بعد عامين على طباعتها، قررت الحكومة السورية أن تزجّ بورقة نقدية جديدة من فئة الخمسة آلاف ليرة في السوق المحلية، وكأنها أعجوبة باهرة كانت تحتفظ بها إلى وقت الشدائد، فإذا بها تسرّع من الانهيار الاقتصادي، حيث سجلت الليرة السورية تراجعاً غير مسبوق في قيمتها. وهذه نتيجة طبيعية لزيادة المعروض النقدي الذي لم ينشأ عن زيادة مماثلة في المعروض السلعي والخدمي العام.
الانهيار سمة ونتيجة
ذاك الانهيار لم يكن غائباً عن أعين مدبّري الشأن الاقتصادي، ولم يكن مفاجئاً لهم على أي حال، لكنه جاء قاصماً لظهور الناس، معرّياً حقيقة إفلاسهم العام، متطاولاً على قوة دخولهم الشرائية المتواضعة، حابساً القليل مما يمتلكون داخل جيوبهم، معرّضاً مصائرهم الى مزيد من الخراب، فيما يتفنن نظامهم السياسي في تقليب وجوهه، وممارستها عليهم بصورة دورية. سوّغ حاكم المصرف المركزي طرح تلك الفئة النقدية الجديدة، بربطها باستبدال العملة التالفة، ونفى أن تكون كتلةً نقدية تضخمية. غير أن المزيد من العملات شبه المهترئة من فئتي الألف، والخمس مئة ليرة ظهرت في العديد من المبادلات التجارية، ولا سيما في أماكن تبديل العملات ومكاتب الصيرفة. وقد اكتفت روسيا وإيران، الحاصلتان على المركز الأول والثاني تباعاً في حجم الاستثمارات والهبات والمزايا الاقتصادية الممنوحة من السلطة السورية، بالفرجة على نموذج الدولة السورية الفاشلة، التي لا تمانع من إطلاق النار على قدميها مقابل حصولها على برهة إضافية من الزمن..
أما اللاعبون الأساسيون في الشأن السوري، فقد ربطوا جيداً الحل الاقتصادي بالحل السياسي، بحيث يكون من المستحيل على النظام السوري بصيغته القائمة إيجاد مخرج حقيقي للانهيار الاقتصادي القائم منذ سنوات. فسوريا اليوم حصلت على مراكز عالمية متقدمة في مستوى انتشار الجريمة، والتضخم، وارتفاع نسبة المخاطر الاستثمارية... وأما نظامها السياسي فلا يزال يكابر، علّه يمرر الانتخابات الرئاسية القادمة بصناديق اقتراع محليّة، مضمونة النتائج.
نصائح في زمن الانهيار
ترتبط مقولة "الرئيس جيد، لكن المحيطين به سيئون" بحافظ الأسد، مؤسس النظام القائم حالياً، وهي مقولة سياسية أخذت بعداً اجتماعياً واسعاً أثناء تغوّل الدولة الأمنية في الثمانينيات والتسعينيات الفائتين، ووجد فيها الناس ملاذاً آمناً لمداراة خيبتهم إزاء إحداث أي حراك مجتمعي حقيقي يقود إلى تغيير في إدارة البلاد. ثم استمرت هذه المقولة داخل إرهاصات الوعي المجتمعي للعامة خلال حكم الابن، وطفت أكثر على السطح أيام اشتداد الأزمة الاقتصادية. لكن وفي أواخر شهر شباط/ فبراير، نُقل عن بشار الأسد بعد اجتماعه بصحافيين موالين له، ما لعله طرفة، وهو اقتراحه بإلغاء برامج الطهي من القنوات التلفزيونية السورية، تماشياً مع الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالبلاد وبجيوب الناس.
يروج منذ مطلع العام الحالي لزيادة في أجور العاملين في الدولة. ولكن هذه لن تكون بأي حال زيادةً حقيقية على القوة الشرائية للدخول، وإنما زيادة تضخمية سيجري تمويلها غالباً من الكتلة النقدية الجديدة التي خرجت إلى التداول مؤخراً، ما قد يدفع بالاقتصاد السوري إلى وذمة تضخمية جديدة، وستبقى الهوّة بالغة الاتساع بين متوسط الدخول، والمستوى العام لأسعار السلع والخدمات.
عملياً، فالمناطق التي آثر قاطنوها السكينة منذ العام 2011، هي المناطق نفسها التي تتلقف الآن أكثر من غيرها نتائج الانهيار الاقتصادي، وانهيار عملة البلاد. هناك بعض التدوينات والمنشورات الساخطة أو الساخرة التي تجوب رحاب مواقع التواصل الاجتماعي بلا كلل، من دون أن تثمر فعلاً قابلاً للقياس أوالتأثير على خيارات النظام السياسية.
زيادة في الأجر لا الأجور؟
عام 2020، قدّر ستيف هانكي أستاذ الاقتصاد التطبيقي في جامعة جونز هوبكنز حجم التضخم في سوريا بنحو 264 في المئة، فكيف به الآن؟! وكيف سيكون بعد زيادة أجور العاملين في الدولة، والتي يُرَوّج لها منذ مطلع العام الحالي على أنها زيادة غير مسبوقة؟ وهي لن تكون بأي حال زيادةً حقيقية على القوة الشرائية للدخول، وإنما زيادة تضخمية سيجري تمويلها غالباً من الكتلة النقدية الجديدة التي خرجت إلى التداول مؤخراً، ما قد يدفع بالاقتصاد السوري المعلول إلى وذمة تضخمية جديدة، وستبقى الهوّة بالغة الاتساع بين متوسط الدخول، والمستوى العام لأسعار السلع والخدمات، مع كنس نهائي لبقايا الطبقة الوسطى التي ردم وجودها تدريجياً انهيار عملة البلاد، واقتصادها على السواء.
ويبدو من الصعوبة بمكان أن تعترف السلطة السورية بخلو وفاضها من أي حلول حقيقية لتغيير المعادلة الاقتصادية والمعيشية الراهنة، او التفكير ببلوغ حل توافقي للنكبة السورية ينقذ ما يمكن إنقاذه من بقايا حياة. وأما موسكو وطهران فيرجح أنهما غير مستعدتان لاحتمال هذا النظام إلى ما لا نهاية، ولن يتغير هذا المعطى العام حتى مع مزيد من المكاسب الاستثمارية. فإيران تستعد لإطلاق مشغل الهاتف الخلوي الثالث في البلاد، وقد عبّدت السلطة السورية أمامها الطريق "لغَرْف" الأرباح مباشرةً بعد قرار وضع مشغل الخلوي الثاني (MTN) مؤخراً تحت الحراسة القضائية، وقبله تمّ وضع المشغل الأول (SYRIATEL) العائدة ملكيته إلى رامي مخلوف ابن خال الرئيس السوري، تحت الحراسة القضائية أيضاً. أما السوريون فلا زيادة حقيقية على أجورهم المالية، وإنما قد يُزاد أجرهم عند الله، لا لشيء، وإنما جزاء ما احتملوه.