«أكره هذه المادة»! أصبحت تلك الكلمات شائعة على لسان التلاميذ والسبب هو الكتاب المدرسي المقرر والموضوعات التى يتم الاختيار منها للتدريس. ويحكي أحد المسؤولين ـ وهو أيضا من أساتذة اللغة العربية بجامعة عين شمس ـ أنه قرر أن يجلس مع حفيده الذي يتابع الصف الثاني الابتدائي ليراجع معه دروسه في اللغة العربية، فقال له العبارة السابقة، وحينما اطلع على الكتاب قال ان حفيده محق، واكتشف لماذا يكره التلاميذ اللغة العربية، فالموضوعات المختارة تثير الدهشة لأنها مليئة بالحشو خارج الصدد، وليست موجهة الى تعليم الطلاب المهارات الأساسية للغة أولا.
قصة الكتاب المدرسي في مصر، خصوصا خلال الاعوام الأربعين الماضية، أشبه بالحدوتة المتضمنة لغزاً والتي تحكى للصغار. فمع تولي كل وزير للتعليم منصبه، يُحدث تغييرا لقواعد اعتماد الكتاب المدرسي المقرر، كأن ذلك هو ما يسجل مرور الوزير من هنا. فحتى الثمانينيات، كان تأليف المقرر يتم من خلال تكليف مستشار المادة لاختيار الشخصيات المناسبة. وتغيرت هذه الآلية في أوائل التسعينيات مع وزير جديد عقد مؤتمراً لتطوير التعليم كانت احدى نتائجه أن يتم عقد مسابقة لتأليف الكتاب المدرسي. وكانت المسابقة تجرى بشفافية فيعلن عنها فى الصحف وتحكّمها لجان محايدة غير معروفة العضوية لضمان استقلاليتها. ثم مع تغير الوزير تغيرت طريقة تأليف الكتاب إلى «المناقصة»، وهو يعتمد أسلوبا اقتصاديا وتجاريا (بدأ مع موجة وصول الليبرالية الجديدة إلى الحكم وبالانسجام معها). وهو يعني اختيار الكتاب وفق معيار أرخص الأسعار، ما أدى إلى تدمير المحتوى لأنه سيعتمد على مؤلفين يرتضون خفض أجورهم إلى أدنى حد، ناهيك بالتدهور في نوع الطباعة والأوراق والألوان والرسومات التوضيحية..
تمصير مناهج اللغات
والجديد الآن هو ما تم تطبيقه مع كتب العام الدراسي الحالي (وعدد منها لم يصل لأيادي الطلاب حتى الآن)، حيث قررت الوزارة إلغاء المناقصة والعودة الى أمر التكليف المباشر للتأليف، الذي تم تقنينه بإعطائه فقط لمسؤولي مركز المناهج التابع للوزارة، بل أعطي لهم حق التقييم والمراجعة أيضا، أي ان يكونوا الخصم والحكم فى الوقت نفسه، رغم أن هذا النظام كان قد تم إلغاؤه عام 2009 بعد اكتشاف وقائع تشير إلى مخالفات ومجاملات في تحكيم الكتب التي رست عليها المناقصة. ولم يكن ذلك هو الإجراء الأخير الوحيد، بل اشتدت الأزمة مع تصريح وزير التعليم الحالي بأنه «رفع الأمر لرئيس الوزراء ومن بعده رفع الأمر إلى رئيس الجمهورية «.. وذهب العقل الى أنها قضية تتعلق بالأمن القومي، مثل استشراء الغش الالكتروني في الشهادات العامة وطلب معاونة الاجهزة الأمنية السيادية فى ذلك، أو أزمات تعيق بدء الدراسة مثل الهاشتاغ الذي دشنه الاخوان المسلمون بعنوان «مدرستنا هتفضى» وكتبوه على أسوار المدارس والمنشآت الحكومية.. لكن الأمر لم يكن هذا أو ذاك وإنما كان بشأن طبع كتاب مدرسي للغة الفرنسية. فقد قرر الوزير تنفيذ استراتيجيا جديدة للتعليم، وبالفعل شكل لجنة أخذت تجتمع إلى أن خرجت بمشروع يقع في 130 صفحة. وكان من ضمن اهتماماتها مشروع تغيير المناهج وإزالة الحشو. وبدأ تطبيق المشروع، وحدد وزير التربية والتعليم حدا أدنى بنسبة 30 في المئة من الكتب الدراسية للتغيير هذا العام، وكان من ضمنها مناهج اللغات الأجنبية، وعلى رأسها اللغة الفرنسية. وقبل بدء الدراسة بسويعات قليلة خرج بيان من عدد من أساتذة مركز المناهج واللغة الفرنسية، يتحفظون فيه على الكتاب الجديد ويطالبون بتأجيل المنهج المطوَّر إلى العام القادم. وعدد بيان اللجنة (وهي المشكلة رسميا لمراجعة الكتاب الجديد) أسباب تحفظ أعضائها، بوجود أخطاء كثيرة تتعلق بصعوبة اللغة المستخدمة في صوغ الكتاب، إلى جانب عدم توفر دليل المعلم أو حتى تدريب المعلمين عليه أو «القرص المدمج» الخاص بالمنهج والتدريبات. هذا الى جانب أنه حتى لو تمت التعديلات، فسوف يصل الكتاب للطلاب بعد شهر من بدء الدراسة، وهو ما حدث بالفعل. وعلى عكس المتوقع، أصر الوزير على اعتماد الكتاب ، بل أصدر الأوامر بسرعة طباعته، وحجته في ذلك أن هذا عمل وطني، حيث انه لأول مرة يتم تأليف مناهج لغات أجنبية من خلال مؤلفين مصريين، ولذلك فعلى الدولة أن تسانده. فهل بالفعل الأمر كذلك؟ وهل يُعتبر تأليف مناهج اللغات الأجنبية عملا وطنيا لا يستطيع أحد رفضه وإلا نزلت عليه اللعنات واتهم بعدم الوطنية؟
ثقافة الانغلاق
الدكتورة مي شهاب رئيسة شعبة المناهج ترفض ما يقال جملة وتفصيلا، وترى أن مناهج اللغات تحديدا تختلف عن المناهج الأخرى في التمصير. فمثلا يمكن تعريب المواد العلمية وحتى المواد الإنسانية، لكن لا يمكن تغيير المعادلات الكيميائية أو الرياضية، وبالتالي، وحتى لو التزم المؤلفون بقواعد اللغة الاجنبية المعنية، إلا إن اللغة نفسها واستخدام مفرداتها هما نتاج نسق ثقافي وحضاري للمجتمع الذي يتحدثها وتعبير عنه، ولا يمكن بالتالي اقتطاع اللغة بمفردها «في الهواء» باعتبار اجادة التحدث بها ومعرفة قواعدها النحوية الصحيحة. والأهم ان تدريس اللغات أجنبية يهدف الى اطلاع الطلاب على ثقافات أخرى، لتجاوز الانغلاق الثقافي، «بمعنى أن نظل نحن نكلم أنفسنا». وتضيف قائله إننا لو طبقنا الفلسفة تلك نفسها، فعلينا فورا وقف حركة البعثات الخارجية، لأن الهدف من البعثات ليس فقط الاطلاع العلمي وتعلم اللغة، وإنما التعايش المجتمعي والاحتكاك الثقافي والفكري والحضاري. أما إلباس الخلاف الفكري والثقافي ثوب الوطنية فأمر مغلوط أيضا. وتشير إلى فترة حكم الرئيس عبد الناصر وكيف زادت حركة البعثات وأعدادها الى الخارج مع الحفاظ على مناهج اللغات المستوردة من الخارج، فهل يمكن اتهام عبد الناصر بعدم الوطنية؟
البروباغندا: الحج في غير وقته!
لم تكن أزمة كتب اللغات والتي استخدمت فيها أسلحة المعلومات المغلوطة هي الأزمة الوحيدة التى شهدتها ساحة الكتب المدرسية الجديدة. فقد كشفت الأسابيع الماضية عن أزمة كتب التاريخ في المرحلتين الابتدائية والثانوية، بإضافات تتضمن رأيا في ثورتي 25 يناير و30 يونيو، بل صورة لاستمارة «حركة تمرد» التي ترفض فيها استمرار الرئيس الاخواني في الحكم، مع صور لقادة «تمرد».. ما أشعل المعركة بين المدرسين والمتخصصين حول الكتابة التاريخية وأصولها. وما هي إلا أيام حتى دخل «حزب النور» السلفي على خط الأزمة وطالب بإقالة وزير التربية لاكتشافه أن المناهج الجديدة تصفه بأنه «حزب ديني»، وذلك يعد مخالفة صريحة للدستور الذي ينص على تجريم الأحزاب الدينية. وهدد الحزب بالانسحاب من «تحالف 3 يوليو» الداعم للرئيس السيسي، ما دعا وزارة التعليم لتشكيل لجنة تضم أعضاء من حزب النور ما زالت تدرس الأمر حتى الآن.. وهكذا أصبح الكتاب المقرر مجالا فجاً ومباشرا للصراع السياسي والاجتماعي!