التعديلات الدستورية التي أقرها بأغلبية كاسحة الشعب المصري مؤخرا، لم تكن في الواقع موافقة تامة وتفصيلية على الكلمات والنصوص الدستورية بقدر ما كان التصويت الذى خرجت له الملايين انحيازا لموقف سياسي ينهي به المصريون هذه الحقبة من تاريخهم.
بعض الإيجابيات
ساهم ذلك الانحياز الى موقف سياسي، علاوة على ازدياد حالة العنف في الشارع المصري، فى تقليص مساحة المناقشة الموضوعية للقضايا التعليمية التى طرحها الدستور الجديد، وبالأخص منها الآثار الاجتماعية والاقتصادية التى يمكن ان تترتب عليها في المستقبل، القريب منه والبعيد على حد سواء. فمن الايجابيات، زيادة عدد المواد المتعلقة بالتعليم في الدستور الى سبع مواد في مقابل خمس فى الدستور القديم. وقد اعتمدت الزيادة بشكل رئيسي على الشرح الوافي والتفصيلي لأهمية التعليم ومكانته في المرحلة القادمة. ولأول مرة في النصوص الدستورية المصرية، تبرز كلمات مثل بناء الشخصية، والحفاظ على الهوية الوطنية، والمنهج العلمي في التفكير، والابتكار، وعدم التمييز والتسامح، بالإضافة الى الاهتمام بالإنسان، سواء من كان المستهدف من العملية التعليمية، أي الطلاب، حيث تم مد الإلزام بالتعليم الإجباري إلى نهاية المرحلة الثانوية (وكان سابقا حتى نهاية المرحلة الإعدادية)، أو كان القائمين عليها، حيث تمّ تخصيص مادة بذاتها في الدستور للحديث عن المعلمين واساتذة الجامعات وكفالة الدولة لحقهم، وكذلك تنمية كفاءاتهم العلمية والمهنية والأدبية.
الشكل على حساب المضمون؟
وعلى الرغم من اهتمام النصوص الدستورية بالتأكيد على أهداف العملية التعليمية كما تقول الكتب والأدبيات التربوية، مثل ضرورة تحقيق الجودة والوصول الى المستوى العالمي في التعليم، وتمّ وضع نسب مالية محددة كحد أدنى للانفاق على التعليم قبل الجامعي (4 في المئة من الناتج القومي الاجمالي). إلا ان ملاحظة تفرض نفسها وتتعلق بما يبدو اهتماما شكليا ولفظيا على حساب المضمون، وخاصة المردود الاجتماعي للتعليم، وتوفير الإتاحة والمجانية لجميع فئات وطبقات المجتمع وعلى رأسها تلك الفقيرة التي تمثل أكثر قليلا من ثلث السكان، أو حوالي 40 في المئة طبقا لتقارير رسمية.
سبب هذه الملاحظة أنه لأول مرة منذ عقود طويلة، تضاف عبارة "وفق القانون" مقرونة بالحديث عن المجانية في الدساتير المصرية. ففي كل الدساتير السابقة (بما فى ذلك دستور الإخوان)، كان نص المجانية واضحا ولم يضف له هذه العبارة، وهي اتخذت صيتا سيئا امنذ قال الرئيس السادات "كله بالقانون"، وارتكب ما ارتكب على مختلف الصعد.
ما يثير القلق على مستقبل المجانية خاصة وأن التعليم الحكومي يمثل 90 في المئة من عدد المدارس، ويندرج فيه ما يقرب من 85 في المئة من إجمالي عدد الطلاب (حوالي 19 مليون تلميذ). فلمصطلح "وفق القانون" في الدساتير المصرية سمعة غير طيبة على الإطلاق. فتطبيقه في الواقع العملي يحدث لتفريغ الكلمات المنمقة من مضمونها. ونظرا لأهمية القضية، توجهتُ الى الأستاذ حسين عبد الرازق أحد أعضاء "لجنة الخمسين" (لجنة وضع الدستور الجديد) وهو تحديدا ممثل القوى اليسارية فيها، وسألته عن أهداف هذه الإضافة، خاصة ان اللجنة تعاملت بحرص شديد فى عدم التوسع فى تذييل أغلب المواد بعبارة "وفق القانون"، فكانت الإجابة أن محاضر النقاش كلها كانت في صالح المجانية، وهى الفيصل والحكم عند أختلاف التطبيق أو التراجع عن المجانية!
كله بالقانون
المفارقة التي تجعل هذه القضية هامة ومحل مخاوف، أن لجنة العشرة من فقهاء القانون التي أسند إليها تعديل الدستور قبل أن تسلمه للجنة التعديل النهائي ("الخمسين")، حافظت على نص المجانية مستقلا ولم تضع عبارة "وفق القانون"، مما يفتح الباب للتساؤل حول مصير المجانية والتي هي أحد مكتسبات المواطن المصري منذ أقرها د. طه حسين وتوسع فيها الرئيس عبد الناصر حتى شملت التعليم الجامعي. والقضية ليست فى مجرد "قدسية" كلمة المجانية، فهي رغم وجودها في الدساتير السابقة، إلا أنه حدث تحايل عليها اعتبارا من منتصف السبعينيات، مع بدء سياسات الانفتاح الاقتصادي، حتى أصبح التعليم الخاص هو القاعدة في عصر مبارك، بل وتوسعت كل حكوماته فى دعم التعليم الخاص، وسخرت في أواخر عهده موازنات الحكومات لبناء المدارس الخاصة ومنها الدولية باهظة الكلفة والتي لا يرتادها إلا أبناء الشريحة الشديدة اليسر. وقد تم كل ذلك برغم وجود نص قاطع لمصلحة المجانية في الدستور!
ولم يشكُ أحد من ذلك، لأن هذه الخطوات كانت تتم لمصلحة الطبقة المتوسطة أيضاً، صاحبة الصوت العالي والمصالح، إذ هدفت السياسات المذكورة إلى توفير مكان لأبنائها في مدارس معقولة العدد والنظافة، فى حين لم يجد الفقراء من يدافع عنهم في صرف الموازنات لمصلحة "التعليم بمصروفات". لذلك تظهر خطورة إضافة نص "وفق القانون" للمجانية، لاحتمال التخلي التدريجي عن الفقراء... في إطار القانون والدستور.
الرئيس القادم والمجانية
تبدو المهمة صعبة أمام الرئيس القادم الذي سيتم انتخابه خلال ثلاثة أشهر على الأكثر، فهو مطالب بانجازات حقيقية عل الارض خلال فترة وجيزة جدا، وفي ظل أزمة اقتصادية حادة. والسؤال هو: هل سيتجه إلى المزيد من تقليص المجانية ومغازلة الطبقة الوسطى، وتوجيه استثمارات التعليم الحالية، والتي تمثل نسبة 3.1 في المئة من الناتج القومي الإجمالي (ولن تزيد إلى نسبة 4 في المئة كما نص الدستور الجديد إلا قرب انتهاء فترة ولاية الرئيس الأولى)، حيث منح الدستور الجديد مهلة انتقالية للحكومة لتطبيق الزيادة حتى عام 2017. وهل يؤدي النص الدستوري الجديد الى فتح المزيد من "المدارس بمصروفات" حتى تتفادى السلطة غضب واستياء الطبقة الوسطى، حتى لو تم ذلك على حساب مدارس الفقراء، وهي مدارس فقيرة حد البؤس. فالمجانية الحقيقية، كما عرفها المصريون، أصبح حولها العديد من علامات الاستفهام.