ليست بالضرورة ملاكاً، لكنها بالتأكيد لا يمكن أن تمارس مهنتها دون أن تتورط مشاعرها، حتى وإن أعطت الحياة أحياناً صوراً لنماذج شديدة السوء.
فهي لا تملك اختياراً في زمن كورونا البغيض. بين رفيقات عملها هناك من تتغيب، هناك من تتذمر، وهناك من لا تعمل بجدٍ أو تعاطف، ثم هناك دون مبالغة عشرات الآلاف مثلها ممن يعملن بتفانٍ وفي مناخ من الضغط والمخاطرة. يعملن ولا يزلن، رغم استشهاد ما يقارب 200 منهنَّ حتى الآن. يحملن الفيروس اللعين من بين الجدران الرمادية الكئيبة للمستشفيات، ويعدن لبيوت منهكة بسيطة تحمل أطفالاً وحياة صاخبة وواجبات.
إنهنَّ "الممرضات المصريات"، "الواهنات الصامدات". يرسمن جزءاً خاصاً من الصورة الموجعة الجليلة التي تشمل التضحيات العديدة للفرق الطبية في مواجهة الوباء، مضافاً إليها كل أسباب العناء التي تشابكت مع خطوط عملهم على مدار السنوات.
التمريض في مصر
تنتشر عبر ربوع مصر، وبكثافة شديدة متواترة، مدارس التمريض العليا التي تلتحق بها الفتيات، وبشكل خاص في الأرياف والأماكن المتواضعة معيشياً في المدن، بعد مرحلة التعليم الأساسي، وذلك في محاولة من أهلهنَّ لتأمين مستقبل مستقر.. لا آمن. وظيفة مختصة تسمح بتوفير دخل للكسب في وقت قليل ولو بقروشٍ قليلة. ويمكنها أن تلتحق بالكلية المتخصصة، وتسعى نحو مزيد من الترقي والسفر للخارج والعمل بالقطاع الخاص.
ومن دون الانتقاص من الأهمية المهنية للتمريض، إلا أن مدارسه أصبحت مصبّاً للطالبات المتفوقات، ممن تنبئ درجاتهنَّ باحتمالية الوصول لكليات الطب والهندسة وغيرها، ممن اتفق على تسميتها "كليات القمة". ومن ناحية أخرى فغالباً ما ترتبط مهنة التمريض ـ وبشكل خاص للنساء ـ بحياة اجتماعية شديدة الإرهاق. وعلى الرغم من ذلك، فإن عملهنَّ المرهق ذاك يمثل رافداً أساسياً في مصروفات المعيشة، سواء في بيت الأسرة أو الزوج، وهو ما يستلزم دوماً مزيداً من ساعات العمل والسعي للترقي، فيما هنَّ يتحملن كافة المهام المنزلية المرهقة هي الأخرى... بينما تختلط بالمهنة العديد من الصور الذهنية السلبية التي تراكمت لأسباب عدة قوية وهشّة.
خصخصة الجامعات في مصر
23-04-2015
يبلغ عدد أعضاء نقابة التمريض ما يزيد عن 220 ألف ممرضة وممرض، ووفقاً لآخر حصر، فقد وصل عدد الوفيات رسمياً بسبب فيروس كورونا إلى أكثر من 290 ممرضاً وممرضة. وعلى مدار ما يزيد من عامٍ، عقب انتشار الوباء، عانى التمريض كغيره من أعضاء الفرق الطبية من مشكلات متكررة، بدايةً بعدم التوفر الكافي لمستلزمات الوقاية أو توفر المسحات لاختبار التعرض للإصابة، ورفض الحصول على الإجازات حتى عندما يتعلق الأمر بظروف الحمل ورعاية الرضع.
حصلت أسر بعض الشهداء على تعويض من صندوق نقابي، لم يزد عن 20 ألف جنيهاً، ولاقى أغلبهم صعوبات شديدة في استيفاء الأوراق الرسمية المطلوبة لإثبات أن الإصابة خلال العمل أدت للوفاة. ولم يزد المعاش المستحق لأي منهنَّ عن الـ 3 آلاف جنيه شهرياً مقابل سنوات عمل تتراوح ما بين 15 إلى 40 عاماً.
من دفتر الحكايات
في ضوء هذا الوضع، صاغت السيدات كوثر وآمال، والشابات أمل ومي ومنار، تجربتهنَّ. خمس حكايات عمنَّ عشن حياة متسارعة الوتيرة، ثم رحلن في لحظة خاطفة أحدثت صدعاً غير عادي على المستوي المعنوي والمادي في حياة أسرهنَّ، وأثقلت كل معنًى إيجابي وسلبي تواجهه الممرضات بالمستشفيات خلال معركة الوباء.
- مي
يرسل لي "محمد"، مدرّس الجغرافيا، ابن مدينة "المحلة"، صورةً لتشقق سقف البيت، بدلاً عن صورة زفافه على الشهيدة "مي" التي أنجبت له خمسة أولاد، ورحلت قبل أن تكمل عامها الثامن والثلاثين. قال: "لعل هذه الصورة هي الأهم"، في إشارةٍ لحجم المشقة الاقتصادية التي يواجهها بعد رحيلها، وقد كانت تتحمل معه نصف المصروفات على الأقل. قلت: "سقف بيتك تصدع بالفعل أو لنقل عموده الرئيسي"، فارتبك صوته على استحياء يشي بأن عيونه قد أدمعت بعض الشيء. حدثني عن الأولاد، فكانت المفاجأة. فهذه الشابة قد رحلت قبل 6 أشهر وتركت توأمين، "كريم وكرمة"، لا يزيد عمرهما الآن عن عام واحد.
كيف كانت تعمل ولماذا؟ قانون العمل المصري لا يسمح بإجازة طويلة مدفوعة الأجر في حال الإنجاب الرابع، كما أن قراراً إدارياً قد صدر مع بداية انتشار فيروس كورونا بمنع الإجازات داخل المستشفيات في ظل حالة الطوارئ. يحكي: كانت تنزل للعمل يومين فقط. وكنت أساعدها أنا وأسرتي في رعايتهما بقية أيام الأسبوع. كانت مشرفة تمريض رعاية الأطفال بالمستشفى الحكومي. حصلت على هذه الترقية قبل ثلاثة أعوام، بعد أن أنجزت الماجستير وزاد راتبها مئة جنيه. بعد شهرين من بدء الجائحة تم تحويل الوحدة لرعاية حالات كورونا، فما كان أمامها غير الامتثال.
العلاج على نفقة الدولة.. سند الغلابة في مصر
09-10-2019
مع بداية ظهور أعراض الإصابة عرضت نفسها على الطبيب المختص داخل المستشفى، فاكتفى بعمل صورة إشعاعية وبعض التحاليل وأصدر قراراً بالعزل المنزلي. خلال 4 أيام بدأت حالتها بالتدهور. ذهب بها زوجها للمستشفى مرة أخرى، وهناك تم حجزها بعد معاناة، تساوت فيها مع أي مواطن مصري دون تمييز. يحكي: "كانت في البداية داخل رعاية متوسطة، تتنفس بصعوبة لكنها كانت قادرة على الحديث والأكل، وكنت أنا من يقوم بكثير من المهام لتمريضها، فأعداد العمال أو الممرضات لم تعد كافية. وفي ليلة هي الأصعب في حياتي، أمسكتْ يدي وزاد الاختناق، تمّ نقلها سريعاً للرعاية الفائقة، وتخديرها ووضعها على جهاز التنفس الصناعي. لم أرها حتى استلمت الجثمان".
- آمال
تحكي "أسماء" عن والدتها، السيدة ذات السيرة الجميلة، الممرضة الشهيدة "آمال" من مدينة كفر الدوار محافظة البحيرة. وهي إحدى الوجوه المحفوظة عن ظهر قلب بمكتب الصحة الذي تتردد عليه الأمهات من أجل تطعيمات الرضع وغيرها من الخدمات الأساسية. كانت تظن أنها بعيدةٌ عن الإصابة لكنها حصلت معها على الرغم من حرصها على ارتداء الكمامات. بعد رحيلها اضطرت الابنة الكبرى إلى بيع شقتها السكنية لسداد الديون المتراكمة، قالت: "كانت كل شيء.
رحل والدي مريض السرطان بعد شهرين من وفاتها. هي من كانت ترعاه وتتكفل بكافة شؤون حياتنا. فجأة ودون إنذار أصبحت هذه خراباً. كانت تعمل بالمشغولات اليدوية إلى جانب عملها في التمريض لسد الأقساط المالية المتراكمة من أجل إتمام زفاف أختي وقبلها زيجتي. كانت ترعى بناتي وتسعى لأن توفر لي عملاً آمناً، لكني أتذكر أنها لم تشجعني أبداً على الالتحاق بكلية التمريض. دائماً ما كانت تقول: "شقاء صعب".
لم تحصل أسرة أي من السيدتين على معاش استثنائي ككل أسر الشهداء، تقول أسماء: "حين علمت بالوفاة رفضتْ إدارة المستشفى تسليمي الجثمان، وقالوا يجب أن يخضع لإجراءات احترازية. وعلى الرغم من هذا لم يتم تسجيل أن سبب الوفاة هو الفيروس".
- كوثر
ويحكي الحج سعيد عن زوجته السيدة "كوثر" مسؤولة التمريض بوحدة الصور الإشعاعية، التي التقطت الإصابة قبل وصولها لسن المعاش بأسبوعين، وبدلاً من أن تستعد لحفل تكريم انتقلت إلى أنابيب التنفس الاصطناعي. جاءت الوفاة بعد أيامٍ من صدور قرار الإحالة للمعاش، ولهذا رفضت الإدارة الاعتراف بها كإصابة عمل! يقول الزوج: "لم ير هذا الموظف المتعنّت ومديريته كيف كان شكل يدي زوجتي بعد أربعين عاماً من المواظبة على تحميض أفلام الصور الإشعاعية. لم تتوقف حتى بعد انتشار الوباء وظلت تعمل حتى اللحظة الأخيرة. يجازيها خالقها".
- منار
أما "منار" فلا تحتاج إلى من يحدثها عن أي من تلك الملامح. فهي "ممرضة عاملة"، شقيقة "ممرضة شهيدة". تقول: "كنت وأمل نعمل في ظروف شديدة الصعوبة، وليست بما يخص كورونا وحدها. العمل في الطوارئ أمر شديد الخطورة والإرهاق، كثيراً ما تأتي الحالة ولا يوجد طبيب مقيم فنضطر للتدخل في محاولة للمساعدة، وهذا يعرضنا للعدوى وأحياناً للمساءلة". تكمل: "كانت أختي مثلي، ترتدي القفازات الواقية إن توافرت، أو تشتريها، ثم نعود إلى منازلنا بعد يوم عملٍ طويل ونفاجأ في صباح اليوم التالي بنتائج التحاليل، ونكتشف أن عدداً غير قليل ممن تعاملنا معهم ثبتت إصابتهم. هذا عملنا لكن ما يوجع هو ضياع حقوقنا أحياءً وأمواتاً".
محاولات الرصد والتصدي
قام العديد من الأطباء والنشطاء النقابيين بالحكي والرصد، سواء لواقع عملهم في مستشفيات الفرز والعزل، أوبخصوص التواصل المفتوح مع كافة أطياف الفرق الطبية وما تعيشه من بطولات ومعاناة. حكوا عن العمل لمدة تزيد عن 18 ساعة. عن ظروف تغذية وإقامة محدودتين للغاية. عن مخاوف الخروج والعودة للبيوت دون إجراءات حقيقية للتثبت من عدم الإصابة. وانتهت الحكايا بالتركيز على القضية التي تمس مشاعر وأمان الأحياء قبل أهالي الراحلين، وهي "حقوق شهداء الفرق الطبية" المعنوية والمادية.
صاحبت هذا انتقادات واسعة ودعاوى قضائية وتدخلات برلمانية للمطالبة بمساواة شهداء الفرق الطبية بشهداء الجيش والشرطة، وحصولهم على معاش استثنائي يليق بتوفير حياة لائقة لأسرهم. وارتكزت الدعاوى القضائية الحقوقية التي انضم إليها حتى الآن ما يقارب أسر 30 ممرضة، على قانون مصري ينص على حق كل مواطن في معاش استثنائي "لمن يؤدون خدمات جليلة للبلاد"، وهو ما تم تطبيقه في أحكام قضائية انحازت لشهداء "ثورة يناير" قبل عشرة أعوام.
هذا بينما يستمر نضال آخر داخل الأروقة الرمادية، وفوق الأسرّة التي أصبح من النادر أن تجدها شاغرة. نضال من داخل المستشفيات يشمل، دون صوتٍ عالٍ أو تنظيم، جميع الفئات، بدايةً من العاملين على تنوعهم، وصولاً للمرضى المطالبين بحقوقهم الكريمة في العلاج، وما ينتج أحياناً من تضارب بين كل تلك الحقوق التي لا خلاف على صحتها.
***
وفي وسط هذا المناخ المكتظ بتداخل الصور والأصوات، استيقظت مصر ذات صباح على صورة "آية"، الممرضة الشابة الصغيرة، تجلس صامتةً في ركنٍ قصيّ، يغطي وجهها العازل البلاستيكي بينما تنضح كل ذرة من جسمها بالدموع، وقد فقدت القدرة على مساعدة نفسها أو الآخرين بعد أن توقفت أنابيب الأكسجين داخل الرعاية المركزة بمستشفى قرية الحسينية وانتشر الموت.
هذا ما سيبقى، ويلفظ غيره، ويصبح شاهداً على نوعية خاصة من الشقاء تحظى به نوعية معينة من النساء، نتيجة اختيارهنَّ المهني الذي غالباً يبدأ ولا يتوقف حتى تنتهي الحياة.