هل عاد قطار الخصخصة إلى محطة مصر؟

بعد أيام من توليه رئاسة الحكومة المصرية، توجه رئيس الوزراء، إبراهيم محلب، في أولى زياراته الميدانية إلى عاصمة الصناعة والغضب في "مدينة المحلة"، وتحديداً إلى اعتصام عمال مصنع الغزل والنسيج الذي كانت من أولى مطالبه تجديد الآلات وضخ الأموال من أجل عودة التصنيع وتحسين أوضاع العمل. هناك، أثنى الرجل على حرص العمال المصريين على نجاح الشركات التي يعملون فيها وليس فقط على المطالبة بحقوقهم
2015-05-26

منى سليم

كاتبة وصحافية من مصر


شارك
هبة الخولي-مصر

بعد أيام من توليه رئاسة الحكومة المصرية، توجه رئيس الوزراء، إبراهيم محلب، في أولى زياراته الميدانية إلى عاصمة الصناعة والغضب في "مدينة المحلة"، وتحديداً إلى اعتصام عمال مصنع الغزل والنسيج الذي كانت من أولى مطالبه تجديد الآلات وضخ الأموال من أجل عودة التصنيع وتحسين أوضاع العمل. هناك، أثنى الرجل على حرص العمال المصريين على نجاح الشركات التي يعملون فيها وليس فقط على المطالبة بحقوقهم المادية. وعقب الثناء جاءت الوعود، فطالب محلب بمهلة ثلاثة أشهر يعود فيها كل عامل إلى آلته لأن موازنة الدولة لا تستوعب مزيد من الإنفاق وتحتاج إلى فترة حتى تتعافى ويتم مواجهة حالة العجز العام مما يسمح بضخ أموال بالصناعات العريقة، كالغزل والنسيج، التي تتميز بها مصر.
ومن هناك ايضا أغلظ الرجل القسم انه لا عودة الى سياسة الخصخصة، وأن "مصر الجديدة" تستهدف وقف عمليات بيع المنشآت الاستثمارية والصناعية وكافة الأصول المملوكة للدولة.

حكومة تتحدث عن نفسها

ثلاثة شهور مرّت، كانت حافلة بأحداث سياسية وأمنية كبرى لم تسمح للرأي العام بالانتباه من جديد الى أوضاع شركة المحلة الكبرى للغزل والنسيج وغيرها من شركات القطاع العام، إلى أن خرج أشرف سالمان وزير الاستثمار في أيلول / سبتمبر من العام نفسه ليعيد طرح القضية لكن من خلال صياغة مختلفة تعتمد على حالة "الشرطية" فقال "لا عودة لسياسة الخصخصة إلا بإصلاح هيكل القطاع العام أولاً"! وهو ما أعطى انطباعاً بأن الترويج لسياسة "الخصخصة" يعود من جديد لكن مع محاولة لتجميل وجه الماضي، فتقدم المشكلة على أنها ليست في سياسة كبدت مصر خسائر تصل الى 640 مليار جنيه ـ حسب تقديرات مركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية ـ وإنما في طريقة تنفيذها التي تسببت في عقد صفقات بيع فاسدة أهدرت المال العام وبخست ثمن الأصول و تسببت في تشريد العمال.
يعضد هذا الطرح حرص الدولة على إصدار قانون يمنع الطعن في عقود الاستثمار التي عقدتها الدولة، وهو ما جاء بدوره لقطع الطريق على دعاوى قضائية تطالب باسترداد شركات ومصانع تمت خصخصتها خلال السنوات العشر الماضية، وذلك استناداً الى النجاح الذي حققه عمال ثلاث شركات كبرى فى مجال النسيج في الحصول على حكم قضائي باستردادها.
الأحكام الصادرة لم يتم تنفيذها حتى الآن، فالحكومة ترى أن ما حدث لا يمكن تداركه فالمستثمر سيذهب بالعقود إلى المحاكم الدولية وهو ما يضعف موقف مصر في سوق الاستثمار العالمي، وبهذا القانون أغلقت الطريق أمام طرح المزيد.
الأمر لم يقتصر عند وقف تكوين أي موجة سياسية واجتماعية تحاول إصلاح أخطاء الماضي لكن ـ وفي ظل مناخ سياسي وإعلامي يروج للسلطة الحالية على أنها المنقذ الوحيد ـ تقلصت مساحة الرؤية المنادية بتفعيل دور الدولة في إعادة ضخ الحياة بالكيانات الصناعية الكبرى لصالح اتساع رقعة النهج القائم على سياسات السوق الحر ورفع يد الدولة عن الخدمات. ومع انطلاق التحضيرات الأولى لعقد المؤتمر الاقتصادي، تبين أن النصيب الأكبر من الاستثمارات المرجوة يتعلق بمجال الطاقة والبنية التحتية، ومعه أصبح السؤال المطروح بقوة هو كيف سيحصل هؤلاء المستثمرون في مجالات الطاقة، وبشكل خاص في بناء محطات الكهرباء، على عوائد أعمالهم، وهل الأمر سيتعلق بإعادة طرح سيناريو الشراكة مع القطاع الخاص في مجال تقديم الخدمات كالصرف الصحي وشبكات المياه والكهرباء، ورفع أسعار تقديم الخدمة مقابل رفع الكفاءة. لا توجد إجابات حكومية واضحة، خاصة مع عدم كشف العقود التي تم إبرامها للرأي العام، على الرغم من مرور ما يقارب الشهرين على انعقاد المؤتمر.
خرجت أصوات محذرة، منها "الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي والإحصاء والتشريع"، فأشارت إلى أن الاتجاهات الحديثة في خصخصة المرافق العامة يصعب تطبيقها في مصر في ظل عدم وجود قطاع خاص فاعل يأخذ شكلا مؤسسيا، ولا توجد غير بعض النماذج والمبادرات الفردية الناجحة.

الالتفاف

عقب مرور الثلاثة أشهر، أصدرت القيادات العمالية داخل مدينة المحلة بياناً أكد أنه لم يتم الالتزام بجميع الوعود، ولا تظهر في الأفق أي خطط لإعادة هيكلة المصنع وتوفير ماكينات حديثة لمضاعفة الإنتاج. وتكرر المشهد نفسه في صورة اعتصام نظمه عمال الحديد والصلب في مدينة حلوان الصناعية الشهيرة، واعتبرت القيادات العمالية هناك أن الحكومة غير جادة في إعادة هيكلة الشركة مساعدتها على رفع الإنتاجية، وأن وعوداً مثل توفير 50 مليون جنيه لشراء الفحم المطلوب لم تتحقق، وهو ما يعني التمهيد لإعلان إفلاس الشركة وطرحها للبيع.
ومن ساحات المصانع الى الفضاء الموجوع بآلام أصحابه: المستشفيات الجامعية حيث جاءت المواجهة هذه المرة أكثر حدة، فقد رفض مجلس نقابة الأطباء المصري مشروع القانون المقدم من وزارة التعليم العالي لتنظيم العمل داخل المستشفيات الجامعية، وأوضحت النقابة أسباب رفضها لمشروع القانون بأنه اشتمل على خطة تطوير تعتمد على تحويل هذه المستشفيات لوحدات اقتصادية مستقلة منفصلة عن الجامعة يكون هدافها "ربحي" لا "خدمي وتعليمي"، ووصفت المشروع الذي يتم طرحه في غياب سلطة البرلمان بـ"خصخصة المستشفيات".
بالتأكيد كانت هذه موجة المكاشفة الأعلى، ولذا خرج رئيس الوزراء في تصريحات سريعة تنفي ما يعتبره الوجدان العام "تهمة"، وأكد أنه لا تخلّي عن تقديم الخدمة للفقراء، وأنه لا نية لخصخصة مستشفيات تقدم الخدمة الدائمة لما لا يقل عن 16 مليون مصري سنوياً، لكن مشاركة القطاع الخاص أمر لا بد منه لرفع مستوى الخدمة.
واستمرت المعركة، فأوضحت النقابة أن مشروع القانون لا يشمل أي بند خاص عن الميزانية المخصصة من جانب الدولة لتطوير المستشفيات، وهو ما يعني الاعتماد بشكل كامل على القطاع الخاص في هذا الأمر مقابل رفع أسعار الخدمة. ومعه خرجت أصوات سياسية وحقوقية تطالب بعدم تحميل الـ16 مليون مصري مزيد من ضغوط الحياة. وانحازت حملات شعبية ضد سياسة الخصخصة لصف نقابة الأطباء، وحذرت حملة "حماية" المجتمع في بيان لها: "هذا هو ما حدث مع كل المنشآت العامة التي قالت الحكومة أنها ستبيع جزءاً منها للقطاع الخاص، وانتهى الأمر ببيع 100 في المئة منها للقطاع الخاص".
المشهد تكرر في مجال لا يقل خطورة عن الصحة وهو "الصناعات الغذائية" حيث هناك توجه واضح نحو الخصخصة على الرغم من إنكار الحكومة.
فقد أعلن وزير الاستثمار طرح زيادة رأسمال الشركة القابضة للصناعات الغذائية بالبورصة، واعتبره واحدا من أكبر الطروحات الحكومية في تاريخ البورصة المصري، إذ يصل حجمه إلى 3 مليار جنيه، وهو ما سيوفر مصدر تمويل رئيسي يسمح بإعادة هيكلة الشركة، مما يخفف الأعباء التمويلية على الحكومة.
وقد حذر الحقوقي والمرشح السابق لرئاسة الجمهورية خالد علي من خطورة هذه الخطوة واعتبرها تطور هام في ملف "الخصخصة" الذي لا تريد الدولة الإعلان عنه بشكل صريح، وأوضح: "في طرح واحد، يتم خصخصة 45 شركة تعمل بالقطاع الغذائي من أجل 3 مليار جنيه فقط، بما يفيد أن هذه الشركات ستتحول من مال مملوك للدولة (ملك الشعب) إلى مال خاص (ملك المضاربين بالبورصة)، وهذا معناه انتقال قطار الخصخصة لمرحلة جديدة. فبعد أن كان يتم خصخصة شركة تابعة، أصبحنا أمام خصخصة شركة قابضة تملك وتشرف على 45 شركة تابعة". وتساءل: "قبل أن تعودوا لسياسات الخصخصة القبيحة، اسألوا أنفسكم عن الفائدة التي عادت على المجتمع أو على الاقتصاد أو العمال أو المستهلك من كافة الشركات التي تم خصخصتها سابقاً؟".
إلى أين سينتهي التعريف الجديد للسياسات الاقتصادية في مصر؟ هذا ما ستكشفه الموازنة المالية للعام جديد التي ستصدر في منتصف العام الحالي.

 


وسوم: العدد 144

للكاتب نفسه

عيش.. حرية.. إلغاء الاتفاقية!

منى سليم 2024-03-29

هل يستقيم ألا تغيِّر الحرب على غزة موازين الأرض؟ أو لا يصير الى صياغة برنامج سياسي مصري ينطلق من إلغاء هذه معاهدة كامب ديفيد، وأن يكون ذلك ركيزة للتغيير الجذري...