تتسم ماكينة الحكم التي شكلها السيسي في سنوات قليلة، بالقوة والسرعة والعنف، كما لم يتسنَّ لأحد من قبله. فمصر تشهد تحولات ضخمة على جميع المستويات، من خطاب السلطة وطبيعته ومحاوره، إلى الاقتصاد وإعادة تشكيله وهيكلته، إلى المجال السياسي والقضاء عليه، واعتماد استراتيجية جديدة للحكم، وإلى طبيعة ودور المؤسسة العسكرية وتسليحها، وانتهاءً بشكل الاجتماع وعلاقة الدولة به والحلفاء الاجتماعيين للنظام الحاكم. كما يتسم حكمه بسرعة الإيقاع الشديدة، الأمر الذي يتباهى به السيسي وأنصاره.
ملامح السلطوية الجديدة
تتشكل اليوم ملامح شبه "فاشية" في بعض نواحيها وأدائها، أو هي على الأقل سلطوية، أعمق بكثير من سلطوية مبارك. وطابع هذه السلطوية الجديدة هو الحزم وسرعة الإنجاز، ومركزها هو جهاز الدولة وتعظيم موارده وقيادة المجتمع مباشرةً من خلال الأجهزة الأمنية، بلا مشروع سياسي يدمج قطاعات واسعة من السكان معه، على غرار نهج عبد الناصر. والسيسي كذلك بلا أيديولوجيا سياسية، ولكن مقارنته بالسادات ومبارك، تخص تبني الآليات المناسبة، وتعميق التحول النيوليبرالي. فعلى الرغم من انحياز مبارك الى النهج النيوليبرالي، وتحديداً منذ نهايات التسعينات الفائتة، وهو ما ترسخ مع حكومة أحمد نظيف في 2003 - حيث صار من الممكن الحديث عن نخبة اقتصادية تابعة لجمال مبارك تقود هذا التحول - إلا أن مبارك لم يلتزم يوماً بشكل صارم وجاد بما يعرف بـ"التكيّف الهيكلي" (إعادة هيكلة الاقتصاد حسب وصفة صندوق النقد والبنك الدوليين)، والذي يقتضي تقليص الدعم على المواد الأساسية، وخفض الإنفاق الحكومي، وضبط عجز الموازنة والميزان التجاري، بما يضع مصر في مصاف الدول التي أعادت هيكلة اقتصادها بشكل يسمح بتعميق علاقتها بالسوق العالمي، ويجعلها مستحقةً للقروض الدولية. وحتى السادات الذي قاد بدايةً "الانفتاح الاقتصادي" والتحول إلى سياسات السوق المفتوح، لم يستطع العمل على تقليص حجم الموظفين في البيروقراطية المصرية، بل هي تضاعفت في عهده.
مصر: "بندول" دولة ما بعد الاستعمار
11-02-2021
وأما الملامح "شبه الفاشية" لنظام حكم السيسي، فتنبع من قلب "دولة يوليو" نفسها، ولكن هذه المرة قلبها الصافي بلا أيديولوجيا ذات ملامح وإجراءات تقدمية، ومنحازة للشرائح الأكثر حرماناً في المجتمع، وطامحة لتحقيق إنجازات لصالحها (الإصلاح الزراعي، تعميم التعليم والضمان الصحي المجانيين الخ)، وبلا نظام سياسي يسعى لإدماج حلفاء اجتماعيين في مشروع محدد، وبلا أعداء يتصارع النظام وحلفاؤه معهم، مثلما كان الحال مع عبد الناصر الذي خاض صراعاً اجتماعياً طويلاً ضد الإقطاع ورجال النظام الملكي. والأخطر أن تعظيم موارد الدولة عند السيسي مقترنٌ بالاستمرارية في النهج النيوليبرالي، والذي لا يرى أن ثمة عدالة ممكنة أو مطلوبة في إعادة توزيع الموارد والدخول، كما أنه لا يرى ضرورة لـ"تقليص الفوارق الطبقية" بين شرائح المجتمع، ولا ضرورة اجتماعية لضم قطاعات واسعة في مشروع اجتماعي كبير. كذلك فهذه النيوليبرالية غير مقترنة بانفتاح سياسي أو حريات اجتماعية أكبر، بل قَرَنَها السيسي بعنف شديد ضد المجتمع السياسي والمدني، وضيّق حتى على مؤسسات المجتمع التنموية والشبابية البعيدة عن المجالين السياسي والحقوقي، ودمّر أغلب الهوامش الإعلامية، وبعض الحريات الصحافية التي توسعت في أواخر عهد مبارك. وهي ملامح شبه فاشية باعتبار انعدام مساحة للتنازع مع النظام والدولة كمؤسسات، بما لا يسمح بأي كبح للنظام، أو الوقوف ضده في بعض المحطات والمساحات، مثلما كان الحال مع مؤسسة القضاء في العهود السابقة، والتي كانت تعمل ككابح للنظام والدولة حتى لا يتوحش القمع، ولتضع حدوداً للسلطة التنفيذية بشكل يحفظ مكتسبات الحداثة والتحديث الطويلة، التي شهدتها الدولة المصرية في نظم العلاقة بين الدولة والسكان. وأقصى ملمح نسمّيه شبه فاشي في نظام السيسي هو تقديس الدولة وخلطها بالشعب. فالشعب لا يصير شعباً إلا إذا تماهى بالكامل مع ميتافيزيقيا الدولة وقيادتها. والدولة هي كيان مجرد، وتجليها المادي هو مؤسساتها السيادية، والتي لا يمكن زعزعتها من خلال النقد. ولهذا تزامن عصر السيسي بأمرين لم يحدثا من قبل: التوحش الأمني والعنف الاقتصادي والاجتماعي ووطأتهم على طبقات مختلفة، شملت الطبقات الوسطى العليا. وعلى الرغم من هذا، فلا يمكن الحديث عن قوًى رأسمالية لها تمثيل واستقلال سياسي تنازع الدولة في المجال العام أو تسعى لخلقه في الأساس. فهذه القوى مضطرة للانصياع الكامل من أجل الولوج إلى السوق عبر بوابة الجيش والنظام الحاكم. والشرائح الأفقر ليس أمامها سبيل غير الانصياع، أو التعرض لبطش أمني واسع النطاق. والسيسي يرتكز في عنفه على الدولة، وليس على حلفاء اجتماعيين يستمد منهم شرعيةً معينة. فقد انتهى هذا الأمر بعد لحظة "التفويض" في تموز/ يوليو 2013
الاستحواذ على السلطة
سعى السيسي لاحتكار السلطة من خلال ركيزتين: الدولة والثروة. تحوّل السيسي فجأة، وبفضل ماكينة الإعلام والاستخبارات، وتكاتف أجهزة الدولة معه، إلى رمز للمخلّص. كما أنه نجح أيضاً في التمفصل مع رغبة قطاعات واسعة بإنهاء حالة الثورة والقضاء عليها وعلى السياسة بشكل عام كفعل جماعي للصراع على الموارد والسلطة. واستطاع السيسي أن يتموضع خارج الصراع السياسي والاجتماعي، فهو ليس فاعلاً سياسياً مثل بقية الأطراف، بل ممثل الدولة في حرب مقدسة للبقاء، ضد خصومها وخصوم المجتمع، وتحديداً جماعة الإخوان المسلمين.
هذه الصيغة منحت السيسي مقداراً من القوة والشعبية. فعبد الناصر نفسه لم يبدأ حكمه في 1954 بالشعبية الواسعة التي بدأ السيسي حكمه فيها منذ 2013. وهو استطاع أن يقود الدولة المصرية لإدارة حرب أهلية كبيرة، ولكن من خلال جهاز الدولة نفسه، الأمر الذي جعل معركته مع الإسلام السياسي ذات طبيعة مختلفة عن كل من سبقه. فهذه أولاً، هي المرة الأولى التي تقرر جماعة "الإخوان المسلمين" الدخول في مواجهة مفتوحة وواسعة مع النظام. وهناك ثانياً، انضمام أطياف مختلفة من الإسلام السياسي والسلفية الجهادية لجماعة الإخوان المسلمين، وانفجار الصراع المسلح بشكل دامٍ في سيناء. وهذه الحرب تختلف بالكلية عن صراع عبد الناصر مع الإخوان في 1954 ثم في 1965، أو عن حرب الدولة مع الإرهاب في الثمانينات والتسعينات الفائتة. وفي خلفية المشهد ثورة شعبية قامت في 2011، ودولة منهكة وبعض قطاعتها شبه مهزومة، وتسعى لاستعادة قوتها وهيمنتها مرةً أخرى على البلاد. بالإضافة إلي ذلك كله، فقد شهدت السنوات الثلاث الأولى من الثورة المصرية، وبالأخص منها سنة 2013، دخول مؤسسة القضاء والقضاة كفاعلين أساسيين في الصراع السياسي والاجتماعي في مصر، بشكل أيديولوجي ومؤسسي. ولم تشهد مصر في أي مرحلة من تاريخها تورّط القضاة بهذا الشكل وهذه الحدة في الصراع السياسي والاجتماعي.
يقترن تعظيم موارد الدولة عند السيسي بالاستمرار في النهج النيوليبرالي، الذي لا يرى أن ثمة عدالة ممكنة أو مطلوبة في إعادة توزيع الموارد والدخول، كما أنه لا يرى ضرورة لـ"تقليص الفوارق الطبقية" بين شرائح المجتمع، ولا ضرورة اجتماعية لضم قطاعات واسعة في مشروع اجتماعي كبير. كذلك فهذه النيوليبرالية غير مقترنة بانفتاح سياسي أو حريات اجتماعية أكبر.
كانت الظروف كلها مهيأةً للسيسي لكي يتلقف الدولة، ويخضعها لسيادته وهيمنته الكاملتين. وقد نجح في تعضيد سلطته عبر استراتيجية واضحة وخطاب جديد. كانت شوارع مصر كلها مليئةً بصوره كبطل شعبي ومنقذ لمصر. حتى قطع الحلوى، وقطع الملابس الداخلية للنساء، رُسمت عليها صورته. إضافةً إلى خطابه الدائم حول الدولة وخطورة انهيارها، نجح السيسي عبر أجهزة الدولة المختلفة في التلاعب بالمشاعر الوطنية في أقصى صورها البدائية والفجّة. فقد كانت بعض الجموع تنطلق في جميع شوارع مصر، وبمختلف المحافظات، معتديةً على أي مجموعة معترضة على سياسات السيسي، أو على أي فرد يعبّر عن رأيه السياسي والفكري في المقهى. لم تكن هذه المجموعات تابعةً لأحد أجهزة الأمن أو المباحث كما كان معتاداً في الماضي، بل كانت من جموع الشعب، وفي أغلب الوقت لا تربطها صلة ما بالأمن. وتمددت هذه الحالة شبه "الفاشية" داخل الأسر، وبالأخص ضد القطاعات الشابة المعارضة للحكم العسكري والديني في الوقت نفسه. عزز هذا الخطاب الوطني حالة الاستياء والشيطنة التي واجهتها جماعة الإخوان المسلمين، وتصويرهم الدائم على كونهم جماعةً "خارج النسيج الوطني" وضده، وتسعى لتفكيك "الوطنية المصرية الضاربة بجذورها عبر التاريخ". كانت ماكينة الإعلام الخاصة والمملوكة للدولة، تعمل بكل كد على شيطنة الإخوان، ونزع مصريّتهم ونزع إنسانيتهم أيضاً عبر خطاب "الخُرْفان". ونجح السيسي في اللعب على وتر شديد التناقض، فمن ناحية قدّم نفسه كمسلم متدين ومحافظ، ولكن أيضاً كحامٍ للمثقفين والتنويريين والمرأة والأقباط والأقليات المختلفة، من بطش التطرف الإسلامي.
ومع الوقت، نجح السيسي أكثر فأكثر على مستوى الاستحواذ السياسي. فقد قام بتصفية العديد من المناوئين له سواء في القضاء أو الجيش أو المخابرات العامة. وقد وصلت ذروة قوته وإثبات قدرته على التحكم في زمام الأمور مع حبسه لسامي عنان رئيس الأركان الأسبق، عندما تجرأ على منافسته وطرح نفسه كبديل لحكم مصر. ثم في سنة 2020 أصدر مجلس الشعب قانوناً يحرم العسكريين السابقين من الترشح في أي انتخابات بدون إذن المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وهو ما انعكس في نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة، حيث تقلص عدد النواب من ذوي الخلفيات العسكرية بشكل ملحوظ إلى ما لا يزيد عن 12 عضواً مقابل 71 عضواً في المجلس السابق. كما نجح في تعديل الدستور ليضمن بقاءه في السلطة مدى حياته. وقد أحكم قبضته على السلطة القضائية بعد التفاف القضاء الإداري عليه في قضية تيران وصنافير، فقام في 2017 بتعديل قانون السلطة القضائية ليحكم قبضته على تعيين القضاة. وشهدت سنة 2019 مظاهرات عدة بعد دعوة المقاول محمد علي لخروج الجماهير ضد السيسي وفساد المؤسسة العسكرية، نتج عنها مزيد من القمع حيث بلغ عدد المعتقلين ما يزيد عن أربعة آلاف معتقل. ولكن هذه الأحداث نفسها أكدت قدرته على إحكام قبضته على البلاد، بينما هو في خارج البلاد، وتصفيته لصراعات الأجنحة، سواء كانت داخل المؤسسات أو فيما بينها. ولكن المذهل في الأمر قدرته على اختبار البنية التحتية الجديدة للقمع، من حيث عناصرها المختلفة: القدرة على الاحتجاز والاعتقال بأعداد مهولة لم يسبق لمصر أن شهدت شبيهاً لها، فأكبر حملة اعتقالات وهي اعتقالات أيلول/ سبتمبر 1981 التي شنّها السادات، لم تتجاوز 1200 معتقل. ثانياً، القدرة على المراقبة والتفتيش والرصد الأمني والتتبع. ثالثاً، قدرته على نقل المعتقلين وحصرهم وتقديمهم للنيابة العامة. وقد نجحت الدولة في القيام بهذا كله في أيام معدودة.
تراجع سياسي أمام الثروة
ولكن هذا الرجل نفسه وجهاز حكمه، تراجع سياسياً في أكثر من قرار مهم في 2020 و2021. وتحديداً بخصوص قانون المصالحات ومخالفات البناء، وقانون التسجيل في الشهر العقاري الذي تراجع عنه منذ أيام قلائل من خلال تأجيل مناقشته في مجلس الشعب. ولفهم هذا التراجع، ربما ينبغي النظر قليلاً إلى طبيعة أو ملامح استراتيجيته للسيطرة على الحكم وتحديداً الجانب الذي يخص إدارة الموارد والثروة.
نجح السيسي على مستوى الاستحواذ السياسي. فقد قام بتصفية العديد من المناوئين له سواء في القضاء أو الجيش أو المخابرات العامة، وأحكم قبضته على السلطة القضائية، وصفى صراعات الأجنحة، سواء داخل المؤسسات أو فيما بينها، واختبر البنية التحتية الجديدة للقمع: القدرة على الاحتجاز والاعتقال بأعداد مهولة.
الافتراض الأولي الذي يمكن إثباته بطرق مختلفة ورصد محطاته، هو أن السيسي يسعى منذ صعوده إلى الحكم في 2013 إلى تعظيم قوة الدولة ومواردها المباشرة. الشق الأول لهذه العملية تطلب الاستحواذ على جهاز الدولة وتوحيده، وهو ما تحقق إلى حد كبير. والثاني هو الاستحواذ على الثروة. والاستحواذ على الثروة يتطلب حصرها وحسرها والمعرفة الدقيقة بأبعادها، ومن يمتلك ماذا؟ وأين؟ وقد يبدو للوهلة الأولى أن هذا الأمر محسوم بالنسبة لمن يعتلي الحكم وفي إمرته ويده هذه المؤسسات الأمنية الضخمة والعريقة والعنيفة. ولكن، في حقيقة الأمر، فمصر أكثر تعقيداً في هذا المجال. فالاقتصاد غير الرسمي هو سمة رئيسية للاقتصاد المصري، ونسبته تعادل 30 إلى 40 في المئة من مجمل حركة الاقتصاد. وبالتالي، فرصد حركة الأموال وحجمها، وحجم الثروة التي تنتج عنها، والسيولة المتحققة في يد المصريين، أمرٌ بالغ الصعوبة. ثانياً، تظل الأرض أهم مصدر للثروة في مصر، سواء كانت زراعية أم عقارية، وسواء كانت في الصحراء أم أرضاً خصبةً في الوادي. والأرض هي مصدر الثروة لعدة أسباب، فالزراعة ما زالت شديدة الأهمية والحساسية، وكذلك هو سوق العقارات بما فيه التوسع العمراني في الصحراء من خلال ما يعرف بالمدن الجديدة أو في قلب المدن الكبيرة. ثالثاً، يتم تدوير الأموال غير المشروعة (تجارة الآثار، فوائض رأس المال، تجارة المخدرات، الجنس) والأموال المشروعة، من خلال الأرض أو في سوق العقارات، وهذا الأخير هو مخزن لفوائض القيمة والمجال الأكثر أمناً في تخزين الثروة وعوائدها وقيمتها. رابعاً، شبكة الفساد المرتبطة بالدولة وأجهزتها الأمنية والرقابية وامتداداتها في المجتمع، والتي لا بد لها من تدوير نفسها وغسل أموالها من خلال الأرض والعقارات حتى تصير شرعيةً، فيمكنها التعبير عن نفسها في مظاهر البذخ ورغد العيش.
يمكن رصد عدة محاولات للسيسي، ليس من الممكن تأويلها سوى بأنها تهدف الى حصر ورصد الثروة في مصر.
وأكبر عملية غسيل أموال حدثت في مصر كانت تخص أسهم وسندات قناة السويس الجديدة. فمن خلال هذا الأمر، نجح السيسي في الاستحواذ على حجم كبير من السيولة المالية، كما أنه ببساطة تأكد من وجود ثروات ضخمة مخزّنة. وأي رجل مخابرات أو رأسمالي أو مضارب أو شخص له باع في السوق المصرية، يعلم بشكل مؤكد أن هناك ثروات مالية ضخمة غير موثّقة، وتتحرك في "أكياس نايلون سوداء" كما يقولون. وكانت استراتيجية مبارك تعتمد على جعل هذه الأموال تتحرك بسهولة وحرية كبيرة نسبياً، لأن حركتها تعني تساقط الثمار على قطاعات أوسع، ما يضمن شبكات زبائنية أكبر وأوسع له. ولكن هذه الاستراتيجية كانت مناقضة عكسياً لمنطق واحتياجات السيسي ولحظته التاريخية. فهذه الأموال يجب أن تُرصد، تُدفع عليها ضرائب، وتعرف الدولة حدودها ونطاق حركتها، لأسباب اقتصادية وأمنية. في هذه الحالة، فإن التضييق على حركة الأموال يضمن مزيداً من التوغل والحصار الأمني، والقوة الأمنية تعني المزيد من القدرة على الوصول إلى هذه الثروات وحركتها. وبالفعل نجح الاختبار الأول في تدوير هذه الأموال، المخزنة والسائلة في الوقت نفسه.
وضمن هذا التوجه نفسه، فلدى السيسي مشروع طموح جداً لحصر الثروة والسيولة المالية المنتجة بفضل الاقتصاد الغير رسمي، وهو "مشروع الشمول المالي". وهو ببساطة حصر مالي واسع النطاق للسيولة المالية، مصحوباً بتضييق بنكي وإداري في التعامل بالمال السائل. يحاول السيسي الحد من التعامل النقدي في السوق حتى يتمكن أولاً من رصد وحصر الأموال، ثم النظر في كيفية التعامل معها. والإعلانات الحكومية والخاصة بهذا الأمر لا تتوقف منذ ثلاث سنوات. ولا يمكن لحد الآن تقييم نجاح أو فشل هذا الطموح. ولكن المؤكد هو أن له مشروعاً وأدوات وآليات. كذلك فالأمر مصحوب بتضييق بنكي كبير على الحوالات الخارجية، وضرورة معرفة أسبابها وطبيعة العلاقة بين أطرافها. وهذا الأمر له شقّان، الأول أمني محض، وهدفه هو حصار الأموال المستخدمة في الإرهاب أو تمويلات المجتمع المدني أو تمويلات الأفراد. وسنجده يظهر في قانون الإرهاب نفسه. ويمزج السيسي القانون، بالسياسات المالية والاقتصادية، بالأمن، لتحقيق أهدافه وتسخير جهاز الدولة ومؤسساتها المختلفة لحصار أي ظاهرة بشكل كفؤ.
وفي هذه الفترة الزمنية نفسها، فرضت الدولة ضرائب عالية على الاستهلاك، تمثلت بشكل كبير في ضريبة القيمة المضافة. وهو نهج تتخذه السلطة منذ 1965 كلما عجزت عن حصر الثروات الحقيقية والولوج إليها. وهذه الضريبة هي "ضرب في العام والواسع" كما يقولون، حينما لا تستطيع السلطات القيام بضربات موجهة ودقيقة. ولكن مشكلة هكذا ضرائب أنها قد تساعد في ضبط الموازنة العامة بنسبة ما، ولكنها لا تستطيع الوصول إلى الثروات المخزنة، وكذلك فضررها لا يقع إلا على الطبقة الوسطى والشرائح الفقيرة في مصر.
و"عين" السيسي منذ البداية على الأرض. والجيش، طبقاً للقانون، يحق له كل ما في الصحراء إذا رأى ضرورةً عسكرية أو أمنية في الاستحواذ عليها. ولكن الأمر مع السيسي يتعدّى الصحراء، ويتمحور على الأرض بشكل عام، التي مثلما هي مصدر للثروة، فهي مصدر للتنازع الدائم بين مؤسسات الدولة المصرية ذاتها. ففي أوقات كثيرة تصبح قطعة أرض شاسعة محل نزاع بين عدد من الأطراف، كوزارة الدفاع، ووزارة الأوقاف، ووزارة الإصلاح الزراعي، ووزارة الزراعة.. وربما توجد أطراف أخرى! ومع هذه المؤسسات، وبالأخص في المناطق الصحراوية أو الساحلية، تظهر الملامح التاريخية لأرض القبائل والعائلات الممتدة تاريخياً. ويمكن أن نأخذ مثالين شديدي الأهمية على إدارة الأرض في عهد السيسي، وهما أرض العاصمة الإدارية الجديدة، والعاصمة الصيفية في مدينة العلمين. فالأرضان تم تخصيصهما بقرار جمهوري. ولكن الأهم في تفاصيل القرار، هو تخصيص المساحات، ونزع استحقاقات مؤسسات معينة ومنحها لأخرى. فإذا كان جزءٌ من الأرض تابع للإصلاح الزراعي، يقوم السيسي بتخصيصه لصالح الهيئة الهندسية في الجيش، وهكذا. وتفاصيل القرارين شهدت أموراً مماثلة. إذ استخدم السيسي ما يمنحه له منصبه من قوة قانونية وسياسية لتخصيص الأراضي وحسم ملكياتها والنزاع حولها. كذلك فتح الباب أمام الشركات الخاصة المختلفة للاستثمار في المشروعين، ما يعني مزيداً من تدوير الثروة وحصرها. وبغض النظر عن مدى نجاح أو تعثر العلمين والعاصمة الإدارية، إلا أن الفكرة نفسها قد نجحت في التطبيق. أما الجدوى، والقدرة على الاستمرارية، ونجاح تنفيذ المشروعين، فهي مرتهنة بعناصر أخرى متعددة..
ثاني توجه نحو الأرض، وهو مرتبط شرطاً بكل من الثروة والأمن، يخص ما يُعرف بالعشوائيات. فأراضي العشوائيات ذات قيمة عالية جداً داخل المدن وتحديداً القاهرة. والسيسي يمضي قدماً في مشروع طموح للقضاء على العشوائيات والاستفادة من هذه الأراضي، وقام بإنشاء حي الأسمارات وبشائر الخير1 و2، والفكرة المركزية هي نقل السكان والاستفادة من الأرض استثمارياً. ولكن بجانب الاستفادة المالية، فهو من خلال هذه الممارسة يستطيع تنظيم المدينة بشكل جديد، وحصر سكانها، ومناطق معيشتهم وعملهم، وحصرهم داخل هذه المناطق من خلال بوابات مسيجة، والقضاء على السيولة التي تتسبب بها العشوائيات داخل المدن وتحديداً القاهرة. إذاً مرةً أخرى، فالأمر هو حصر للثروة والسكان. وإلى الآن يبدو أن استراتيجية السيسي ناجحةٌ، على الرغم من بعض المقاومة الأهلية، والاشتباكات العنيفة أحياناً مع الداخلية. فهو قادر على محو العديد من العشوائيات، ونقل سكانها إلى مدنه الجديدة. ونحن هنا لا نناقش الأمر من الناحية السياسية والاجتماعية، وتداعياته على المدن والمجتمع، وإنما فقط من زاوية أهداف السيسي.
ثم جاء التصادم الكبير في "قانون المصالحات ومخالفات البناء" في 2020. ولكن قبل هذا التاريخ بثلاث سنوات، في أيار/ مايو 2017 وفي محافظة قنا، حذّر السيسي بلهجة شديدة الحدة والعصبية من وضع اليد على الأراضي، وضرورة تقنين الأمور، وأن هذه الأراضي ملك مصر. ثم بعدها فرض السيسي على أراضي منطقة برج العرب في الإسكندرية ضرورة تقنين أوضاعهم ودفع قيمة الأرض للحصول على الخدمات، وترك المباني للدولة. وهو ما تسبب في حالة هلع كبيرة في المنطقة، ولكن وحتى الآن، فقد نجح الأمر إلى حد بعيد.
كل ما سبق أعطى للسيسي الشعور بالقوة والقدرة على تحقيق هذا الطموح. ولكن في 2020، وحينما فرض قانون المصالحات ومنع البناء في عموم مصر، باستثناء المشاريع المقررة من قبله، تصادم الأمر مع عموم الجمهورية. وبعد أن قام السيسي بالتهديد والوعيد العلني، تراجع عن محتوى قراره، ورضخ لنوع من التقسيط والتريّث في فرض مخالفات باهظة، وتقليل تكلفة التصالح، والأهم، التراجع عن الهدم. ومن المهم النظر إلى أن السيسي قد هدد علناً عناصر هذه المنظومة المتمثلة في المحافظين ومدراء الأمن، وطالبهم بالاستقالة في حالة عجزهم عن تنفيذ القانون. البناء المخالف هو أمر مشترك بين القطاعات الأشد فقراً والقطاعات شديدة الثراء، وهو تواطؤ من رجال الدولة وفساد، وهو غضُّ طرف أقرب لأمن قومي حتى يستطيع السكان إيجاد أشكال من الحياة حتى ولو رثّة للغاية. ولكن السيسي قرر أن يضرب هذا المعقل شديد الحساسية.
الاستحواذ على الثروة، يتطلب حصرها والمعرفة الدقيقة بأبعادها، ومن يمتلك ماذا؟ وأين؟ وقد يبدو للوهلة الأولى أن هذا الأمر محسوم بالنسبة لمن يعتلي الحكم وفي إمرته هذه المؤسسات الأمنية الضخمة والعريقة والعنيفة. ولكن، في حقيقة الأمر، فمصر أكثر تعقيداً في هذا المجال، وقد اضطر السيسي الى التراجع عن قرارات تخصه: قانون المصالحات ومخالفات البناء، وقانون التسجيل في الشهر العقاري.
والأمر محير، فهناك أمتار في بعض المحافظات الفقيرة أو المتوسطة يصل فيها سعر المتر الواحد لما يزيد عن 40 جنيهاً للسكني وليس التجاري فقط. وببساطة يمكن استنتاج أنه محض مضاربة وغسيل أموال، وبالأخص من قبل قطاعي الآثار والمخدرات. ولكن الوجه المقابل لهذا الثروات هو فقر مدقع أو حد الكفاف. ولم ينجح السيسي في حل هذه المعضلة، والضرب بيد من حديد لتحقيق أهدافه. وفي الخط والتوجه نفسيهما، جاءت محاولته الأخيرة لفرض قانون التسجيل في الشهر العقاري. وهو أمر بالغ الأهمية في مصر. فعدد العقارات المسجلة لا يتجاوز5 في المئة طبقاً لوزير العدل. والعقارات هي محل نزاع وصراع دائمين تختلط فيها البلطجة بالنفوذ بفساد المؤسسات بالقمع والتهميش الاجتماعي... وربما تكون هي والمخدرات الخفيفة (القبض على شخص معه سيجارتي حشيش) أكثر عناصر النزاع التي تشغل المحاكم في مصر، باستثناء محاكم الأسرة. ولم يتمكن السيسي من تمرير هذا القرار، وتراجع عنه بالكلية، وليس فقط عن بعض جوانبه مثلما كانت الحالة مع قانون التصالح. ذلك أن تكلفته المالية شديدة، وفي منتهى القسوة على الحالة الاجتماعية والمالية لعموم السكان. وهناك ثانياً، صعوبة إثبات الحق في العين وهي إحدى أكبر المعضلات في مصر، التي تسببت في نمو ظاهرة ما يعرف بوضع اليد. ولكن الأخطر هو أن هذا الموضوع سيعرّض شبكات الفساد في المجتمع أو الدولة لكشف عوارها الكبير، حيث سيتم فرض ضرائب كبيرة وحصر جاد للثروات.
يتناغم كل ما سبق مع توجهات صندوق النقد والبنك الدوليين. وهناك علاقة متداخلة في هذا الأمر. فبعض السياسات التي ينتهجها السيسي قد يكون منبعها تعليمات صندوق النقد لكي يتحصّل على قروض ومنح، ولكن في الوقت نفسه، فالسياسات منبعها أيضاً ضرورات ملحة للاستحواذ على الموارد وتحسين وضع مصر الدولي وتعظيم قوة ماكينة الدولة ذاتها.
تفحص لبعض ملامح "يناير 2011"
22-01-2021
إذا نظرنا إلى محاولة السيسي لحصر الثروة والولوج إليها من منطلق تحديثي - سواء بتوجه يساري أو ليبرالي - مطلوب على عدة مستويات، منها ضبط النزاعات وعمليات التقاضي وتحسين البعد الاقتصادي ومعرفة حركة الأموال والقدرة على تحديد الفقراء والأثرياء وتعضيد جهاز الدولة ورفع كفاءته. وكذلك من الناحية الأمنية، فالأمر سيكون له العديد من "الإيجابيات"، سواء لصالح القمع والسلطوية بشكل أكفأ، أو لصالح الضبط الأمني بصيغه الديمقراطية والداعمة للحرية، سواء منها السياسية أو حرية الحركة والبضائع والأموال والضرائب. ولكن هذا الأمر كله هو مواجهة مفتوحة مع كل من الفساد وشبكات السلطة داخل المجتمع أو الدولة، وكذلك مع الطبقات الفقيرة والمهمشة. هناك إجماع بين طرفي النقيض لمقاومة هكذا مشروع طموح. والسؤال هنا هل يحمل السيسي شرعيةً وقوة كافيتين، ومنطقاً سياسياً واجتماعياً لهكذا مواجهة عنيفة وشرسة؟