رسائل السجناء: مصر التي في الزنزانة

"الرسائل"، هذا الاختراع البشري الرحيم الذي يشعرك بأنك لست وحدك، كثيرا ما تحمل سمات خاصة تجعلها "جنساً من الأدب" و "ضرباً من التأريخ"، يكتبها العشاق والمهاجرون.. وتبقى أكثرها حلماً وغضباً وتوقاً للحرية تلك التي يكتبها السجناء. في مصر، على مدار عام كامل، ومع التزايد المحموم في عدد الشباب المقبوض عليهم على خلفية قضايا سياسية تتعلق بحرية التعبير والتظاهر، تحولت
2015-04-16

منى سليم

كاتبة وصحافية من مصر


شارك

"الرسائل"، هذا الاختراع البشري الرحيم الذي يشعرك بأنك لست وحدك، كثيرا ما تحمل سمات خاصة تجعلها "جنساً من الأدب" و "ضرباً من التأريخ"، يكتبها العشاق والمهاجرون.. وتبقى أكثرها حلماً وغضباً وتوقاً للحرية تلك التي يكتبها السجناء.
في مصر، على مدار عام كامل، ومع التزايد المحموم في عدد الشباب المقبوض عليهم على خلفية قضايا سياسية تتعلق بحرية التعبير والتظاهر، تحولت تلك الرسائل من داخل الحبس الى ظاهرة تستحق التوقف للقراءة والتحليل على أكثر من مستوى، وقد تفتح باباً للمحاسبة يوما ما.
 

زنزانة جرائم النفس.. تتسع للجميع

"ممدوح جمال" شابّ لم يكمل بعد عامه العشرين لكن ما عاشه هو ورفاقه خارج الزنزانة وداخلها بيوميات ثورتهم التي أكملت عامها الرابع أضاف لشخصياتهم أبعاداً أخرى. من داخل ضيق مساحة الزنزانة ورحابة الوقت داخلها، كتب ممدوح ـ أحد المعتقلين بتهمة التظاهر دون ترخيص ـ رسالته الأولى بعد أسابيع من اعتقاله قال فيها: "تظاهرت ضد محاكمة المدنيين عسكرياً فانتهى بي الأمر للحبس داخل عنبر جرائم النفس!
القصة ليست فقط قانونا جائرا ولكن كل التفاصيل تقول انهم يريدون كسرنا، من أول تفريقي أنا وزملائي بعضنا عن بعض، جرى تقصد زجنا مع المتهمين فى قضايا إجرام كبيرة.. نعم أشعر بالبرد والخوف، لكني تأكدت أنهم يخافون منا أكثر وأوسع، إنهم يخافون حلمنا الذي يرفض أن يموت". مر شهران لتأتي الرسالة الثانية تعكس التطور في وجدان وإدراك الشاب الصغير. حديث ظهر به هبوب رياح الاعتياد الرحيمة، صلة إنسانية ما تتوطد بينه وبين السجناء الجنائيين حيث يتساوون جميعاً عندما يقع عليهم ظلام السجن وظلم السجان، فجاءت رسالته كرسول للأوجاع، حكى فيها عما أسماه مهازل يتعرض لها سجناء جنائيون لا يتمكنون مثله ـ كمعقتل سياسي وشاب ثوري ـ من إيصال صوتهم: "هذه المرة لن أكتب ما أشرح فيه معاناتي داخل السجن، ولن أكتب رسالة أحث فيها الحالمين بالتغيير على الصمود والثبات على مبادئهم، هذه المرة أكتب بلاغاً للجهات المسؤولة وإلى كل من يهتم بكرامة الانسان.. سأحكي عن التعذيب الذي يتعرض له زميل الزنزانة حسن، لأن أهله لا يمكنهم دفع الرشى المطلوبة لأفراد الشرطة.لا يمكنكم تخيل حجم الجرائم والموت التي كان شاهداً صامتاً عليها، وكل ما يتمناه حسن ألا يلاقي المصير نفسه".
الرسالة الثالثة جاءت لترسم ملامح ظلم يعيشه بلد بأكمله، وصدمة اتسعت لتشمل الجميع. فيها يحكي عن مواساة كل الأيادي الظالمة والمظلومة له داخل الزنزانة، باعتباره رمزا لثورة جاءت يوماً من أجل الجميع: "يسود الزنزانة هدوء تام، أجلس أمام شاشة التلفاز وبجواري أصدقاء الزنزانة. تتصاعد من أفواهنا أدخنة السجائر، أنظر الى السماء من إحدى نوافذ الزنزانة داعيا الله أن ينتصر الحق وأن يرفع المظالم. يقطع دعائي صوت التلفاز فتأتي الصدمة: حكمت المحكمة بالبراءة على من نهبوا وسرقوا وعاثوا فساداً على أرض هذه الوطن. حكمت المحكمة ببراءة من قتلوا جيلا كاملا حالما بالتغيير.. مبارك والعادلي. انتفضتُ من مكاني وتوجهت الى فراشي الضيق والثقيل وانفتحت في البكاء كالطفل الذي فقد أمه. التفوا حولي حتى هدأت، وعندها قلت لنفسي: فليكن، ان من له حقا لا يستطيع أن يكمل ليأخذه، لم يستحقه من البداية". لم ينس "ممدوح" أن يذيل رسائله جميعاً بهذا العنوان الكئيب الذي لا يليق به: "سجن القاهرة – طرة، تحقيق ـ عنبر 1 شديد الحراسة ـ زنزانة 16 ب".

أحلام عبد الرحمن
 

"ليس المطلوب منك أن تكون بطلاً لا يُقهر، ليس المطلوب ألا توجعك التفاصيل الصغيرة، لا تداري ضعفك ولا تخجل يوماً من إنسانيتك".. هذا دائماً ما كان يوصي الجيل القديم الشباب داخل قاعات المحاكم وأمام سيارات الترحيل. ولهذا جاءت رسالة الطالب الصغير عبد الرحمن الجندي لتختصر حال الآلاف، بعدما تعاقبت عليه فصول السنة بقيظ الحر وقسوة البرد. ترجم عبد الرحمن ـ طالب الجامعة الألمانية ذو الـ19 عاما المحكوم عليه بـ15 عاما سجنا بتهمة الانتماء لجماعة إرهابية ـ بكلمات بسيطة حجم الآلام الكبرى التي يتعرض لها نفسياً وجسدياً بسبب وجوده بين جدران السجن.
كتب تحت عنوان "أحلام": "باحلم.. ألاقي مخدة بدل الشبشب أسند راسي عليها.. حاجة طرية أنام عليها بدل الأرض.. أفرد رجلي وإنا نايم.. أتقلّب، أنام وأنا متطمن إني مش هصحى على صوت بيسب الدين أو إيد بتطرقع على قفايا.. أدخل الحمام من غير ما استنى 25 واحد قدامي.. مكان أذاكر فيه وحاجة أعلى من الأرض أسند عليها.. أشوف أهلي أكتر من نص ساعة كل إسبوعين.. أشرب مية نضيفة.. أشوف الشمس.. أدخل الإمتحانات..آخد نفس من غير ما أفتكر إني مسجون".
 

التعذيب.. والألواح المكتوبة

جرائم التعذيب التي يتعرض لها سجناء الرأي بهدف كسر إرادتهم تحتل مئات الصفحات، وتشمل الرسائل الجماعية ذات الخط البسيط لأطفال "المؤسسة العقابية للسجناء غير البالغين" في مدينة الاسكندرية، المعروفة بـ "كوم الدكة" ، فقد كتب ما لا يقل عن 40 شابا صغيرا قُبض عليهم من تظاهرات مختلفة، ما تعرضوا له من ضرب وتعذيب على يد القوات الخاصة عند محاولتهم تنظيم إضراب عن الطعام. وهو التعذيب نفسه والجرائم التي حكى عنها المعتقل كريم طه الذي تم ترحيله هو و85 آخرون قُبض عليهم من أماكن متفرقة في الذكرى الثالثة لثورة يناير: "قاموا بنقلنا إلى سجن وادي النطرون، وهناك تأكدنا ان الهدف هو إذلالنا قبل الوصول لساحات القضاء. تعرضنا للصعق بالكهرباء وإجبارنا على ترديد أغنية "تسلم الأيادي"، اقتحموا علينا الزنازين وجردونا من ملابسنا وحرقوا متعلقاتنا الشخصية من ملابس وأطعمة وكتب، ربطونا من رقابنا بالحبال كالكلاب وسحلونا على بطوننا"..
 

ابتسامات وأشواق وحنين

رسائل بحجم الحياة، تقرأ بعضها فيدفعك للضحك رغم ما بها من مأساة، وأخرى تقرأها فيسابقك الشوق والحنين. فمن داخِل محبسه أرسل الناشط السياسي لؤي القهوجي الى رفيقة نضاله ماهينور المصري رسالة يهنئها فيها بالحرية ويقول لها ضاحكاً: "هنيئاً لكِ، مررت من الزنزانة قبل موسم الصيف، لا أملك نفسي من الضحك، لو لدي الفرصة لكنت أرسلت لكِ مقطع فيديو ونحن نستقبل خبر الإفراج عنكِ، لم نتمكن من التصفيق والتهليل فنحن مشغولون بهرش ظهر بعضنا البعض بعد أن تمكن منا مرض الجرب. سنتذكر الإفراج عنك دائماً بهذه الحركات الهستيرية لليد".
وقد كان للعشق نصيب أيضاً، فحملت السيدة أثناء زيارتها رسالة من ابنها أحمد لحبيبته (ن): "أيتها الجميلة التي أحببتها، لا تصدقي كل هذه التهم. لا شيء يوجعني في نومتي على الأرض سوى انقطاع حديثي الطويل إليكِ. أعرف ما تشعرين به الآن، وما يقوله لكِ والدكِ عني. نعم هو محق، لن أستطيع أن أفعل أي شيء، لكن ما يدفعني للصبر هي تلك الأيام التي التقينا فيها دون أن نلتقي. تحدثي إلى أهلي طويلا..". أحمد، وفق شهادات حقوقية، شاب لا ينتمي لتيار سياسي لكنه توقف لصد أذى رجال الشرطة عن بعض المتظاهِرات اللاتي بالتأكيد يشبهن حبيبته.
ننهي هذا الحديث الموصول بالوجع المتشوق للحرية مع أبيات الشاعر والناشط السياسي عمر الحاذق الذي كتب من داخل الزنزانة:
إذا مِتّ لا تدفنوني هنا
وهاتوا السماءَ إليَّ
لألعبَ فيها مع الصبْيةِ الراحلينَ،
سنصنعُ من غيمةٍ كرةً
وسنلعبُ حتى تفيضَ على الأرضِ أحلامُنا.

 

للكاتب نفسه

عيش.. حرية.. إلغاء الاتفاقية!

منى سليم 2024-03-29

هل يستقيم ألا تغيِّر الحرب على غزة موازين الأرض؟ أو لا يصير الى صياغة برنامج سياسي مصري ينطلق من إلغاء هذه معاهدة كامب ديفيد، وأن يكون ذلك ركيزة للتغيير الجذري...