قبل مئتي عام، دخل التعليم الابتدائي مصر عقب خروج الحملة الفرنسية وتولي محمد علي حكم البلاد. وهو أصدرقرارا بانشاء 50 مدرسة، تضم خمسة الآف تلميذ. وكان ذلك ايذانا ببداية عصر جديد للنهضة التعليمية، ودخول المدرسة النظامية لأول مرة في المنطقة العربية علي غرار المدارس الاوروبية. بل كان يقام حفل سنوى كبير يحضره الوالي الحاكم، لتكريم الخريجين. واستمر الوضع هكذا لأكثر من مئة عام تالية. وكان هذا التعليم للنخبة، بل ان أشهر الكتاب والمفكرين كانوا حاصلين علي شهادة الابتدائية فقط، مثل عباس العقاد وغيره. تغير هذا الوضع مع تولي طه حسين وزارة التعليم (عام 1950 في حكومة الوفد)، فجعله متاحا ومجانيا مما أدى الى انتشاره، بل وأصبح الزاميا، ثم توّسع التعليم العام افقيا وعموديا في عهد عبد الناصر، ما ترتبت عليه آثار هامة علي البنية الاجتماعية المصرية لجهة وصوله الى الطبقات الافقر في المدينة والريف ولجهة شموله الفتيات. كانت هذه مقدمة ضرورية، لأنه يبدو أن هذه الجهود كلها ستذهب أدراج الرياح.
الأرقام
أشار التقرير السنوي لمنظمة التنافسية العالمية الذى صدر منذ أيام الى أن مصر أصبحت في المركز العالمي 148... والاخير في ترتيب الدول. حصلت مصر على المركز الأخير العام الماضي أيضا. لم ينتبه أحد لهذا التدهور، ربما لأن التقرير اقتصادي ويتحدث عن الأسواق وقدرة الدول علي المنافسة وجذب الاستثمارات. ...
وصل عدد المدارس الابتدائية الحكومية الى 15500 مدرسة، تضم 242 ألف فصل (صف). ويبلغ عدد الفصول في التعليم الخاص 27 ألف فصل، وتمثل نسبته 15 في المئة من حجم التعليم الحكومي. كما يصل إجمالي عدد طلاب الابتدائي الى أقل قليلا من 10 مليون تلميذ، أي نسبة أزيد قليلا من 15 في المئة من إجمالي سكان مصر. تبدو هذه الأرقام للوهلة الأولى كبيرة، لكنها اذا وُضعت في السياق الصحيح فسوف تصل بنا الى الاعتراف بصحة تقرير منظمة التنافسية. فواقع الحال في مصر الآن يقول ان المدارس الحكومية أصبحت عنصرا طاردا للطلاب، ليس فقط للقادرين ماديا من أبناء الطبقة المتوسطة، وإنما أيضا من أبناء الطبقات الأدنى والفقيرة. والدليل ليس ارتفاع أعداد طلاب المدارس الخاصة وإنما ارتفاع الطلب علي المدارس الحكومية التي تدرس باللغات الأجنبية - غير اللغة العربية، وهي لغة التدريس الرسمي في المدارس الحكومية - وبعضها مصروفاته لا تتجاوز 100 دولار سنويا. ولذلك أصبح من يلتحق بالمدارس الحكومية العادية هي الفئات الأكثر فقرا، ما أدى إلى ارتفاع نسب التسرب في نهاية التعليم الابتدائي والتي زادت مؤخرا لتصل إلى 12 في المئة من مجمل المتمدرسين بحسب الاحصائيات الرسمية.
وأشارت دراسة أجرتها وزارة التعليم مؤخرا إلى أن معدل الرسوب في المرحلة الإعدادية المتوسطة - بلغت نسبته 18 في المئة، بينما هي في الأردن علي سبيل المثال 0.5 في المئة فقط! والأكثر خطورة هو تدني مهارات الكتابة والقراءة عند 30 في المئة من تلاميذ الابتدائي، وهي حقائق تم رصدها في دراسة أجراها جهاز التفتيش بوزارة التعليم، ما دعا وزراء التعليم إلى الاعتراف بالواقع، ولكن المفارقة أن الحكومات المتعاقبة ساهمت في الوصول إلى هذه النتائج، فبدلا من حل الأزمة اتجهت السلطات منذ نهاية عهد السادات إلى فتح «تعليم حكومي بمصروفات». ولما زاد الطلب عليه افتتحت مدارس حكومية بمصروفات أعلى! وفي نهاية عهد مبارك افتتحت الحكومة مدارس دولية تدرس المناهج الأجنبية. واستمر الحال مع تولى مرسي الحكم، بل وقرر وزير تعليمه أخذ أجزاء من التعليم الحكومي وتحويلها الى مدارس لغات بمصروفات، ولكن تحت أشراف الحكومة.
والحجة الجاهزة دائما هي ارتفاع تكلفة التعليم، وأن المواطنين يدفعون الكثير (بالفعل) في الدروس الخصوصية، التي أصبحت واقعا للجميع بدءا من الصف الأول الابتدائي وحتى نهاية المرحلة الثانوية. وقد أكدت ذلك دراسة للبنك الدولي في أواخر عهد مبارك، تفيد بأن ما تنفقه الأسر المصرية علي الدروس الخصوصية يصل إلى 2 في المئة من إجمالي الناتج المحلي، في حين أن ما تصرفه الدولة علي التعليم بالكاد يصل الى3.6 في المئة من الناتج المحلي. وطبقا لليونسكو، فنسبة الحد الأدنى المتفق عليه عالميا للإنفاق الحكومي على التعليم، واللازم لإحداث أي تنمية اقتصادية، هو 6.5 في المئة. ونسيت الدولة أن المجتمع لجأ للدروس الخصوصية بعد أن توقفت هي عن إعطاء المدرِّس الأجر العادل، فلجأ بدوره إلى جيوب الطلاب، حتى أصبحت الدروس الخصوصية في النهاية هي القاعدة للجميع، باستثناءات قليلة للغاية. وحتى بعد التحسينات الأخيرة في مرتبات المعلمين منذ حوالي ثلاث سنوات، فالحد الأدنى الشهري لأجر المدرّس لم يتجاوز 130 دولار.
ما الحل؟
هل إصلاح الخلل في هيكل الأجور هو الحل لوقف التدهور؟ بالطبع، لكن بدون إصلاح بقية المنظومة، من بناء المدارس ومن وضع المناهج ونظم التعلم الملائمة، وكذلك من إصلاح المعضلة الكبرى المسماة «نظام الامتحان»، فإنه لن يحدث وقف للتدهور، وإنما سنكون كمن يحرث في البحر. فقضية بناء المدارس من الأولويات، خاصة بعد أن تجاوزت نسبة العجز في المدارس الثلث تقريبا، وهو ما أدى إلى وجود نسبة 25 في المئة من المدارس تعمل فترتين في اليوم الواحد، بل هناك ألف منطقة ليس بها مدارس للتعليم الأساسي من الأصل. وتقدر التكلفة المطلوبة لبناء مدارس جديدة خلال الـ 10 سنوات القادمة بحوالي 6 مليار دولار، وذلك للوصول بالكثافة إلى المعدلات العالمية المتعارف عليها. أما قضية المناهج فهي، مثلها مثل قضية الامتحانات، تحتاج إلى تغيير جذري. فنظم الامتحانات في مصر تقليدية تقيس القدرة على الحفظ فقط وإعادة التسميع، ما يساهم بصورة رئيسية في تدني الجودة التعليمية، لأنه لا يؤدي إلى اكتساب الطلاب أي معرفة أو تعلّم حقيقي، ولا أي تمكّن من المنهجية.
في عام 2003، اشتركت مصر في المسابقة العالمية للعلوم والرياضيات، كمعيار لقياس جودة التعليم في بداية المرحلة المتوسطة (ما بعد الابتدائي) مقارنة بالدول الأخرى، وحصلت علي المركز 36 في الرياضيات والمركز 35 في العلوم، من بين 45 دولة مشاركة. ووصف المسوؤلون عن التعليم هذا المركز المتدني بأنه كان متوقعا... وبناء عليه لم تساهم مصر في المسابقة مرة أخرى! ولكن تحليل النتائج أوضح وجود تفاوت بين التلاميذ، فالمدارس الخاصة و«الحكومية بمصروفات» حصل طلابها علي درجات أعلى من المتوسط العالمي، بينما حصل تلاميذ المناطق الفقيرة علي درجات أقل بكثير من المعدلات العالمية. وهذه النتائج، بالإضافة إلى انتشار الدروس الخصوصية، هي الحجة التي يستخدمها البعض للانقضاض علي قضية مجانية التعليم، بينما في كل الدول المتقدمة، بما فيها تلك الرأسمالية الكبرى، هناك مجانية بالكامل في كل مراحل التعليم قبل الجامعي، بل تمتد المجانية إلى التعليم الجامعي والدراسات العليا في بلدان مثل ألمانيا وفرنسا. ونسي هؤلاء تجارب دول أخرى مثل ماليزيا، والتي كان الوضع الاقتصادي فيها أسوأ مما هو في مصر، وكانت تعاني من ارتفاع كبير في أعداد التلاميذ بالفصول. إلا أن خطة للإصلاح الشامل للتعليم وضعت بعد تحقيق توافق وطني على أنه لا نهضة اقتصادية بدون إصلاح التعليم. وتم الاتفاق علي أن تكون أولوية الموازنة العامة للتعليم، وذلك لمدة عشر سنوات متتالية... لتصبح ماليزيا من أقوى عشرين اقتصادا في العالم بينما التعليم مجاني بالكامل ومتاح للجميع. وهكذا فعلت كوريا، وهو ما تفعله الفيليبين الآن.