"البصارطة": ألم قرية مصرية صغيرة

قرية متوسطة الحال كآلاف غيرها وآلاف أخرى أقلّ منها، بيوت تحاذي فيها الحياة خط المياه المتسرب من بلاعات الصرف الصحي. في "البصارطة" أسباب كثيرة للنجاح الذي لا يأتي أبداً دون ما ينغصه. فهى الأعرق فى صناعة الأثاث بمحافظة دمياط الشهيرة حيث بها ما لا يقل ـ حسب تقديرات ـ عن 100 ألف عامل ماهر. ولكن شاء لها القدر كعشرات غيرها أن تقع في المنتصف على خط الاكتواء بين قطبي المواجهة الصفْرية
2016-02-22

منى سليم

كاتبة وصحافية من مصر


شارك
أحمد السّوادني-العراق

قرية متوسطة الحال كآلاف غيرها وآلاف أخرى أقلّ منها، بيوت تحاذي فيها الحياة خط المياه المتسرب من بلاعات الصرف الصحي. في "البصارطة" أسباب كثيرة للنجاح الذي لا يأتي أبداً دون ما ينغصه. فهى الأعرق فى صناعة الأثاث بمحافظة دمياط الشهيرة حيث بها ما لا يقل ـ حسب تقديرات ـ عن 100 ألف عامل ماهر. ولكن شاء لها القدر كعشرات غيرها أن تقع في المنتصف على خط الاكتواء بين قطبي المواجهة الصفْرية المشتعلة فى مصر الآن.. بين السلطة وجماعة الإخوان.
ومع توالي الروايات القادمة من أراضيها عن  التخريب والحصار والقتل والاعتقال، أصبحت "البصارطة" من نجمات غرف الأخبار وإحدى أهم الكلمات المفتاحية لخريطة البحث الغوغلية عن "ما يحدث في مصر الآن".  فمن هناك بتلك المساحة التي لا تمثل 1800 من مساحة المحروسة يمكنك فهم كل شيء. خرجت القصة الكئيبة للنور فى عصر يوم شديد الحرارة منتصف العام الماضي، حيث نظم منتمون لجماعة الاخوان المسلمين مسيرة جديدة من مسيراتهم شبه اليومية انتهت بإلقاء قوات الأمن القبض على 13 فتاة، وهو الحدث الجلل بلا شك في بلد ريفي بشكل عام وفي قرية ذات تواجد إخواني كثيف بشكل خاص. توالت الفعاليات للضغط للإفراج عنهم، وذهب التفكير في إحدى الليالي للخروج من القرية وقطع الطريق الرابط بين المحافظات، وهكذا بدأت رحلة العنف تأخذ مناحٍ أكثر وعورة. قالت قوات الأمن إنّ عناصر الجماعة الإرهابية أطلقوا الأعيرة النارية (خرطوش) لإثارة الفوضى انتقاماً من قوات الشرطة بعد القبض على متظاهرات مما أسفر عن إصابة 21 مواطناً ومقتل مجند شرطة. بينما قال بيان نُشر على صفحة بعنوان "ثوار البصارطة ضد الانقلاب" أن الشرطة استخدمت الأعيرة النارية والغاز لتفريق المظاهرة مما أسفر عن إصابة العشرات.

كاميرات تلحق بها مدرعات

توالت البيانات ووصلت الكاميرات ثم دخلت المدرعات إلى قلب المشهد لتحاصر مدخل القرية وتمنع خروج المظاهرات إلى الطريق. ستة أيام كاملة وسط إجراءات تفتيش وتوقيف واسعة. ثم جاء "الاجتياح" كما يسميه الإخوان و"العملية الأمنية المباغتة" كما تسميها قوات الشرطة، ليزداد تفاقم الموقف وينتهى بمقتل  ستة أفراد، مجند ومخبر بقسم الشرطة وأربعة شباب منتمين لجماعة الإخوان المسلمين خلال اشتباكات تمت تحت جنح الليل.
"المذبحة"، "العملية الناجحة".. خطابات إعلامية متباينة لم تظهر أي منها على شاشات التلفزة داخل القرية، فقد انقطعت الكهرباء لفترات طويلة على مدى يومين بعد الواقعة، ناهيك عن منازل تكسرت وتهشّم أغلب ما فيها. 
يتذكر صاحب محل أثاث بالقرية الأيام التي مضت: "ببساطة لم ينته شيء. وقعنا بين طرفين لا يخافان الدم ونحن أضعف من القدرة على الحكم، و إن حكمنا نخاف أن نعلن، نحن أصحاب رزق". أكمل: أتردد كثيراً في الاتفاق على أعمال واسعة فالحملات الأمنية لا تتوقف، والمظاهرات أيضاً.

"أنا من البصارطة والكلام ده مغلوط وكذب. الحكومة مات منها ناس والإخوان مات منهم ناس، والقصة كانت اشتباكات مش اقتياد من المنازل"، كان هذا تعليق من شاب على صفحة إخوانية تفتح النقاش حول ما جرى، لكنها بالوقت نفسه نشرت فيديو لأهالي الشباب المقتولين على يد قوات الشرطة، مع دموع ووصف القتل بأنه بارد وأن أولادهم كانوا عزلاً.
يتذكر شاب آخر الواقعة ويقول "لقد مرّ عام فاعتدنا نحن ممارسات الطرفين، فالجماعة تنظم المسيرات نهاية كل أسبوع ولا يتعرض لها أحد من الأهالي، فكل عائلة بالقرية بها أفراد ينتمون للإخوان، وقوات الأمن تقوم بحملات بشكل دوري. والخروج من البصارطة أصبح عبئا حقيقياً، ففي المدينة (دمياط) يوقفك أي كمين للشرطة إذا اكتشف من أوراقك الثبوتية أنك من البصارطة، أما بالقاهرة التي أدرس بها فقد أصبحت أعاني، فالجميع يسألك: ما الذي يحدث في قريتكم؟ ثم يتخذون موقفاً منك شخصياً حسب اتجاههم السياسي، لم تعد قرية ولكن قضية رأي عام، وهذا أمر من الصعب التعايش معه".

الحياة: أفراح وأتراح.. ومجارٍ معطلة

..ويبقى البشر وحدهم على حالهم، لا يتوقفون عن استكمال تفاصيل الحياة العادية بحلوها ومرها، فالأفراح الشعبية على بعد أمتار من الجنازات، وفى المحفلين يتبادل الحضور الحديث عن مشكلة الصرف الصحي التي تعاني منها القرية بشكل متكرر، يتحدثون وكأن كل مشكلات مصر الكبرى قد تُحل يوماً ما بينما تبقى بلاعات البصارطة على حالها.
فقد جاء الإخوان للحكم ورحلوا، وبالأمس فاز رئيس جامعة الأزهر السابق أسامة العبد، الشهير بعداوته لجماعة الإخوان المسلمين بمقعد البرلمان داخل قرية البصارطة، ورغم هذا لا زالت المشكلة تبحث عن حل لا يهتم بالتصنيفات السياسية، ولا زالت الشوارع تنتظر.
يحدث هذا على الرغم من أنها من القرى القليلة التي دخلت إليها خدمة الصرف الصحي، وهي المحروم منها ما لا يقل عن 85 في المئة من قرى مصر بالدلتا والصعيد. يتحدث الأهالي  ساخطين على شاشة إحدى الفضائيات: "شركة المياة تًحصل فاتورة الصرف الصحي مع مياه الشرب وكأنهم لا يمرون وسط المياه العفنة من أجل الوصول إلى أبواب منازلنا". ردت الشركة بأنها لا تتوانى عن متابعة أي شكوى، ولكن هناك أزمة بسبب قلة أعداد سيارات الكسح وصعوبة دخولها إلى شوارع القرية الضيقة.
انتهى التقرير دون أن يطرح أحدهم السؤال على الهواء: "ولماذا تستطيع المدرعات أن تجوب الشوارع الضيقة نفسها؟". أسئلة تتردد فقط داخل الحجرات المغلقة.
خفّت بالتأكيد حدة ووتيرة الخروج بمسيرات ليلية، كما أن أغلبها كما تظهره الصور يضم سيدات وفتيات.
الروائح النتنة للصرف والصلف ـ كلاهما ـ تزكم الأنوف، و"البصارطة" ليست إلا نموذجاً  يشبه غيره كالميمونة في صعيد مصر وكرداسة على أطراف القاهرة، ولا زالت الحياة تجري داخل شرايين القرية ـ كل قرية ـ دون إجابة عن سؤال لماذا لا يتوقف كل هذا الألم؟

مقالات من البصارطة

العاصمة المصرية في مفترق طرق..

رباب عزام 2024-11-21

على الرغم من الأهمية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، بالنسبة إلى المواطنين، للمنشآت والمباني المقامة حالياً على أراضي "طرح النهر"، خاصة في العاصمة القاهرة، إذ يشمل أغلبها كثيراً من الأندية الاجتماعية التابعة...

للكاتب نفسه

عيش.. حرية.. إلغاء الاتفاقية!

منى سليم 2024-03-29

هل يستقيم ألا تغيِّر الحرب على غزة موازين الأرض؟ أو لا يصير الى صياغة برنامج سياسي مصري ينطلق من إلغاء هذه معاهدة كامب ديفيد، وأن يكون ذلك ركيزة للتغيير الجذري...