الإغلاق هو سيد الموقف، ودونه مليونا فلسطيني من أهالي غزة رهن الحصار، لا تخفف من ذلك التحليلات السياسية أو الوعود، فالواقع الميداني يسرد مئات من الروايات والحكايا. ثلاث شهادات مختلفة فيها ما اتفقت عليه جميعها وما اختلفت في بعضه، وبها.
الشهادة الأولى لشاب حديث التخرج من إحدى الكليات العلمية بجامعة مصرية، حكى رحلته في القاهرة من 2009 إلى 2015، ست سنوات طويلة، شهدت تغيرات سياسية كبرى تركت أثرها على حياته وعلى حياة المنطقة العربية كاملة: "لم أمر بأي مشكلات في رحلة الوصول إلى القاهرة في 2009، والسبب أنني جئت من السعودية مقر إقامة أهلي في ذلك الوقت. في 2012، قرر أهلي الانتقال للعيش في غزة، وفي تموز/ يوليو 2013 كان موعد عقد قران أختي والسنة الدراسية الأخيرة لي. ورغم تحذيرات والدي الشديدة، قررت الحضور إلى غزة. بل هم طلبوا من الزوج نفسه عدم الحضور، ففرحة مراسم الزواج لا تضاهي ثمن البقاء داخل سجن غزة وعدم القدرة على العودة لمقر عمله في الإمارات، لكننا قررنا سوياً. تقابلنا ووصلنا إلى معبر رفح. كانت رحلة العودة من غزة هي الأصعب وكشفت لنا عن عالم آخر. كان هذا بعد شهر. سمعنا أن المعبر قد يفتح خلال أيام، فذهبنا كالآلاف غيرنا إلى مكتب توثيق "أبو خضرة" التابع لوزارة داخلية حكومة حماس، قمنا بتسجيل أسمائنا في كشوف وحصلنا على "رقم". لكن الأمر ليس بهذه البساطة ولا هذا هو الرقم الوحيد. فمن أجل حل الأزمة قيل لنا إنه لازم نحكي مع أحد من حماس، فخلال فترة انتظارك يتم الإعلان عن فتح التسجيل أكثر من مرة وإعادة تسجيل الأسماء لأسباب مختلفة، وبالنهاية قد تصل للمعبر ومعك خمسة أرقام جميعها غير أكيدة. الموقف أمام المعبر يخضع بنسبة كبيرة منه للعلاقات، والرشى أيضاً، التي تسمح لك بالانتقال من باص متأخر إلى آخر في المقدمة. الأولوية لمن ينتمي لحركة حماس، أسر قيادات ثم أفراد، والرشى موجودة من أجل دفع رقمك الى الأمام في سجل المسافرين، ويحصل عليها موظفون أو ضباط، وإلا فيمكن أن تخدمك العلاقات الشخصية".
أخذتنا الشهادة الأولى من التنسيق الحمساوي الى المصري، فحكى صاحبها أن للسجن بوابتين والأخيرة أصعب من الأولى، فيمكن لضابط الأمن المصري إرجاعك رغم اكتمال أوراقك دون إبداء أي سبب، وهو ما يدفع الكثيرين للالتجاء ـ حسب تعبيره ـ لـ "التنسيق" الذي يُدار وفقاً لما يقول عبر وسطاء فلسطينيين لهم مكاتب سفريات معروفة يقف وراءها تجار وموظفون كبار أو ضباط في غزة تربطهم علاقات بموظفين أو أمناء شرطة بالجانب المصري. وترتفع قيمة الرشى المالية المدفوعة حسب ارتفاع قدر الشخصية التي يتم التنسيق معها لتتراوح ما بين 1500 ـ 3000 دولار.
الشاب لم يركن لأي تنسيق وجازف. في الأيام الشحيحة التي فُتح فيها المعبر، كان يعلم وهو في باص رقم 7، أنه غالباً لن يتمكن من المرور في اليوم الأول. ولكنه مرّ في صباح اليوم الثاني، لكن لم يكن هذا ما حصل لزوج أخته الذي أضطر لدفع 3000 دولار عنه وعن زوجته، حيث لم يكن يفصله عن تاريخ انتهاء إقامته بالإمارات غير خمسة أيام. "المعبر بيزنس كبير تنتفع منه كل الأطراف بطريقتها الخاصة، ولا قواعد معلنة. وهو بزنس يزيد بازدياد فترات الإغلاق، فإذا كان المعبر مفتوحاً بانتظام فلا مجال للتنسيق، وقد رأيت ضابطاً مصرياً يقوم بإعادة رجل يحمل توأمين مريضتين".. هكذا أنهى شهادته.
استطاع صاحبنا السفر من القاهرة قبل 3 شهور بعد حصوله على فرصة عمل بدولة الإمارات. ورغم هذا رفض ذكر اسمه خوفاً من بطش قوات الأمن داخل قطاع غزة بأحد من أهله وكذلك لأن له شقيق لا زال يدرس بالقاهرة.
الشهادة الثانية لشاب فلسطيني طلب عدم نشر اسمه، وهو باحث يستعد لمناقشة رسالة الماجستير بإحدى الجامعات المصرية قريباً. فصول قصته مع المعبر بدأت في كانون الثاني/ يناير 2014 حين حاول العودة للقاهرة لاستكمال دراسته. "ذهبت وعدت من المعبر خمس مرات حتى تمكنت من المرور في "فتحة" كانون الأول/ ديسمبر 2014، ولم يحدث هذا إلا بعد خطوتين، الأولى علاقة قرابة مع أحد الموظفين في الجانب الفلسطيني سمحت لي بالانتقال من باص رقم 6 إلى باص رقم 2، الثانية التنسيق مع ضابط أمن مصري كبير عبر معارف شخصية في مصر. فور وصولي إلى الجانب الآخر، توجهت إلى موظف وذكرت اسمي فوجدته مسجلا في كشف خاص، وضعت حوله علامة. ثم نظر في أوراقي سريعا وسمح لي بالمرور.
الشهادة الثالثة كانت لترحيل لا لعبور، وصاحبها هو الإعلامي الفلسطيني الشاب محمود خميس شراب، مقدم برامج في قناة "تغيير جو" على موقع يوتيوب، وهو لم يمانع في نشر اسمه. قال: "ذهبت إلى القاهرة في 2012 للدراسة في جامعة الأزهر، وفي عطلة العام الدراسي الثاني قررت أن أذهب لأزور أقارب لي في الأردن لتخوفي من عدم القدرة على العودة إذا ما ذهبت إلى غزة. في رحلة العودة الى القاهرة تم القبض عليّ في ميناء نويبع، والزج بي في زنزانة بمبنى الأمن الوطني هناك. في تشرين الاول/ أكتوبر 2013، تم التحقيق معي في كل تفاصيل عيشي وسفري، واستُدعي جميع زملائي في السكن بالقاهرة، والتحقيق معنا في أسئلة عن انتماء لتنظيمات أو عن معرفتنا بأي شخص ينتمي إليها. تم هذا كله مع حبس وتعذيب وبهدلة، وبعد شهرين صدر قرار بترحيلنا جميعاً إلى غزة. لم أتمكن من العودة واستكمال دراستي، وبدأت أشق طريقاً آخر لمستقبلي العملي داخل غزة، لأنني يئست من العودة للقاهرة، لكن أعتقد أنه يحق لي السؤال عن سبب ترحيلي، هل هناك أسباب أمنية أم السبب أني فلسطيني؟ سيرد الجانب المصري بالتأكيد أن هناك أسبابا أمنية. فلماذا لم تتم إذاً محاكمتي على ما ارتكبتُ لو كان الأمر كذلك؟".
الشهادتان الاولى والثانية لا تأتيان خارج السياق. فعقب "الفتحة الأخيرة" للمعبر مع بداية هذا الشهر، التي جاءت بعد انتظار طويل دام 100 يوم وجاء الإغلاق سريعاً عقب 48 ساعة، خرجت الأصوات عالية على مواقع التواصل الاجتماعي تطالب بوقف هذه المعاناة، سواء عبر وسم يحمل عنوان #سلّموا_المعبر، والمقصود به أن تنتقل إدارة المعبر من حماس إلى فتح، لا ثقة بالأولى دون الثانية ــ كما جاء في تغريداتهم ــ ولكن رضوخاً للطلب المصري بذلك، أو عبر الوسم الثاني #افتحوا_المعبر، وهو يحمّل الجانب المصري مسؤولية الإغلاق ويطالبه بوقف معاناة قطاع غزة واتخاذ ما يراه من تدابير أمنية دون تحميل أهل غزة مغبة ذلك، أو التدخل بالسيادة الفلسطينية في التحكم في هوية الطرف المقابل له على المعبر. الكثير من بين عشرات آلاف التغريدات التي تم نشرها في الوسمين، كان حول "التنسيق". وفي تسجيل صوتي مسرَّب تم تعريفه بأنه مكالمات مسجلة بين شاب فلسطيني وعدد من الفلسطينيين ممن يقومون بدور الوسيط مع الجانب المصري، وقيل إن أحدهم ضابط بجهة أمنية فلسطينية نسمع: "باخد 3000 دولار لتمرير والدتك ومثلهم لك.. كثير؟ بنكلم الزلمة ونشوف، وما بتتعرض لمشاكل، يعني كيف الإجراءات؟ على البوابة بيزعقوا على إسمك في كشف التنسيقات، وعند المصريين بنتابع معك، بيختموا لك وبتطلع".
من ناحية أخرى، وَثقت عشرات الشهادات بالكلمة والصورة ما عاناه الفلسطينيون خلال إدارة السلطة الفلسطينية سابقاً لمعبر رفح، حيث حضرت الرشى هي الأخرى بقوة وبحسب معدلات الفتح والإغلاق، كما أظهرت صور تعرض فلسطينيين ينتظرون العبور للضرب والتنكيل على يد قوات الأمن الفلسطينية التابعة للقيادي محمد دحلان آنذاك.
مفارقة أخرى رصدتها شهادات، وهي السماح للشابين الأول والثاني بالمرور إلى مصر خلال الظروف الأمنية نفسها التي تمّ خلالها ترحيل الشاب صاحب الشهادة الثالثة، وهو ما يطرح تساؤلات حول طريقة طرح الشبهات من جانب الجهات الأمنية المصرية تجاه شخص دون آخر، وأسباب عدم تقديمه للمحاكمة إذا ثبت تورطه. فالترحيل موقف لم يتعرض له وحده ولكن مئات من الشباب الفلسطيني خلال العامين الماضيين على الأقل.
فساد وتعسف أمني على الجانبين، هما أهم ما كشفت عنه الشهادات الثلاث، وغيرها مما هو مسجل بالفضاء الإلكتروني. واتفقت جميعها على أن حركة انتقال وعبور طبيعية من المعبر واليه تضمن الحق الإنساني لأبناء غزة، وتضمن أيضاً تحقق الأمن للجانب المصري.
أيٌّ من تلك الشهادات، على الرغم من خطورة ما جاء فيها، تبقى فى خانة القرائن، فلا اتهامات رسمية، حيث الجهات الأمنية في الجانبين المصري والفلسطيني ترفض بالكامل كل ما جاء في تلك الشهادات، أي اتهامهم باستغلال حاجة الناس عبر نفوذهم.
حقائق ليس هناك سبيل قانوني واضح لتأكيدها أو دحضها رسمياً، ولذا اتجهت مراكز حقوقية فلسطينية لإطلاق حملة دولية تطالب بتسليم معبر رفح ـ من جانبه الفلسطيني ـ لجهة دولية إنسانية كالصليب الأحمر، تضمن فتحه بشكل شبه منتظِم، وهو ما يسمح أيضاً بوقف شبهات الفساد والاستغلال من الجانب المصري.