اللواتي يعرفنَ دائماً

يبيعهنّ المجتمع والعرف صفات القداسة والتضحية والإيثار، مقابل بقائهنّ غير مرئيات، فيما هنّ مديرات الدنيا ومحركات الأشياء. نعرفهنّ واحدة واحدة... نعرفكنّ واحدة واحدة. في هذا اليوم نعترف بصوت عال أننا نراكنّ، وفي سائر الأيام ربما نكونُ أكثر شجاعة بالعمل نحو أن تبقين ونبقى كلّنا مرئيات، والباقي تعرفن أنتنّ فعله، فلستنّ ولسنا بحاجة لمنقذين.
2021-03-08

صباح جلّول

كاتبة صحافية وباحثة في الانتربولوجيا البصرية من لبنان


شارك
تغريد البقشي - السعودية

"إنني أصير أمّي"، استنتجتُ أخيراً بعد أن سافرتُ وعشتُ وحدي في بلاد بعيدة عنها وعن أهلي. لا أمرّ بحانب قصاصة ورق وقعت على الأرض إلّا وتلتقطها راداراتي، أتنبّه لها فألمّها، وقد كنت من قبل، في بيت أهلي، أكتفي بعالمي الداخلي المغلَق. أفكّر بالمقال الذي علّيّ كتابته، أو بالمشروع الذي اقترب موعد تسليمه للجامعة، أو بأنّني صرت بحاجة لثياب جديدة. صرت لا أرمي القليلَ القليل الذي يبقى من الطعام، فغداً أضيف إليه القليل من طعام آخر ويصيرُ وجبة جيدة جداً وكافية. صرتُ أنتبه لعروضات السوبرماركت وأفاضل بالنوع والسعر، وكنتُ من قبل لا أرى جدوى هذا الرصد، لكنّ أمي دائماً ما كانت ترى... والدي يقول لها "إنتِ المديرة في هذا البيت، يا ستّ أمّ محمّد" بين المزاح والجدّ، لكنّني أعرف أن قوله أقرب إلى الجدّ. كلّنا نعرف أنها منظّمة كلّ الأشياء، تتولّى الإدارة بجداول ذهنيّة خفيّة ومفكّرات يوميّة غير مكتوبة ودفتر مصاريف يومية مفصّل لا يفوته شيء قطّ، مع أنّ معظم ما تصرفه غير موثّق بفواتير، لكنها تحفظه كلّه.

 دائماً ما كنت أسأل نفسي كيف تتذكّر أمّي كلّ شيء؟ ما نقص من أغراض البيت، متى عليها الخروج لتقلّ أخي من المدرسة أو تقلّني إلى العمل، الواجبات الاجتماعية ومتى موعد زيارة فلانة للتبريك وفلان للعزاء. تتذكر مكوّنات كل الأطباق التي تحضّرها بينما أنا عليّ مراجعة الوصفات دائماً، وتتذكر أنّ عليها مساعدة أمّها في فرط الرمان للدبس ومعاونة اختها في تقريص الكبّة. كما أنّها تعرف دائماً ما عليها أن تقوله في المواقف كلها. لقد تسنّى لي أن أرافقها طوال حياتي، وقد شاهدتها تفاصل في السوق، تؤنّب غشاشاً بلا خوف، تدافع عن نفسها دون تردد عندما كانت حديثة العهد بقيادة السياراة والسائقون الرجال يحاولون إحراجها بالتعليق على قيادتها...

تسنّى لي أن أرافقها طوال حياتي، وقد شاهدتها تفاصل في السوق، تؤنّب غشاشاً بلا خوف، تدافع عن نفسها دون تردد عندما كانت حديثة العهد بقيادة السياراة والسائقون الرجال يحاولون إحراجها بالتعليق على قيادتها... كنت أنا أخاف وهي لا تخاف.

أحياناً تبدو لي حياة امي أكبر وأغنى من حياتي بعشر مرات، رغم أنني سافرتُ وعرفتُ ناساً أكثر، لكنها كانت عدة نساء عشنَ كلّ أنواع الظروف. هي ليست مناضلة من أجل حقوق النساء ولا هي رائدة في الفن والعلوم ولا هي ناشطة سياسية معروفة، لكنها تشبه كل هؤلاء.

 كنت أنا أخاف وهي لا تخاف. أتذكرها تحمل أخي الأصغر في حرب تمّوز وتعود به إلى البيت لأنّ البيت أريح، بكل هدوء، فيما مطار بيروت قربنا يُقصف. هي تعرف ما يتوجب قوله في الموقف الصادم والحزين والسعيد والمربِك أيضاً. تعرف وتعرف وتعرف، وأنا أحاول أن أفهم منبع هذه المعرفة فلا أجده. لعلّني إذاً أصحّح ما ادّعيته: لم أصِر أمّي بعد، لكنني أتقمّصها أحياناً بلا انتباه، تطلع من بين جنبي في أوقات غير متوقّعة، فأفاجئ نفسي أستعير حركاتها بالضبط، أقول جملة اعتدت أن أسمعها منها أو أغنّي كلّما عدتُ إلى البيت بعد رحلة متعِبة "يا بيتي يا بويتاتي، يا مستّرلي عيوباتي"...

نتهامس، أختي وأنا، حول كلّ ملاحظاتها حولنا. تمدحنا كأي أم فخورة بأبنائها وبناتها طبعاً، وأيضاً كأي أمّ، لا يعجبها ما فعلنا هنا وما قررنا هناك، ما لبسنا وما اشترينا من أغراض. هناك دائماً ما هو أفضل بالنسبة لها، كلمة أفضل كان بإمكاننا اختيارها، عمل أفضل كان بإمكاننا أن نعمله... لن نطابق ما تريده منا ولن تطابق هي فكرتنا عن حياتنا كبنات مستقلّات. ربما نخيفها بما نخفي عنها في دوائرنا الخاصة. سيبقى هذا التوتّر موجوداً، لكنني أجد نفسي كلّما كبرت أحببتُ أن أفصح لها أكثر.

____________
من دفاتر السفير العربي
يمكن الاتّكال عليهن
____________

إنّه يوم المرأة العالمي من جديد، ونحن في بيتنا لم نحتفل قط بهذا اليوم - حالنا حال معظم العائلات في بلادنا. لا أفهم تماماً كيف يُحتَفَل بهذا العيد. وبلا خطّة واضحة بدأتُ نَصّي هذا فوجدتني أكتب عن أمّي. لعلّني اكتشفت متأخرة أنها المثال الأول الواضح الذي عرفته لامرأة قويّة وذات رأي وقرار، وقد كنتُ محظوظة في هذا الجانب لوفرة الأمثلة التي صادفتها في حياتي لنساء مذهلات... قد لا تعرّف أمّي عن نفسها بهذه العبارات، لكنها كذلك. "مديرة" حياة خمسة أشخاص يعيشون حولها، ربّة منزل تفرّغت لنا بعد أن جرّبت أن تفتتح مصلحتها الخاصة، وبعد أن عملت في صباها موظّفةُ في مكتب في شارع الحمرا، فتنقّلت من مزاج إلى مزاج، بين العمل والبيت، بين العزوبية والزواج، بين آخر تصاميم الأزياء التي أحسدها عليها في صورها القديمة والحجاب الذي لبسته بعد أن أنجبتني بقليل. أحياناً تبدو لي حياتها أكبر وأغنى من حياتي بعشر مرات، رغم أنني سافرت وعرفت ناساً أكثر، لكنها كانت عدة نساء عشنَ كلّ أنواع الظروف. لماذا وجدتني أكتب عن أمّي في يوم المرأة، فيما تلوح في مخيلتي وجوه لنساء كثيرات ملهمات من السعودية إلى السودان ومن فلسطين إلى مصر؟ هي ليست مناضلة من أجل حقوق النساء ولا هي رائدة في الفن والعلوم ولا هي ناشطة سياسية معروفة، لكنها تشبه كل هؤلاء...

كلّنا نعرف أنها منظِّمة كلّ الأشياء، تتولّى الإدارة بجداول ذهنيّة خفيّة ومفكّرات يوميّة غير مكتوبة ودفتر مصاريف يومية مفصّل لا يفوته شيء قطّ، مع أنّ معظم ما تصرفه غير موثّق بفواتير، لكنها تحفظه كلّه.

 لكنني أكتب لكي أقول أنني أيقنت أنها بغير علم منها كانت مثالاً قد يبدو عادياً لكل التأثيرات غير العادية - ليس بصفتها أمّاً أو أمّي أنا بالذات، ولكن، لنقل، بصفتها امرأة صُودف أنني عشت معها وشهدت حياتها وانفعالاتها كما شهدت هي على حياتي. امرأة خفيّة أخرى في عالمٍ يحبّ أبطال السوشال ميديا والقوالب الجاهزة (في الرجعيات كما في لبرلة وتسطيح معاني النسوية، يحبّ الضغط على النساء ليكنّ "هكذا تماماً" شكلاً ومضموناً، أو لا يكنّ!)... امرأة أُخرى، أعرف أن معظم النساء اللواتي يستحقّن أن يُحكي عنهنّ وعن نضالاتهنّ هنّ مثلها، غير مرئيّات في السرديات الكبرى. يُفنينَ الأعمار ويصرفنَ من صحّتهنّ رغم أنّ من حقّهنّ الطبيعي ألّا يفنَين من أجل أحد وألّا يصرفن كل هذا اللحم والدم والوقت. يبيعهنّ المجتمع والعرف صفات القداسة والتضحية والإيثار، مقابل بقائهنّ غير مرئيات، فيما هنّ مديرات الدنيا ومحركات الأشياء. نعرفهنّ واحدة واحدة... نعرفكنّ واحدة واحدة.

مقالات ذات صلة

إذاً، أعتقد أنّ ما أريد قوله هو: أننا نراكنّ، في هذا اليوم نعترف بصوت عال أننا نراكنّ، وفي سائر الأيام ربما نكونُ أكثر شجاعة بالعمل نحو أن تبقين ونبقى كلّنا مرئيات، والباقي تعرفن أنتنّ فعله، فلستنّ ولسنا بحاجة لمنقذين. بسببكنّ نعرف ما علينا أن نفعل، على مهل وفي يقين.     

مقالات من لبنان

لبنان مجدداً وغزة في القلب منه

... أما أنا فأفرح - الى حدّ الدموع المنهمرة بصمت وبلا توقف - لفرح النازحين العائدين بحماس الى بيوتهم في الجنوب والبقاع وضاحية بيروت الجنوبية. لتلك السيارات التي بدأت الرحلة...

للكاتب نفسه

البحث عن فلسطين في "مونستر": عن تطوّر حركات التضامن مع فلسطين وقمعها في مدينةٍ ألمانية

صباح جلّول 2024-12-23

يهدف هذا النص، والـ"بودكاست" المصاحِب له، إلى دراسة مدينة "مونستر" في ولاية "شمال الراين – وستفاليا" كحالة ألمانية خاصة، حيث تطورت سريعاً العديد من مجموعات التضامن مع فلسطين، وفعّل الناشطون...

البحث عن فلسطين في "مونستر": عن تطوّر حركات التضامن مع فلسطين وقمعها في مدينةٍ ألمانية

صباح جلّول 2024-12-11

يتفق الناشطون على فكرة ضرورة إجراء تقييم مستمر لهذه الحركات، خاصة في ظل محدودية قدرتها عالمياً على تحقيق الضغط الكافي لإيقاف الإبادة، هدفها الأول من بين عدة أهداف أخرى طويلة...

كلّ ما يتحدّى اكتمال الإبادة..

صباح جلّول 2024-11-10

شبعت أعين العالم أكلاً في مأساة غزّة. لن تغيِّر صور الموت ما لم يغيّره الموت نفسه. لذلك، فهذه هنا صور لقلبٍ ما زال ينبض، لملمناها من صور شاركها الصحافي يوسف...