"إنتاج وفير قادم في الطريق ليغير وجه الحياة في مصر".. هي الجملة الأثيرة لدى كل حكومة مصرية عند زف بشرى (حقيقية أو مصطنعة) لمشروع ما، يحاول الحاكم ورجاله من خلاله أن يحجزوا لأنفسهم مكاناً في كتب التاريخ أو مكانة معنوية تقيهم الغضب الشعبي المكتوم، الذي يختمر دوماً ثم ينفجر من دون إنذار وبلحظة غير متوقعة. البشرى الأخيرة تلت إعلان شركة إيني الايطالية عن حقل ضخم للغاز الطبيعي بالمياه الإقليمية المصرية في البحر المتوسط (شرق بورسعيد)، كأحد أهم الاستكشافات فى مجال الغاز في السنوات الأخيرة، باعتباره قادراً على إحداث تغيير شامل في ملف الطاقة المصرية والتخلص من الشبح الدائم لعجز الإنتاج فى مواجهة الاستهلاك، والاطمئنان على مستقبل الاحتياطات.
إلا ان تاريخ ملف الطاقة في مصر يأبى أن يمر هذا الفرح من دون ان يلاحقه شبح عشرات الانتكاسات السابقة التي كانت محركاً رئيسياً ضد نظام مبارك في "يناير 2011". وها هو أحد أهم كبار رجال قطاع البترول طوال السنوات العشر الماضية، والمهندس المسؤول عن تحرير تعاقدات تصدير الغاز الطبيعي المصري إلى الكيان الصهيوني، شريف اسماعيل، رئيساً لوزراء مصر بناء على اختيار من رئيس الجمهورية الذي كان رئيس المخابرات الحربية الأخير بعهد مبارك المخلوع.
فهل نحن بصدد اكتشاف جديد حقاً، أم هو قديم يتم الإعلان عنه الآن بعد تأخر استثماره طوال سنوات عجاف؟ هل هناك ارتباط مباشر بين تعجيل توقيع اتفاقية التنقيب بين الحكومة المصرية و "إيني" الايطالية، بشروط لمصلحة الأخيرة، والإعلان عن الاكتشاف بعد أقل من شهر على ذلك؟ إلى أي مدى تتسم بنود اتفاقية تقسيم الإنتاج بالعدالة بين الطرفين؟
هذه هي الأسئلة التي يسكنها التوجس، وقد جاءت على ألسنة خبراء في هذا المجال ـ قبل غيرهم ـ في محاولة للحصول على فرح نقي من دون شوائب.
البحث عن.. ليل وشروق
البداية من اسم ومكان الحقل المعلن عنه ("شروق")، شمال بور فؤاد. فوفق ما أعلنت عنه السلطات المصرية، هذا الحقل هو اكتشاف جديد لشركة إيني عقب توقيعها خمسة عقود جديدة مع الحكومة المصرية اول حزيران /يونيو الماضي، باستثمارات بلغت 2 مليار دولار.
على نقيض تلك الصورة جاءت المعلومات التي وثقها الخبير البترولي نائل الشافعي في فيديو تم بثه قبل أيام عبر موقع يوتيوب، فأثبت بالتواريخ الرسمية كيف بدأ الحفر بتلك المنطقة عام 2000 بناء على اتفاقية تنمية واستكشاف تم توقيعها مع شركة "شل الدولية".. التي سرعان ما أعلنت عن اكتشاف حقل مبشِّر جداً باسم "ليل" عام 2001 و "شروق" عام 2003، ثم عادت لتنفي وتقول إن الاستكشاف لم يأتِ ثماره. يسرد الشافعي كيف خرجت جريدة الأهرام بتاريخ 18 شباط/ فبراير 2004 تحتفي بالاكتشاف الجديد وبشركة شل، وتعلن أن مصر ستكون من أكبر منتجي الغاز خلال ثلاث سنوات، وتداولت الخبر الدوريات المتخصصة مؤكدة على مستقبل الغاز الطبيعي في منطقة البحر المتوسط ..ثم لم يحدث أي تقدم على الأرض!
وهكذا ـ وفق الشافعي ـ مرت عشر سنوات ضاعت فيها فرصة استفادة مصر من خيراتها، ليتم اليوم الإعلان عن الأمر كأنه كشف جديد. وهو لا يجد تفسيراً لهذه الخسارة إلاّ باتهام الشركات العالمية بالتلاعب بالمعلومات التي لديها وبيعها في السوق السوداء للطاقة. وعاد الرجل في كلمته إلى مذكرات وزير البترول القبرصي الأسبق نيكوس تريدولاس التي حكى فيها كيف تواصلت معه شركة "شل" منذ 2001، ودعته للاستعداد لخير كبير قادم من البحر المتوسط، وأوصته بالسعي لإعادة ترسيم الحدود المائية، وهو ما حدث بالفعل عام 2004. وقد وصف الوزير القبرصي نتائج هذه الاتفاقية بأنها فاقت توقعاته، حيث نجح في الحصول على النقاط البحرية الثماني التي طمح للسيطرة عليها، ولم يتوقع موافقة الجانب المصري عليها كاملة.
الشافعي ـ صاحب الحملة العالمية لإعادة ترسيم الحدود المائية بين مصر وقبرص وإسرائيل ـ تحدث في كلمته المصورة عن تلقيه اتصالاً من رئيس الدائرة القانونية في وزارة الخارجية المصرية عام 2004 يحدثه عن صدور أوامر عليا لوزارته بالذهاب الى مفاوضات "رسم الحدود" وتقديم التسهيلات المطلوبة. وهو ما سمح ـ وفق الحملة المناهضة ـ بالتنازل عن حقول مصرية لتذهب مباشرة إلى إسرائيل، سواء بالملكية كما فى حقل "ليفاثان"، او بالإدارة لمصلحة قبرص كما هو الحال بحقل "أفروديت".
البحث عن "حصة" شعب
لا تزال الغصة تسيطر على الكثيرين مع الإعلان عن أي اتفاقية جديدة للتنقيب، خاصة مع غياب مجلس النواب، وكذلك مع عودة الاحتفاء بشركة بريتش بتريليوم، سواء خلال فترة حكم محمد مرسي أو خلال الحكم الحالي لعبد الفتاح السيسي، حيث تم الإعلان عن مزيد من الاستثمارات مع الشركة نفسها خلال مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادي. فالمتابع للتاريخ القريب يدرك كيف أجازت الحكومات المصرية المتتالية تعديل اتفاقات الاستكشاف والتنقيب مع شركات البترول، مما سمح بتضخيم حصتها من الغاز الطبيعي. ففي حين كان نموذج الاتفاق المعتمد من الدولة في الثمانينيات يحدد نسبة لا تزيد عن 40 في المئة من إنتاج حقول الغاز حتى استرداد مصاريف الاستكشاف، وصل الأمر في 2010 وخلال اتفاقية تم توقيعها بين حكومة احمد نظيف وشركة بريتيش بتريليوم (BP)، إلى حصول الطرف الأخير على كامل إنتاج الغاز من دون مدى زمني، من حقول تتم تنميتها في غرب الدلتا المصرية، لتكون بذلك الاتفاقية ذات السمعة الأكثر سوءاً في ملف الطاقة المصرية.
في تقرير لها، قالت مجلة Natural Gaz المتخصصة، ان الاتفاق الجديد بين إيني والحكومة المصرية، سيسهم بشكل كبير فى ضخ روح جديدة وقوية في الاقتصاد الايطالي، باعتبار أن الحكومة الايطالية صاحبة السهم الذهبي في الشركة (بواقع 30 في المئة). وأضافت المجلة أن هذا الاكتشاف الجديد سيسمح لمصر بالاطمئنان على توفر حاجاتها الاستهلاكية في العقود القادمة من دون قلق.
وحول بنود الاتفاقية، قال التقرير: الصفقة تنص على أن يحصل المستثمر الأجنبي على مكافآت توقيع غير قابلة للاسترداد بقيمة 10 ملايين دولار، بالإضافة إلى مكافآت مصاريف الاسترداد بقيمة 50 مليون دولار لمدة 5 سنوات. وأن الطرفين اتفقا على استخدام كل المكافآت للحد من مستحقات إيني في الهيئة العامة للبترول، حيث أن لهذه الشركة كغيرها من شركات البترول العالمية العاملة في مصر، مديونيات مستحقة لدى الجانب المصري بسبب استحواذه ("شراؤه") على جزء كبير من نصيب الشركات الأجنبية لسد العجز بالاستهلاك المحلي من دون سداد المقابل المالي دورياً.
من جانبه، اكتفى الطرف المصري بالإعلان عبر تصريحات شفهية على لسان المتحدث الرسمي باسم وزارة البترول، أن حصة مصر من إنتاج الحقل الجديد هى 65 في المئة، حتى الانتهاء من استرداد مصاريف الاستكشاف، يتم بعدها التقسيم بواقع 70 في المئة للجانب المصري و30 في المئة للشريك الأجنبي. هذا ومن المعروف أن تعديلات رئيسية أدخلت على اتفاقات استخراج الغاز الطبيعي في عامي 1994 و2000 سمحت للدولة بالحصول على حصة الشريك الأجنبي من الغاز الطبيعي المستخرج، وذلك للاستهلاك المحلي، مقابل 2.6 دولار ـ بحد أقصى ـ لكل مليون وحدة حرارية، بينما تشير التكهنات او التوقعات المتداولة حول الاتفاقية غير المعلنة مع شركة إيني إلى أنها حددت السعر بـ 5.8 دولارات!
وفق تقديرات محلية ودولية، فإن الكشف الجديد سيسمح بزيادة الإنتاج اليومي من الغاز الطبيعي إلى 11 مليون متر مكعب يومياً، وينتقل برصيد الاحتياطات المصرية إلى 650 تريليون متر مكعب، وهو ما يعني ـ وفق مؤسسة بلومبرغ الاقتصادية ـ تأمين احتياجات السوق المصري من الاستهلاك لعقد كامل من دون المساس بالاحتياطيات.
وهكذا يبقى الشعب المصري في الانتظار.. وتبقى تلك المخاوف جميعاً رهن الاختبار.