تواجه مصر أزمة ثلاثية الأبعاد: أزمة حكم وقدرة على الحكم وعقليّة حكم، وما الإطاحة بالرئيس محمد مرسي أخيراً إلا مجرد تعبير عن تلك الأزمة. فالسؤال الذي تواجهه البلاد ليس مَن يحكم أو كيف يصل الحكام إلى السلطة، بل هو بالأحرى كيف يُحكَم. وتطرح الإطاحة بمرسي وبـ«الاخوان المسلمين» تحدّياً على الثنائية التبسيطية لرواية الانقلاب العسكري بمقابل الثورة، كون تلك الإطاحة تحمل عناصر من الاحتمالين معاً.
وفي حين أنّ اعتماد أحد هذين الاحتمالين (انقلاب أو فعل ثوري) تترتب عليه تداعيات متعدّدة، فإنّ الاختيار بينهما في هذه الحالة المحددة يعجز عن التقاط تعقيدات الواقع السياسي المصري الراهن. وأما الاستناد إلى المفاهيم والمصطلحات الأساسية للعلوم السياسية بغية توصيف وتعريف أحداث اجتماعية ــ سياسية مركّبة، فهو مقاربة خاطئة تشبه محاولة قياس الضغط الجوي باستخدام مسطرة. ولا يمكن التعامل مع الانتفاضة التي بدأت في مصر عام 2011 كما لو كانت مساراً مستقيماً نحو التحول الديموقراطي، تكمن مشكلته في أنه يغلّب الاعتبارات الإجرائية (على سبيل المثال انتخابات منتظمة، حرة وعادلة) على حساب مطالب جوهرية تتعلق بتحقيق العدالة والمساواة والحرية. ولذا، فمحاولة الجزم في ما إذا كان ما حصل هو انقلاب عسكري أو انتفاضة شعبية ينتقص من جوهر ما حدث. وعلى أية حال، فهناك ملامح من كلَيهما: كان هناك تدخّل عسكري بالفعل، لكنه استند إلى احتجاجات شعبية، وليس العكس. وبجميع الأحوال، فإن مثل هذه النقاشات والتصنيفات هي مضلِّلة أيضاً، بما أنها تتجاهل السمات الرئيسية للتحدّي المصري المستمرّ: هو أزمة حكم وقدرة على الحكم وعقليّة حكم، وليس مجرد صراع بين رئيس منتخب والجيش.
لقد ظلّت هذه الأزمة الممتدّة ملمحاً رئيسياً في السياسة المصرية منذ كانون الثاني 2011، وهي ستظلّ على هذه الحال إلى حين التوصل إلى وصفة جديدة لكيفية الحكم. وصفة تتخطى شكل الحكم وطريقة الوصول إليه، سواء بالانتخابات أو بالتعيين، لتنظر إلى «مكنون هذا الحكم»، أي إشراكه للناس في اتخاذ القرار، وأيضا التعبير عن مصالحها، ومحاسبة من يتم اختياره، وتنظر من جهة ثانية الى «عقلية الحكم» التي لا تعني عقلية الحكام وإنما آليات النظام في ممارسة السلطة وحدود هذه السلطة.
دولة متآكلة
يرغب الكثيرون في اعتبار ثورة 25 كانون الثاني 2011 كنهاية لحكم مبارك، إلا أن تلك الثورة تمثّل بالأحرى نهاية نظام 1952 السياسي الذي اعتمد على صيغة مرنة من استقطاب ولاء قطاعات من الشعب ومن الإكراه معاً، مع بعض التعابير الوطنية ــ القومية. وقد طُبقت هذه الصيغة بنجاح، منذ عبد الناصر مروراً بالسادات ووصولاً إلى مبارك، على الرغم من اختلاف التحالفات والخطابات التي اعتمد عليها حكم كل من الرؤساء الثلاثة. وتمثل الإطاحة بمبارك نهاية قابلية هذه الوصفة على الاستمرار، ولكنها فشلت في استبدالها بصيغة أخرى.
كان انخفاض الموارد المالية على مدى العقود التي سبقت سقوط مبارك يعني أن كسب الولاء من خلال شبكات زبائنية لم يعد خياراً قابلاً للاستمرار. كما كشف عجز قوى الأمن عن إيقاف احتجاجات كانون الثاني 2011 عن محدودية الذراع الإكراهية للنظام. وعلى امتداد عامين، حاولت الحكومات المتعاقبة ـ حكومة المجلس الأعلى للقوات المسلحة بدايةً، ثمّ في ظل الرئيس المنتخب مرسي ـ إعادة إرساء هذا النظام. عبثاً.
غالباً ما يتم إيراد أسباب عدة لتفسير سقوط مرسي، منها إصداره الإعلان الدستوري في تشرين الثاني 2012 الذي كان من شأنه السماح له بأن يحكم من خلال المراسيم غير الخاضعة لأي سلطة أخرى ( تشريعية أو قضائية)، ومنها استخدام قوات الأمن في عهده القوة المفرطة ضد المتظاهرين، فضلاً عن تعيين أعضاء من «الاخوان المسلمين» في مناصب تنفيذية حسّاسة ورئيسية، وإقصاء جميع القوى السياسية غير الاسلامية... وجميعها تُستخدَم لتفسير نقطة التحول الهائلة التي حصلت في 30 حزيران 2013.
في الواقع، لم تكن تلك الأحداث سوى أعراض لمتلازمة أساسية، حيث تعاطى مرسي وفق نمط الحكم نفسه وعقلية الحكم التي اعتمدها أسلافه، أي من خلال سعي مجموعة مغلقة من الممسكين بالسلطة (من الاخوان المسلمين بدل الحزب الوطني الديموقراطي الحاكم أيام مبارك) إلى شراء ولاء قوى الأمن (الشرطة والجيش) والنخب المالية ورجال الأعمال. بكلام آخر، سعى مرسي خلال العام الذي حكم فيه إلى إعادة إرساء النظام نفسه الذي أدّى إلى إسقاط حكم مبارك. افتقد هذا النظام إلى الشفافية وإلى المشاركة الشعبية في صناعة القرار وإلى المحاسبة. ومع نهاية العام الذي حكم خلاله مرسي، أثبتت مصر أنها عصيّة على الحكم: كانت الأجهزة الأمنية في حالة تمرّد، ونخبة رجال الأعمال تتحدّى النظام علناً، وملايين المصريين يتظاهرون في الشوارع. إذاً، ومثلما فعل المجلس الأعلى للقوات المسلحة، فإنّ «الاخوان المسلمين» في ظل رئاسة مرسي حاولوا إعادة إحياء دولة مبارك (من نواحي أنماط حكمها ومؤسساتها) من دون أن يفهموا أنّ أعمدة تلك الدولة قد تآكلت، وأن ثورة 25 كانون الثاني كانت التعبير عن هذا التآكل، ولم تكن سببه.
عملية ثورية تتأرجح بين قوى رجعية
يتوارى خلف الصراع العنيف الذي يبدو وكأنه يجري على أساس الهوية بين الاسلاميين والقوى غير الاسلامية، انقسام طبقي عميق للغاية، وأزمة عقليّة حكم (بما هي الفنّ والكفاءة في إدارة الدولة). إنّ «عقلية الحكم» هي المسألة الرئيسية التي تواجهها مصر حالياً، فيما يزيد الامور تعقيداً أن الرغبة الشعبية في إيجاد شكل ومضمون مختلفين للحكم ليست منظّمة، وتفتقر الى التعبير عن مطالب محدّدة. وعلى عكس حال «الإخوان المسلمين» وأركان الدولة من غير الإسلاميين، لا تزال القوة الثورية الشعبية تستند الى العفوية وتفتقد لقيادة جماعية ولتنظيم قادرين على ترجمة طاقتها الى مشروع سياسي بديل قابل للتنفيذ.
وما حصل في 11 شباط 2011 (الإطاحة بمبارك) أو في الثالث من تموز 2013 (عزل مرسي)، كان محاولة من الجيش للحفاظ على النظام مثلما هو، للحدّ من المزيد من تأصيل العملية الثورية، ولاستباق أي تغيرات في عقليّة الحكم. وفي حالتَي خلع مبارك ومرسي، فإنّ التضحية برأس النظام هدفت إلى ضمان عدم المسّ بالدولة نفسها. وفي حين أن الدولة، لناحية أجهزتها وبُناها، كانت (ولا تزال) ضعيفة لدرجة أنه يصعب ترميمها، فإنّ الهدف الرئيسي لمحاولات المحافظة عليها كان ضمان «عقلية» حكمها، أي العمليات والأنماط التي من خلالها تُحكم الدولة. هذا من جهة.
من جهة ثانية، يتواصل مسار ثوري يحضّ على التغيير في عقلية الحكم. ولذلك، فحتى القوّتين الأكثر محافظة، أي الإسلاميين والجيش (وهما حالياً أشد الأعداء) لجأتا باستمرار إلى توجيه نداءات لـ«الارادة الشعبية»، ودعتا إلى تظاهرات ضخمة للتعبير عن هذه «الإرادة». لقد اختار كلّ من الاسلاميّين والجيش، على التوالي، شكلاً من أشكال الشعبوية الوطنية (الإسلامية ثم المصرية )،
داعين إلى المشاركة الشعبية في لحظات أساسية تعبيراً عن قوّتهم، ما يعني أن التظاهرات الشعبية الضخمة أصبحت عنصراً مهماً وضرورياً في السياسة المصرية.
وفي حين نال كل من الاسلاميين والعسكر دعماً شعبياً متأرجحاً، فإنهم يتساوون لجهة الخوف من الجماهير: هم يبغضون المشاركة الشعبية، ويميلون بالتالي إلى استخدام هذه المشاركة فقط كأداة لتعزيز وزنهم السياسي أثناء خوض المعركة من أجل السلطة، وذلك لأن التحكُّم بمؤسسات الدولة بات غير كافٍ للتمكن من الحكم.
الخلاصة
كان عزل مرسي ــ الرئيس المنتخب ــ بعد عام واحد من الحكم، شبيهاً للغاية من نواحٍ عديدة لكيفية عزل مبارك بعد حكم دام ثلاثين عاماً. فهو لم يكن نهاية للتحوّل الديموقراطي بذاته، على ما قد يدّعي كثيرون، ولكنه يشهد على واقع أن الديموقراطية الإجرائية لا يمكنها أن تكون كافية.
بكلام آخر، فإنّ مجرّد كون مرسي «أول رئيس مدني مصري منتخَب» (وهو الشعار الذي طالما أحبّ الرئيس المعزول أن يتغنّى به) هو حماية غير كافية في وجه الغضب الشعبي في حال فشله في توفير العناصر الرئيسية المكوِّنة لتعريف الحدّ الأقصى للديموقراطية، أي الحرية والعدالة والكرامة والمساواة. ومصر اليوم واقعة في تناقضين جذريين. على مستوى أول، هناك تناقض بين أسباب وطموحات هذه الثورة (أي تلك القيم) وبين استمرار اختزالها من قبل الطبقات الحاكمة الى صراع على الهوية وعلى كيفية الوصول للحكم. وعلى مستوى آخر، هناك تناقض بين وجود عملية ثورية تجعل أرضية السلطة (أيّ سلطة كانت) غير ثابتة، وبين غياب إطر لقوة ثورية قادرة على الاستفادة من هذه العملية ودفعها بالاتجاه الصحيح.
ومع تولّي الجيش السلطة، واستغلال الممارسات العنفية للإخوان المسلمين والغضب الشعبي المتعاظم ضدّ حكمهم، يمكن لمصر أن تنساق الى المزيد من قوننة القمع والتطبيع معه تحت مظلة «الحرب على الارهاب». يضع هذان التناقضان مصر أمام مفترق طرق: الانزلاق في مسار مجموعات الإسلام الجهادي التي تنتهج العنف، أي أن تصبح هي التعبير عن أمل جيل أجهضت أحلامه في ثورة كاملة، أو استكمال هذه الثورة بالاستناد الى مفاهيم العدالة والمساواة. والمقصود هناك هو سؤال صناعة العملية السياسية نفسها. فمصر تشهد حالياً محاولات واضحة وعدائية، ليس لإعادة إرساء الدولة البوليسية فحسب، بل أيضاً لإعادة تطبيق وصفة سياسية تفيد بأنّ «الرابح يأخذ كامل الحصّة». وعلى الرغم من الاهمية الفائقة للانتخابات البرلمانية المقبلة، إلا أن الامر يستلزم أكثر من مجرّد التصويت في صناديق الاقتراع أو تغيير الرؤساء. يحتاج المصريّون إلى ابتداع شروط توفير شكل جديد من الديموقراطية التشاركية التداولية. ذاك هو التحدي الابرز اليوم والأكثر إلحاحاً.
- صيغة انكليزية مطولة لهذا النص على موقع «المركز النرويجي لبناء السلام» NOREF