نشر الشاب المصري المسيحي "ستيفن بطرس" عبر صفحته على فايسبوك تفاصيل ما جرى معه في تلك القضية العبثية التي أطلق عليها المصريون "قضية البلح"، حيث تم القبض عليه بتهمة "التبشير" بسبب توزيعه "تمر" على الصائمين فى رمضان.
واحدة من أهم التفاصيل التي شملتها تلك القضية هي أن "بطرس" البريء لم يتم القبض عليه من خلال رجل شرطة مر مصادفة بذاك الشارع الشهير بمدينة الاسكندرية، بل "بفضل" أحد "الجيران"، ويعمل صحافياً محلياً. فأثناء عودته من عمله، مر بستيفن وأصدقائه، ولم يعجبه منظر الشباب المسيحي حاملاً التمر، فنادى على آخرين وقاموا بحبس الشباب الثلاثة داخل محل تجاري، واعتدوا عليهم بالضرب، بل وقُرِئت عليهم لائحة الاتهام نفسها التي ـ ولا مجال للاستغراب ـ تطابقت مع ما جاء في محضر الشرطة!
وما سبق ليس مشهداً شاذاً، كما أنه لا يعكس بالأساس "تطرفاً دينياً"، بقدر ما يكشف عن كارثة ثقافية بدأت قبل عامين عقب احتجاجات "30 يونيو"، وانتشرت، في ظل انقسام مجتمعي حاد يؤججه كل من الإرهاب الداعم سياسياً لموقف جماعة الإخوان المسلمين بعودة الرئيس المعزول محمد مرسي، والاستبداد الذي أصبح أداة النظام العليا لإدارة الدولة دون الالتفات لحجم الانتهاكات والمظالم التي يولدها.
الكراهية اخترقت الجدران
أما الوساوس، فقد نخرت علاقات آلاف الأسر في الحي الواحد، هذا ناهيك عما يمكن أن تخلقه ـ وقد حدث ـ كل من روح الدعابة السمجة وتصفية الحسابات الدنيئة في مثل هذه الظروف، حيث يسود المبدأ المراوغ: "لماذا تصبح مجرد عدو شخصي لي طالما يمكن أن تتحول إلى عدو للوطن!". وهكذا، وبينما يدير الساسة لعبتهم وفق التطورات الطارئة على الساحة الداخلية والترتيبات الإقليمية، تشهد الأحياء والشوارع والبنايات تغيرات خطيرة. يحكي الكاتب أحمد سمير فى كتابه الصادر حديثاً بعنوان "مانشيتات يوم القيامة" عن "الغضب المكتوم" هذا الذي ظهر فوق مدافن "الغفير" الشهيرة بالقاهرة حين تجاورت أسرتان من العائلة نفسها، ولكنهما تتنكران لبعضهما اليوم ، يقول: "في اليوم التالي لفض اعتصام رابعة، يذهب صديقي لعزاء أحد ضباط الشرطة من أقاربه قُتل خلال فض الاعتصام.. وما إن يُفتح القبر حتى تتقدم جنازة أخرى الى المقبرة نفسها. جنازة لفرد من العائلة نفسها، لكن من فرع آخر، فهو عضو بالإخوان سقط بدوره في رابعة.. تنتظر أسرة الإخواني في الخارج لحين انتهاء مراسم دفن الضابط.. صديقي وكبار العائلة يتبادلان المواساة بأدب وسط نظرات كراهية بين شباب فرعي العائلة.. خلال دقائق.. تنزل جثة الضابط وبعده جثة عضو الإخوان ليستقرا في القبر نفسه والحفرة نفسها ويغلق عليهما معاً". ويحكي عن يوم بقرية في صعيد مصر، حيث انفتحت القبور لتستقبل وافدين جديدين، الأول "مش من ولادنا.. مع تحيات وزارة الداخلية".
هناك المئات مثل الحفرة التي ضمتهما بكل محافظات مصر، بل إن جدران "مشرحة زينهم" بالقاهرة تحتفظ بأسماء أغلب الراحلين متجاورة دون ترتيب أو تصنيف رغم الهتافات والشعارات المعادية التي خلقها المشيعون من كل طرف.
وعقب "الغضب المكتوم" بلحظة الدفن، يطل "العنف" برأسه من دون هوادة، في مشهد لا يمكنك أن تفرق فيه الظالم عن المظلوم دائماً. العنف يكمن هناك، حين يواجه بعض الأهالي من اصحاب المحال التجارية المتظاهرين من جماعة الإخوان بوابل من الشتائم و الزجر حتى لا يعطلوا حركة المرور أمام أماكن رزقهم، التي كانت قبل شهور قليلة مزارات يرتادها هؤلاء المتظاهرون أنفسهم وغيرهم من أبناء الحي لشراء حاجاتهم منها. يكمن "العنف" بين أيدي شاب صغير يخرج من التظاهرة التابعة لجماعة الإخوان ليحرق زي "راهب" أمام مبنى "الكنيسة" التي طالما مر من أمامها فى ذهابه وإيابه من المدرسة، وودع عند بابها يوماً عددا من رفاقه.
الوشاية.. المنظمة!
تبدو الوشاية نشاطاً شيقاً يدفع بصاحبه لعيش أدوار تمثيلية طالما تمناها، فيصبح مثلا "شرلوك هولمز". وهي تجاوزت المدى. بدأت العجلة دورانها بتشجيع الدولة المواطنين على الاتصال بالأرقام الظاهرة على شاشة التلفزيون ليل نهار، للإبلاغ عن جيرانهم أو الغرباء في المنطقة، ممن يشتبهون في "تورطهم في أعمال عنف"، أو في "تحريضهم ضد الدولة وجيشها وداخليتها"، أو في"إدارة صفحات الكترونية تتبنى شعارات معادية للشعب وثورته". ثم تمّ فتح القوس على آخره من خلال دعوة بعض الأطراف السياسية والاعلامية للشعب لـ "الإبلاغ عن المنتمين لجماعة الإخوان المسلمين". هكذا، كان التطور الطبيعي لماراثون الإبلاغ الذى شارك فيه الجميع، من مؤسسات دينية رسمية وجماعات سلفية قريبة من النظام تفتي بـ "شرعية" الإبلاغ عن أخيك إذا تبين لك تورطه في "ما لا ترتاح له وتشعر أنه ضد الدولة".
وفق هذا المفهوم أبلغ المواطن علي بصدر رحب وشجاعة متناهية عن جاره ستيفن بتهمة التبشير، بل كبله و ذهب به بنفسه الى قسم الشرطة. ولا شك أن هناك بعض الإبلاغات التي ساهمت فى كشف مجموعات إرهابية. لكن، غالباً تدمرت آلاف من العلاقات الإنسانية بين الجيران وحتى الأهل، مما يدفع الكثيرين الآن في مصر إلى الانكفاء على أنفسهم، بينما يسير هذا او ذاك متلفتاً خائفاً من أن يكون هناك من بين الجيران من يفسر عودته كل ليلة فى وقت متأخر وفق تفسير خاطئ. إنه "الصمت" يلف الجميع الآن بعد ان انتشرت "الكراهية" حيث لم تعد العلاقات كما كانت وخاصمت "البيوت" بعضها.
نماذج عن المتداول
• بلغ عن واحد سيساوي!
"ﺃﺭﻗﺎﻡ ﺍﻷﻣﻦ الوطني ﻟﻺﺑﻼﻍ ﻋﻦ ﺍﻹﺧﻮﺍﻥ ﻭﺍﻹﺭﻫﺎﺑﻴﻴﻦ
22645000، ﻭ22646000، ﻭ22647000
انزل أشتري ﺧﻂ ﻣﻦ ﺃي ﺣﺘﻪ ﻣﻦ ﻏﻴﺮ ﻓﺎﺗﻮﺭﺓ (ﻭﻣﺎ ﺃﻛﺜﺮﻫﻢ (ﻭاﺗﺼﻞ ﻭﺑﻠﻎ ﻋﻦ ﻭﺍﺣﺪ ﺳﻴﺴﺎﻭي
ﺇﻋﻤﻠﻬﻢ ﺭﺑﻜﺔ، ﺧﻠﻲ ﺍﻟﻜﻞ ﻳﺪﻭﻕ، ﻭﺑﺎﻟﻤﺮﺓ ﻳﻔﻘﺪﻭﺍ ﻣﺼﺪﺍﻗﻴﺔ ﺍﻟﻤﻜﺎﻟﻤﺎﺕ
ﻭﻣﺎﺗﻨﺴﺎﺵ ﺗﻀﻴﻒ 02 ﻗﺒﻞ ﻛﻞ ﺭﻗﻢ.
ﻣﺤﺪﺵ ﻳﺎﺧﺪ ﺍﻟﻜﻼﻡ ﺑﺘﺮﻳﻘﻪ، ﺃﻧﺎ ﻣﺶ ﺑﻬﺰﺭ
ﻭﺭﺑﻨﺎ ﻳﻘﺪﺭﻧﺎ ﻋﻠﻰ ﻓﻌﻞ ﺍﻟﺨﻴﺮ
ﺍﻟﻮﺍﺣﺪ ﻣﺎﺑﻴﺤﺒﺶ ﻳﺘﻜﻠﻢ ﻋﻦ ﻧﻔﺴﻪ ﻛﺘﻴﺮ ﺑﺲ ﻓﻜﺮﻩ ﻭﻋﺎﻭﺯﻳﻨﻬﺎ ﺗﺘﻨﻔﺬ.
• حملة التبليغ عن الاخوان
"كل واحد بيعرف حد اخواني يكتب اسمو وعنوانه وصورته إذا أمكن،
يلا ننضف بلدنا بأيدينا".
• تموز/ يوليو 2013
"الرجاء الإبلاغ عن أي شخص يُهدد أو يُسيء للمؤسسة العسكرية بإرسال بياناته ورابط صفحته الشخصية على الأرقام التالية للأهمية 16138- 16137».. دعوة تناقلها نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي للإبلاغ عن المحرضين على المؤسسة العسكرية، وهي خطوة انتقدها البعض بدعوى أنها تمثل حجراً على الحريات، ومن بينهم حركة 6 أبريل التى نشرت أرقام الاستغاثة ثم عادت لتحذفها بعدما تلقت انتقادات، فيما اعتبرها آخرون خطوة ضرورية في ظل الحالة الاستثنائية التي تعيشها البلاد. من جانبها، استقبلت صفحات "الإخوان" دعوات الإبلاغ عن المسيئين باستهزاء، ومنها صفحة "الإخوان جماعة اتظلمت كتير" التي تحدت نص البلاغ عبر تدوينات مثل "بمناسبة تهديدات الأمن الوطني إن أي حد هيشتم السيسي هيتعاقب، جاءت الآن فقرة إهانة السيسي، مين هيشارك معانا فى حملة إهانته كواجب وطني".
• نيسان/ابريل 2015
وجهت السلطات الأمنية المصرية تعليماتها لشيوخ المعاهد الأزهرية بوجوب التبليغ عمن أسمتهم "المتعاملين مع الجماعات الإرهابية" أو المتعاطفين معهم، سواء من العاملين أو الطلاب. ونشر الناشط الحقوقي "هيثم أبو خليل" عبر صفحته على فيسبوك صورة من وثيقة رسمية موجهة من إدارة الأمن بالإدارة المركزية لمنطقة الشرقية الأزهرية لجميع شيوخ المعاهد الأزهرية، والتي جاءت بناء على تعليمات وكيل الأزهر، ومدير عام الإدارة العامة للأمن بالأزهر الشريف.
وجاءت التعليمات الأمنية الواردة في الوثيقة بـ "تشديد الإجراءات الأمنية بالأقسام التعليمية والمعاهد الأزهرية التابعة لها، والإخطار الفوري عن المتعاملين مع الجماعات الإرهابية من العاملين أو الطلاب بالمنشآت الأزهرية التابعة للمنطقة وكذلك المتعاطفين معهم". واختتمت الوثيقة بالتهديد "في حالة التهاون وعدم الإبلاغ عن أي من هذه الجماعات أو المتعاطفين معهم".
وبررت تلك الإجراءات بأنها "نظرا للظروف الأمنية التي تمر بها البلاد وتزايد المخاطر الأمنية الناشئة عن تحركات تنظيم الإخوان الإرهابي وغيره من التنظيمات الإرهابية التي تهدف إلى إسقاط الدولة المصرية.." بحسب الوثيقة. وأفتى مشايخ السلفية بأن الإبلاغ عن المحرضين والممارسين للعنف من الإخوان وأنصارهم، هو واجب وطني وشرعي، فقال محمد الأباصيري الداعية السلفي لـ "الوطن"، إنه "في ظل فجور الجماعات الإرهابية وأنصارها فى حق الدين والوطن والمواطنين" الخ الخ..
ونشر الكاتب بلال فضل "كل ثلاثة أيام تقريباً يصلني الإيميل نفسه الذي يختار له العنوان نفسه: (تحذير من مواطن شريف: عمارة يتم تأجيرها بالكامل للإرهابيين والإخوان المسلمين)، واضعا في المتن اسم صاحب العمارة وعنوانها بالكامل، ولاعنا سنسفيل صاحب العمارة وكل سكانها، بل وكل سكان الشارع الذين يتسترون على جريمة تسكين إرهابيين يتآمرون على مصالح الوطن، ثم بدأت إيميلاته بعد فترة تصبح أكثر حدة ومبالغة. قلت لنفسي: بالتأكيد يشعر ذلك الرجل بحزن عميق، لأنه تلقى طعنة غادرة في وطنيته، فهو لم يفعل شيئا سوى الامتثال لقيادته الحكيمة التي خصصت في العام الماضي خطوطاً ساخنة تحث فيها المواطنين على الإبلاغ عن أعضاء جماعة الإخوان الإرهابية"..
وقبل أسابيع، كتب عبد الرحمن زيدان منسق "جبهة ثوار" بمنطقة شرق القاهرة على صفحته بفيسبوك شهادة تداولها الكثيرون، روى فيها تفاصيل واقعة شهدها خلال ركوبه الميكروباص عائداً إلى منزله، حيث فوجئ بامرأة من الركاب تهاجم السيسي والحكومة والداخلية بشراسة وسط استغراب الجميع. أحد الركاب تحمس لما قالته السيدة التي كان يبدو أنها قد تجاوزت الأربعين من عمرها، وتجاوب معها ليبدأ هو الآخر في مهاجمة السيسي والداخلية والحكومة آخذاً راحته حبتين. وقبل أن يتدخل عبد الرحمن في الحديث، فوجئ بالسيدة تطلب من السائق أن يتوقف إلى جوار كنيسة مر عليها الميكروباص. وما إن توقف، حتى أخرجت رأسها من الشباك لتنادي على حرس الكنيسة صارخة "الحقوني.. في إخواني إرهابي في الميكروباص"، ليجري الحرس إليها ويبدأوا بضرب الشاب وإنزاله، تصحبهم السيدة لكي تدلي بشهادتها على فعلته الشنعاء، ناظرة إلى كل من في الميكروباص بتحدٍّ وهي تقول لهم بفخر شديد: يالله، خلِّيها تنضف".