممتداً أمام الجميع يشتهونه، لكن الرقيب الذاتي يقصف الكثير من الأقلام، يمحو كثيراً من السطور قبل أن يصل صاحبها لمرحلة إشهار نصّه باتجاه النشر. هذا بينما أصبح الهتاف "الصحافة مش جريمة" هتافاً مكتوماً يبقى حبيساً على صفحات التواصل الاجتماعي، بينما طال عصر مصادرة... سلالم نقابة الصحافيين ذاتها، مكان التظاهر الأكثر شهرة في مصر على مدار العشرين عاماً الأخيرة.
الخريطة
الخريطة المادية أيضاً شديدة الإرهاق على من لا يزال يملك قدرة المعافرة. فإسماعيل وجيله ينتمون إلى واحدة من أزهى عصور الصحافة المصرية التي بدأت في العام 2005 مع انطلاق موجة الصحف الخاصة في مصر، ومن بعدها انطلق عدد من القنوات الفضائية. جاءت لحظة الذروة بالتأكيد عقب 2011، لكنها أفلت سريعاً. تحول المشهد خلال 7 سنوات إلى ما هو أقرب للاحتكار، سيطر عدد من الشركات التابعة لأجهزة رسمية على ملكية الصحف والقنوات، أصبحت صحافة البيانات المملاة، والمرسلة عبر تطبيقات الهواتف هي السائدة. وفي ضوء ذلك بهتت المنافسة، ضحلت الصناعة، زاد العجز المالي وكان كبش الفداء هو التضحية بعدد كبير من الصحافيين وفصلهم من العمل. من ناحية أخرى، وكما توقع خبراء بصناعة النشر، تراكمت خسائر تلك الشركات، ومع استمرار ذلك فإن شبح الإغلاق هو الأقرب للحدوث على المدى القصير والمتوسط، حيث لا يمكن أن تستمر الجهات المانحة أو الداعمة أياً كانت مسمياتها على المنوال نفسه لسنوات طويلة، بينما يحوم حول ما يسمى بالصحف القومية التابعة رسمياً للدولة شبح التصفية أو الخصخصة، ومن ثم تزداد المخاوف حول مزيد من أشكال التجفيف لمنابع الصحافة المصرية.
تحول "إسماعيل" و"سولافا" و"معتز" و"أكسجين" إلى نماذج لدفع الثمن مقابل ممارسة المهنة بشكل مباشر. فهذا يخوض في ملف سيناء ويشرح الإرهاب والإدارة الأمنية الخاطئة، وذاك يقضي عامه الثالث عقاباً على إجرائه حواراً صحافياً مع مرشح رئاسي من المؤسسة العسكرية، وتلك عملت كمراسلة صحافية تنقل فعاليات جلسات "المجلس الدولي لحقوق الإنسان"، وذاك أسس قناة تعرض مقاطع فيديو لمشكلات ميدانية.
امتد الحزن لتحمل الجماعة الصحافية بين صفوفها من جديد شاهداً وشهيداً هو الكاتب الصحافي "محمد منير" الذي قبضت عليه قوات الأمن في حزيران/يونيو الماضي بتهمة "كتابة مقالات بمؤسسات إعلامية معادية للدولة"، ليتعرض خلال فترة احتجازه، إلى الإصابة بفيروس كورونا. أصبح موته دليلاً دامغاً على انتشار الفيروس بأماكن الاحتجاز، وكان ذلك سَبْقُه الصحافي الأخير.
ووفق تقرير رسمي صادر عن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء في مصر، ففي عام 2006، بلغ عدد الصحف الصادرة في مصر 47 صحيفةً، تزايد العدد عبر السنوات ليصل ذروته في 2011 بعدد 142 صحيفةً، بدأ العد التنازلي سريعاً ليصبح العدد في العام 2020 هو 70 صحيفة.
أما على مستوى حرية التعبير، فقد أصدرت منظمة "مراسلون بلا حدود"، تصنيفها للعام 2020، لمؤشر حرية الصحافة حول العالم، واحتلت مصر مرتبة متأخرة هي الـ 166، وانضم لها عدد من الدول العربية، فقد حل لبنان في المرتبة 102، العراق في المرتبة 162، الجزائر في المرتبة 146، مصر في المرتبة 166، السعودية في المرتبة 170، فيما حلت سوريا في المرتبة ما قبل الأخيرة بين الدول العربية، في المرتبة 174.
الحماية الكسيحة
في مقابل هذا الغياب للحرية والمنافسة، كانت الفرصة الوحيدة المأمولة لدى قطاع من الصحافيين هو توفر حماية نقابية قادرة أن تدافع أولاً عن المهنة، وتوصيفها كمهنة "رأي"، ومن ثم تدافع عن حقوق ممارسيها ودورهم، باعتباره فرصةً لعلها وحيدة أمام هذا المجتمع للتنفس إذا ما فقد حلم التحليق. غير أن الواقع فرض نفسه بضراوة، فجاء المشهد النقابي كسيحاً هزيلاً، انعكاساً تاماً للمشهد العام، أصبحت الكلمة العليا هي الراتب الشهري تحت اسم "بدل التكنولوجيا" الذي تحول من حق إلى منحة مشروطة باختيار مرشح السلطة على مقعد النقيب، وحظي نموذج مرشح الخدمات على فرصة أوسع مقارنة بغيره في ظل ضغط الظروف الاقتصادية.
نقابة الصحافيين المصرية: الرواية
03-07-2019
أما ملف الحريات فتضاءل بناء على رفض السلطة لكافة المناشدات، وضعف الأدوات المتاحة بيد الجماعة الصحافية. فلم يعد المطلب هو حظر الحبس الاحتياطي للصحافيين في قضايا النشر، والإفراج الفوري، بل أصبحت المقايضة حول تقليل عدد المحسوبين على قائمة المحبوسين بتصنيف الاتهامات الموجهة لبعضهم باعتبارها اتهامات جنائية، أو أخرى سياسية لا تتعلق بممارسة المهنة.
الخريطة المادية أيضاً شديدة الإرهاق على من لا يزال يملك قدرة المعافرة. فإسماعيل وجيله ينتمون إلى واحدة من أزهى عصور الصحافة المصرية التي بدأت في العام 2005 مع انطلاق موجة الصحف الخاصة في مصر، ومن بعدها انطلق عدد من القنوات الفضائية. جاءت لحظة الذروة بالتأكيد عقب 2011، لكنها أفلت سريعاً.
وفق تقرير رسمي صادر عن "الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء" في مصر، ففي عام 2006، بلغ عدد الصحف الصادرة في مصر 47 صحيفةً. تزايد العدد عبر السنوات ليصل ذروته في 2011 بعدد 142 صحيفةً، وبدأ العد التنازلي سريعاً ليصبح العدد في العام 2020 هو 70 صحيفة.
من وسط صفوف العمل النقابي، هناك من يرفعون شعارات جادة ومعبرة : "صحافة حرة = أكل عيش"، لكن النجاح ووصولهم لتمثيل زملائهم أصبح شحيحاً، إضافةً إلى صعوبة تحقيقهم الكثير مما يؤمنون به في ظل مناخ تكبيل عام كفيل بأن يصيب الآخرين بالتكلّس.
الاحتضار والمقاومة
أدت المشاهد السابقة، وعلى مدار السنوات، إلى واقع شديد التأزم والصعوبة، لم ينتهِ فقط إلى وصول قائمة الصحافيين المحبوسين إلى رقم 30 وما فوقه، ولكن امتد الأسى والحزن لتحمل الجماعة الصحافية بين صفوفها من جديد شاهداً وشهيداً هو الكاتب الصحافي "محمد منير" الذي قبضت عليه قوات الأمن في حزيران/يونيو الماضي بتهمة "كتابة مقالات بمؤسسات إعلامية معادية للدولة"، ليتعرض خلال فترة احتجازه، في أماكن الاحتجاز، إلى الإصابة بفيروس كورونا. أُفرج عنه بعد اكتشاف الإصابة في مستشفى السجن ليتوف بعد خروجه بأيام قليلة. أصبح موته دليلاً دامغاً على انتشار الفيروس بأماكن الاحتجاز، وكان ذلك سَبْقُه الصحافي الأخير قبل أن "يستشهد على ورق".
***
الصحافة المصرية تقاوم الاحتضار
24-05-2018
لا يزال هناك المئات من الصحافيات والصحافيين يعافرون على الرغم من كل ما سبق، يسلكون الطرق نحو تحقيقات صحافية وكتابة مقالات رأي قد تكلفهم حريتهم أو قطع عيشهم، يتفننون في خلق مسارات نجاح وتميز، واستهداف الجوائز المحلية والدولية، لحفر اسمهم على الرغم من بهتان الطريق، يسيرون وتتعدد منابع شغفهم وأهدافهم، ولا يملكون اليقين بما يؤدي سعيهم لإطلاق الريشة الأخيرة التي أوصاهم بها الأستاذ.