جنود بالأمر!

تغيرت الحكايات مؤخراً، ولم تعد الشكوى أن فلاناً هرب لوحده لهذه الجبهة أو تلك، بل أن رجالاً مسلحين، مخيفين جداً، قد اقتحموا المنازل باحثين عمن يستطيع القتال، وتركوا رسالة بسيطة: سينضم للقتال أو سيقتل، وإن فرّ، فها هنَّ النساء ومصيرهنَّ في أيدينا، وبعد كلمة "أيدينا" هناك الغمزة التي نعرف جميعاً معناها.
2021-03-25

ريم مجاهد

كاتبة من اليمن


شارك
جنود من الصبية في اليمن

في ثلاث السنوات الماضية، كانت أم نادية تحصي أسماء الشبان الذين التحقوا بالقتال، تحصيهم من جاراتها، من أقربائها في القرى، تحصيهم من نميمة بائعي الخضار، من حفلات الزفاف التي ترتادها وتبكي فيها الأمهات الملتاعات، من بيوت العزاء التي تواظب على الظهور فيها، وكل ليلة لديها حكاية عن شاب، عن فقد، عن جثة في الأماكن البعيدة التي لا تعرفها هي، وفي الأغلب لا تعرفها الأمهات.

فمثلاً هناك نادر، الذي تعرفه نادية وقد نشأت معه في الحارة ذاتها، تصر أمه بأن الميليشيا أغوته، ويصر الخضري بأنه ذهب لوحده. وهناك شهاب، ابن جارتهم في الحارة الجديدة، تعرفه نادية أيضاً، وتعرف صوته الحاد ووجهه الأسمر، وتتذكر بنطاله الفضفاض دوماً، تقول أمه إن أبناء خالته استدعوه من مدينة أخرى فهرب دون أن يقول وداعاً، تبكي الأم وتقول إنه لا يتصل بها ولا أبناء خالته يفعلون، وأن أختها تقول إنهم يحاربون أعداء الدين، وهي تخشى على أولادها الآخرين من هجمة الميليشيا إن عرفوا أن واحداً منهم يقاتل ضدهم.

"حالياً نادر يقاتل شهاب، يا للعالم العجيب"! كان هذا مضحكاً بالنسبة لنادية قبل أن تعود بالجثة.

لكن الحكايات تغيرت مؤخراً، ولم تعد الشكوى أن فلاناً هرب لوحده لهذه الجبهة أو تلك، بل أن رجالاً مسلحين، مخيفين جداً، قد اقتحموا المنازل باحثين عمن يستطيع القتال، وتركوا رسالة بسيطة: سينضم للقتال أو سيقتل، وإن فرّ، فها هنَّ النساء ومصيرهنَّ في أيدينا، وبعد كلمة "أيدينا" هناك الغمزة التي نعرف جميعاً معناها.

وتلك الحكاية ظلت حكاية، إلى اليوم الذي عاد فيه الفتى مذعوراً، مصفر الوجه، كان يحوم في المنزل ولم يقل ما الذي يحدث، فقط طلب من الجميع ألا يفتحوا الباب لأي زائر كان، ظلت الأم تتوسل إليه أن يخبرها لكنه لم يفعل، وفي اليوم التالي حين لم يخرج من غرفته، ذهبت الأم إلى سوق الخضار تتبع النميمة وما الذي حدث في الحارة وهي لا تعرفه، وكانت تعتقد أن ابنها قد دخل في شجار مع أحدهم.

تململ الخضري حين سألته، للمرة الأولى ترى في نظرته الشك، بدا خائفاً منها، مسحت المرأة بكفيها البضّين، وأظافرها المحنّاة الترابَ عن البطاطا، ثم اقتربت منه وخمارها يغطي باقات الكزبرة والبقدونس، قالت له:

- أنا لا أخفي عليك شيئاً، ابني منذ الأمس مذعور كفأر في الغرفة، هناك ما حدث ولا يخبرني، اعتقدت أنك تعرف شيئاً، هل تشاجر مع أحد؟

تنهد الرجل بعد أن امتص رائحة المرأة، شعر بالراحة وفكر أنه بأمان، كان الجميع يتوجس من الجميع في تلك المدينة البوليسية، ولم يعد يثق حتى بزبونته الدائمة ذات رائحة البخور.

- يا أم جلال، كيف لا تعرفين، بالأمس جاؤوا، رأيناهم بأم أعيننا - قال الرجل هامساً ومقترباً هو منها، بينما ركبته تتكئ على كومة البصل الأحمر- لقد هاجموا عمارة الحاج أبو أحمد، وأخذوا ثلاثة: رامي، والأخوين نصار ويوسف، رموهما في "الطقم"، وكان خالد ماراً بالصدفة في الشارع فأخذوه هو الآخر.

- خالد؟! شهقت الأم ولطمت صدرها.

- نعم خالد، عويل أمه كان ملء الحارة بالأمس - أكد الخضري - وجلال ابنك مع آخرين اختبؤوا في الزقاق الذي خلف العمارة الحمراء، كانوا أذكى من خالد المسكين، إنهم قادمون من أجل الجميع يا أم جلال.. هز الرجل رأسه يائساً.

جن جنون المرأة، تركت الحزم التي اشترتها وغادرت راكضةً، كان الرجل يناديها متسائلاً إن كانت ستأخذ ما اشترت، لكنها لم تعد تسمع ولا ترى سوى المصيبة القادمة، المصيبة التي كانت تصيب كل العائلات، لكنها لم تفكر يوماً أنها ستصيبها هي.

حاول الجميع تهدئتها، لكنها كانت قد قررت، وأيّاً يكن الذي سيقولونه، لم يعد يعبر قنواتها السمعية:

- سنعود كلنا إلى القرية! حتى تنتهي الحرب.

الجميع يصرخ: "مدرستي"، "ومن أخبرك أن الحرب ستنتهي"، "لن أغادر ولو قتلتني"، "عملي"، "تعرفين أننا لن نستطيع الحياة في القرية"...

لم يعد مهماً ما سيقال، اقتربت البنت الكبرى منها، احتضنتها ثم أجلستها. جلست المرأة وهي تلطم خديها وركبتيها:

- ما زلت ترتدين عباءتك، ما رأيك لو تزورين جيراننا وترين بنفسك أم رامي أو أم نصار أو أم خالد؟ استعلمي عما جرى وبعدها سنقرر.

في منزل أم نصار، جلست أم نادية كما لو كانت في عزاء، كانت الأم نائمةً على الأرض في غرفة المعيشة، وبجانبها اثنتين من فتياتها، وزوجة نصار الشابة بصبغة شعرها الشقراء وعينيها العسليتين الدامعتين، تزوجت منذ أشهر وسكنت في منزل العائلة المكوّن من شقتين.

لم تعرف الأم ما الذي يجب أن تقوله في موقف كهذا، ولا كيف تقول ما تريد قوله. جلست على الأرض قريباً من قدمي الأم المستلقية على جانبها، دلكت القدمين المخبأتين تحت بطانية منقوش عليها نمر ضخم، ثم استجمعت شجاعتها لتسأل عما حدث، حدثتها كبرى البنات، بما أن الأم ملتزمةٌ الصمت والنشيج:

- لقد جاءت قبل أيام إحدى النساء لزيارتنا، لم نكن نعرفها لكننا استقبلناها، ظلت تسأل عن عائلتنا من أين نحن؟ ولأي قبيلة ننتمي؟ وأمي ترد عليها بكل صدق، وحين عرفت أن لدينا أربعة شبان في المنزل، تغيرت نبرتها وأصبحت متعجرفة، كانت تخطب فينا كيف أن المقاتلين في سبيل الله يموتون على الجبهات، وأنهم يدافعون عن أرضنا وعرضنا، وتعجبت كيف لا يساهم شباب البيت في القتال. قالت لها أمي إن أبناءها لن يحاربوا أحداً وهم ليسوا بمقاتلين، هددتها المرأة قائلة: إن كنت تريدين الستر لبناتك، فالأفضل أن يدافع الرجال عن شرفهنَّ في الجبهات. بالأمس كان نصار ويوسف في المنزل لأجل الغداء، بينما أبي والبقية في الورشة يعملون، فوجئنا برجال مسلحين يقتحمون الباب، دون أن ينتظرونا لنغطي شعرنا أو نلبس عباءاتنا، اختبأنا في الغرف بينما بقيت أمي معهم، وضعوا الأسلحة على رأسيهما وهدداهما بأنهم سيأخذوننا أيضاً إن أحدثا أية ضوضاء، انصاعا وذهبا معهم. توقفت الفتاة الرقيقة لتبكي.

- اهربي بابنك يا أم جلال، أنا ضيعت أولادي، لا تضيعي أنت ابنك الوحيد.. همست المرأة المستلقية، كأنما من عالم آخر.

متران أو ثلاثة يفصلان بابي العمارتين، لكن الأم ضلت سبيلها ووجدت نفسها في الشارع العام خلف الحارة، كانت لا تلوي على شيء وقد سيطر الرعب على قلبها، توقفت بجانب ورشة النجارة في ناصية الحارة تراقب الشارع والسيارات المستعجلة، وبينما تقف، عبرت ناقلات الجند المكشوفة من أمامها، فتجمدت تشاهد العربات الطويلة، تذكرت أنها في الماضي شاهدت ناقلات الجند، كانوا يرتدون الأخضر، وكانوا أكبر سناً قليلاً ويبتسمون، وقد لوحت لهم فبادلوها الابتسام. أما هذه العربات، فكانت تقل أطفالاً في الأغلب، مغبرين وناحلين، يرتدون ملابسهم العادية، بعضهم ألقى لها بنظرة تشبه التوسل وآخر بنظرات العداء، على طرف العربة تشبث بعمود العربة صبيان ربما في الرابعة عشرة من عمرهما، أحدهما يرتدي تيشيرتاً بنياً، وبنطالاً رياضياً أزرقاً ممزقاً في أطرافه، والآخر يرتدي "زنة" كانت بيضاء في يوم ما، وقد شد خصره بحزام عريض، والاثنان ينتعلان صنادل مطاطية. ومباشرة بعد ناقلتي الجند المكشوفتين، عبرت مدرعتان مخيفتان لم تعرف الأم ما هي مهمتهما.

دارت الأرض بالأم فعادت أدراجها إلى المنزل، كان الجميع مذعوراً وقد تشكلت التحالفات، طمأن الأب فتياته أنه لن يغادر لأنه سيفقد عمله، وهو على عكس الملايين محظوظٌ لأنه لم يفقد عمله حتى الآن، لكن الفتيات يعرفن أن أمهنَّ إذا قررت فلن يكون للأب أي صوت في القضية.

وقفت المرأة عند الباب، مرتاعة خائرة القوى وأعلنت:

- ستبقى ندى - الأخت الكبيرة - وفاطمة – الصغرى - وأبوهما، هو حتى لا نموت جوعاً، وفاطمة حتى تكمل امتحاناتها وندى حتى ترعاهما والجدة، ونحن سنغادر غداً، وسنستقر في دار الجدة، ستتصل الآن - مشيرةً إلى الأب - بصديقك صاحب الشاحنة، وسنسافر كلنا بسيارة الأجرة التي تسافر فيها عائلة ابن عمك. لا يقول أحدكم شيئاً، لديّ ابن واحد ولن يموت على الجبهة، ولدي بنات لن يغتصبهن أحد، إن جاؤوا بحثاً عنه قل لهم أنه يدرس في الهند.

لم يقل أحد شيئاً، الجميع يعي أن ما قالته الحقيقة، وكانت نادية تعرف أكثر من الآخرين ماذا يعني الموت في الجبهات وماذا تعني الأمهات المكلومات: لقد رأت بأم عينيها.

تعرف نادية أنه لا مجال للثورة ولا للبكاء، فلن تغير أية قوة في الكون ما قررته أمها، وقبل أن ترسل رسالتها النصية لصديقتها وداد، تحركت باتجاه غرفة الجدة، جلست بجانب سريرها وسألتها:

- سنعود للقرية يا جدة، والآن أخبريني، ما الذي حدث لابنة عمي ماجدة؟ لا تكذبي علي، لأني سأعرف هناك. 

الحلقة الأولى
الحلقة الثانية
الحلقة الثالثة
الحلقة الرابعة
الحلقة الخامسة
الحلقة السادسة
الحلقة السابعة
الحلقة الثامنة
الحلقة التاسعة
الحلقة العاشرة
الحلقة الحادية عشر
الحلقة الثانية عشر
الحلقة الثالثة عشر
الحلقة الرابعة عشر
الحلقة الخامسة عشر
الحلقة السادسة عشر
الحلقة السابعة عشر
الحلقة الثامنة عشر
الحلقة التاسعة عشر
الحلقة العشرون
الحلقة الحادية والعشرون
الحلقة الثانية والعشرون

مقالات من اليمن

للكاتب نفسه

رثاء...

ريم مجاهد 2023-07-06

"صلاح" لم يكن ابن أمي الوحيد، لكن أمي كانت - تقريباً - عالم صلاح الأوحد. هذه العلاقة التي تُسلّم بها العائلات التي تحظى بطفل/ة من ذوي الاحتياجات الخاصة... يعرف الجميع...