حجٌ ابتدأ اليوم ويستمر أسبوعاً في صعيد مصر

عند تماس النهر مع الجبل، حطّ الحمام  فكانت نهاية الرحلة وبر الأمان. وضعت السيدة المنزَّهة طفلها المعجزة في جوف الجبل ومن حوله الخراف الصغيرة نيام، حدثُت رفيق رحلتها النجار عن مخاوفها من أن يصل لهم الملك الجبار،  فطمأنها برؤية الغمام،  فأكلوا وشربوا واحتموا حتى كُتب لهم السلام.. عليهم السلام. من تلابيب تلك الرحلة المقدسة قبل آلاف الأعوام، حظيت تلك المنطقة فى قلوب ووجدان
2015-05-14

منى سليم

كاتبة وصحافية من مصر


شارك
جرجس لطفي - مصر

عند تماس النهر مع الجبل، حطّ الحمام  فكانت نهاية الرحلة وبر الأمان. وضعت السيدة المنزَّهة طفلها المعجزة في جوف الجبل ومن حوله الخراف الصغيرة نيام، حدثُت رفيق رحلتها النجار عن مخاوفها من أن يصل لهم الملك الجبار،  فطمأنها برؤية الغمام،  فأكلوا وشربوا واحتموا حتى كُتب لهم السلام.. عليهم السلام.
من تلابيب تلك الرحلة المقدسة قبل آلاف الأعوام، حظيت تلك المنطقة فى قلوب ووجدان المصريين بمكانة خاصّة. ثم جاءت الملكة الرومانية هيلانة عام  328،  فقامت برحلتها النهرية حتى وصلت لحافة الجبل حيث بنت "كنيسة العذراء" على الجانب الغربي لمدينة "المنيا" من صعيد مصر. ومن بعدها جاء الى البقعة التاريخية نفسها المؤرخ العربي "المقريزي"، فلفت نظره انتشار طير "بوقيرس" فوق قمة الجبل، فكانت تسمية "جبل الطير"، الذي يشهد حجاً بتوقيت رحلة العائلة المقدسة نفسها، مولد "أم النور"، وهو الاسم الذي اختارته الثقافة الشعبية المصرية للسيدة مريم العذراء،  حيث يتوافد ما لا يقل عن مليوني مصري، أقباطاً ومسلمين (90 في المئة من الحجاج هم مسلمون)، من المحرومين الذين ينتظرون من رموزهم السماوية  "المدد".

مدد و مودة 
يا مريم يا أم النور..  يا جوهر غالي ومصون
جه الملاك هناكِ.. بالسلام حياكِ
بالبشرى الحلوه ناداكِ.. طوباكِ طوباكِ
يا طاهرة يا نقية.. يا زينة البشرية
دا أنتِ الأم المثالية.. إشفعي فينا يا أم النور 

لا زال النهر يتماس مع الجبل ومن فوقه ينتشر اللون الأخضر حيث أنشطة زراعة وتقطيع للحجر يحترفها ما لا يقل عن 12 راهباً يعيشون بدير "جبل الطير". في يوم المولد الكبير، يقفون متراصين لاستقبال الوافدين عبر "المراكب النهرية" الضخمة لبدء طقوس هذا الحجيج السنوي.
المشهد من هناك لا يختلف كثيرا عن مثيله من الاحتفالات بمولد "الحسين" و"السيدة زينب" حول المساجد الشهيرة بالقاهرة.  تصدح أشكال من الإنشاد تتداخل فى موسيقاها الترانيم المسيحية والمديح الإسلامي، بينما تنتشر الخيام فى كل مكان تضم آلاف الأسر المسيحية والمسلمة التي جاءت لتقضي أسبوعاً كاملاً في هذا المكان تبركاً وحباً. الذبائح ورسم الوشم ومراجيح الأطفال ملامح رئيسية من الاحتفال. وفي اليوم الأخير، يكون المشهد المنتظر، حيث الزحام الشديد حتى ساعات متأخرة من الليل في انتظار ما جاءوا من أجله: تجلي روح العذراء على شكل حمائم بيضاء صغيرة تطوف حول الكنيسة.. فتبدأ الصيحات ويسري البكاء وحرارة التهنئة والدعاء.

مريم .. تبكي شهداء القمع و لقمة العيش

لو ماليش أم حنونة زيك يا عدرا أروح لمين 
دايما بأمومتك وحنانك معايا ومع الملايين
في الضِيقات بتجيني قوام وبشفاعتك بتخليني 
أطرد الضيق بكل سلام كل الشدة بتنجيني

لا زالت ثنائية الجبل والنهر تحكم المشهد من هناك. ليس صحيحاً بالطبع أن الأفكار الصلبة المتطرفة لم تنل من روحية وخصوصية المشهد السنوي الهام. فانهيال الأزمات المجتمعية والطائفية كصخور فوق أرواح الجميع تنعكس ظلالها على كافة الوجوه، إلا انها في الوقت نفسه لم تمنع سريان تلك الحالة الخاصة. ينساب البشر أفواجا الى تلك المنطقة، مهما كانت الأحداث الصعبة التى طوتها صدورهم ومهما  كانت المخاوف والتهديدات.
بين عام وعام تغير المشهد كثيراً داخل مدينة "سمالوط" محافظة المنيا التى يتبع لها "دير جبل الطير". فبينما كانت الاحتفالات مدوية داخل حدود المكان بفوز وزير الدفاع آنذاك عبد الفتاح السيسي برئاسة الجمهورية، حيث رفع الناس أياديهم الى طير الحمام، يطلبون من "أم النور" تسديد خطاه ودعمه وانقاذ الوطن، يأتي هذا العام ولم تجف بعد أوجاع قرية "العور" التى يفصلها عن الدير مسافة صغيرة، حيث منازل 14 من "شهداء لقمة العيش"، ممن قتلوا ذبحاً على يد تنظيم "داعش" الإرهابي في ليبيا الشتاء الفائت.

وما زال الجميع يذكر تلك السيدة العجوز في وسط العزاء لا تبكي، تحتضن فقط صورة ابنها. يسألها احد الإعلاميين: "ماذا تقولين عمن ذبحوا ابنك؟"، قالت: "ربنا يسامحهم"، نظر لها بدهشة فقالت "دي وصية ام النور".
مظالم وأوجاع أخرى تسري حول الدير هذا العام عقب حملات أمنية مستعرة استهدفت شباب مسلم باتهامات بالإرهاب والترويع، بينما أكد الأهالي أن الواقعة محل الجدل لم تتخط قيام صبية متطرفين برشق باب الكنيسة بالحجارة رفضاً لبناء أخرى جديدة بالقرية الى جوار المسجد لتحمل اسم "الشهداء". وتم الصلح ودياً بين الأهالي الذين اجتمعوا على حاجتهم لمشفى ومدرسة ومصنع يجمعهم جميعاً أكثر من التزيد فى بناء دور العبادة للطرفين.

فرحة الغلابة وشفاء المساكين

يا عتبة العدرا يا مَحْلا عتبها
افتحوا للزايرة تنصر ولدها
يا عتبة العدرا يا محلا هواها
افتحوا للزايرة تنصر ضناها
سُئِل  الراحل البابا شنودة ـ بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية السابق ـ عن سر تعلق المصريين بالموالد، قال هو "فرحة الغلابة وشفاء المساكين".
الحجيج الى هناك دائماً ما حكى عن المعنى نفسه، فتشعر مع ارتفاع درجات الحرارة وتزايد أعداد الخيام واللعب والضحك المنتشر حولها، أن "الغلابة" قد خلقوا  مصيفهم  دون تكلفة. انتشار الأطفال والمحتاجين عند صندوق "النذور" وساحة "الذبائح" يحكي عن ثقافة مجتمعية مصرية أصيلة تعمدت على مدار القرون فى التزيد من الاحتفالات التي تسمح بتوفير غطاء روحي كريم من أجل إعانة المحتاج ونشر البهجة، بل وأحياناً إظهار حالات نفاق مجتمعي واضح لبعض الميسورين مادياً، الباحثين عن وجاهة و حضور.

بلد يبحث عن النور
يا مملوءة نعمة  أنت الحصن الحصين
أنت كنز الرحمة  يا عون المساكين 
جودي عليا من نورك..  يا شفيعة القديسين

يتحدث البيان الرسمي للحكومة المصرية عن تشكيل غرفة عمليات أمنية كبرى لتأمين موسم "السيدة العذراء" بجبل الطير هذا العام، ومنع وصول أي أيادي إرهابية إليه. يخشى الأهالي ـ دون تمييز ديني ـ عن إمكانية حدوث هذا. كما يلتفتون الى معاناة  "المنيا" على مدار الأسبوعين الماضيين من انقطاع متكرر للتيار الكهربائي يصل الى 8 ساعات باليوم الواحد. مخاوف يومية يعيشها الجميع، على الرغم من هذا، تستمر الاستعدادات الرسمية والشعبية للاحتفال بالحدث السنوي المبهج. فبائعو الحلوى والمأكولات و"أكياس الشموع" نقلوا عرباتهم الصغيرة الى هناك، والرهبان وضعوا الزهور على سفح الجبل، وتزيَّن صندوق "النذور" لاستقبال زواره.. هي  رحلة  الصدور السنوية بحثا عن مخرج يأتي منه..النور.


وسوم: العدد 143

للكاتب نفسه

عيش.. حرية.. إلغاء الاتفاقية!

منى سليم 2024-03-29

هل يستقيم ألا تغيِّر الحرب على غزة موازين الأرض؟ أو لا يصير الى صياغة برنامج سياسي مصري ينطلق من إلغاء هذه معاهدة كامب ديفيد، وأن يكون ذلك ركيزة للتغيير الجذري...

مصر التي كسرت خاطري وتقيّد فمي

منى سليم 2023-11-03

هل يأتي يوم تُحرِّرنا فيه مصر من وجعنا المكلوم منها وبها وعليها، فأجد نفسي على حين غرة ملتحمة بملايين أعرفها ولا تعرفني؟ هل ترضى عنا الأيام؟ وهل سنمتلك حينها القدرة...