"مين اللى يقدر ساعة يحبس مصر؟"، جملة غنائية عرفتها التجمعات الثورية والسياسية في مصر منذ السبعينيات، ورغم هذا، فلا زالت كل مرحلة قادرة على جعل آلاف المعارضين "رهن الحبس" باتهامات تبدأ من "تكدير السلم العام" وتصل لـ"التحريض على العنف والقتل"، ما يجعل السؤال يتحرر من صورته الشعرية ليكون " فى أي وقت لم تشهد مصر الحبس؟"
المشهد الآن
استمرت آلة الحبس بعد "30 يونيو" وخلع الإخوان من السلطة إثر تحرك شعبي واسع مطالب بذلك وتأييد من الجيش، ومع استمرار تظاهرات أنصار الرئيس المعزول وتنظيم الإخوان المسلمين. يقول ممثلو السلطة الجديدة، على لسان المتحدث الرسمي لوزارة الداخلية "انه رغم فرض حالة طوارئ بالبلاد، إلا انه لم يتم استخدامها وتوسيع نطاق الاعتقال، بل ان كل من يتم القبض عليهم خلال تظاهرات تستخدم للعنف يتم عرضهم على النيابة العامة، كما يتم القبض على أفراد صادر ضدهم بالفعل قرارات توقيف".
فى الاتجاه المقابل، تشير تقارير صادرة عن مراكز إعلامية تابعة لتنظيم الإخوان، لعل أشهرها مركز"رصد"، أن آلافاً لا زالوا بالسجون المصرية من دون تهمة واضحة إلا الانتماء للجماعة، مع الإشارة إلى عشرات أنواع الانتهاكات التي تبدأ بالتنكيل أثناء القبض وتصل للقتل، كما في الواقعة الشهيرة لمقتل 38 سجينا داخل باص ترحيلات الشرطة أمام سجن أبو زعبل. أما الملف الأهم الذي يطرحه "تحالف دعم الشرعية" في هذا الصدد، فهو عودة جهاز أمن الدولة (جهاز البوليس السياسي الذي تم إلغاؤه بعد ثورة 25 يناير لتاريخه في التعذيب وقتل آلاف المواطنين). فيقول المحامي المنتمي لجماعة الإخوان، عمرو عبد الغني، في شهادته على حسابه الخاص بموقع تويتر: "لقد عاد بكامل عتاده بنفس طاقم ضباطه، المتهم أغلبهم بالتعذيب والقتل، تحريات أمن الدولة تقوم بالقبض على العناصر الناشطة في التنظيم ومهاجمة بيوتهم بوحشية لشل حركة الجماعة في الشارع، وهذا كله يحدث من دون سند قانوني".
وعلى بعد مسافة بين الاتجاهين، في منتصف العراك بينهما، تقف المنظمات الحقوقية المصرية (أهلية غير تابعة لجهات حكومية أو خارجية) لتتابع المشهد الجديد الآخذ فى التكون وتعطي إشارات هامة وواضحة في التقارير الصادرة عن "جبهة الدفاع عن متظاهري مصر" (جبهة تضم عشرات من المراكز الحقوقية المصرية المعروفة نشاطاتها عبر السنوات العشر الماضية). وهذه رصدت كافة وقائع الاشتباك والعنف التي انتهت بالقتل، سواء تم هذا الاشتباك او العنف على يد السلطة أو جماعات تابعة لتنظيم الإخوان المسلمين أو مواطنين. وهي أعطت ترتيباً تاريخياً ورقمياً لأعداد المقبوض عليهم بالأحداث المختلفة: ومثلا، تقول إن نتائج فض اعتصام ميدان رابعة العدوية أسفرت عن القبض على 815 متظاهراً، وأنه في اعتصام ميدان النهضة وصل العدد الى 174 شخصاً، وفي ميدان رمسيس اعتقل 642 شخصاً.
"الدواعي الأمنية"
ملمح آخر شديد الأهمية رصدته أعمال "جبهة الدفاع عن المتظاهرين"، هو تعامل النيابة العامة مع إجراء تجديد حبس المتهمين باعتباره إجراءً روتينياً، حيث لا يتم سؤالهم عن التهم الموجهة إليهم حتى تتاح لهم فرصة الدفاع، علاوة على مباشرة إجراءات التحقيق داخل السجون. الرد الرسمي من مكتب النائب العام على مطالب الحقوقيين جاء تحت عنوان فضفاض هو "دواع أمنية"، مع الإشارة الى صعوبة نقل هذه الأعداد من المقبوض عليهم إلى النيابة العامة فى ظل الحالة الأمنية في مصر. الحقوقي محمود بلال عضو الجبهة قال لنا بوضوح: "موقف محامي الجبهة منذ اللحظة الأولى هو الانحياز إلى ما هو حقوقي على حساب السياسي، لكن في الوقت نفسه، كان هناك موقف واضح برفض الدفاع عن كل من هو متورط في أعمال عنف من الجماعات الإسلامية"، وأكمل: "في ضوء هذا، فقد كان دورنا رقابياً وتوثيقياً قبل أي شيء آخر، وكان من أهم ما رصدناه هو التوسع غير المسبوق في حالات القبض العشوائي، واقتحام المنازل، وهو ما نتج عنه زنازين متكدسة تضم المتورطين بالفعل والمتظاهرين السلميين أو من صادف مرورهم قرب الحدث لا أكثر. وفي ما يخص وجود حالات انتهاك، قال: "لم ترد لنا معلومات واضحة عن حالات تعذيب أو تنكيل داخل السجون، كما انه جرى الإفراج عن سيدات وأطفال كان قد تم توقيفهم، ولم تزد النسبة التى يمثلونها عن 2 في المئة".
قانون التظاهر الجديد
الشارع السياسي المصري منقسم بين المتوجسين من تنظيم الإخوان وطموحاتهم ـ كما يظنون ـ في خلق الفوضى أو اللادولة، وأولئك المتوجسين من عودة الدولة البوليسية التي خرج الشعب ضدها في 25 يناير. تلاحقت الخطوات على الارض، حتى وصلت الى لحظة هامة من لحظات "الحصاد"، حيث أقر في مصر منذ أيام "قانون التظاهر" الجديد. وحين خرجت مسودته قبل أسابيع، تحولت صفحات الجرائد ومواقع التواصل الاجتماعي لساحات تراشق واشتباك. وقد كتب الصحافي المصري إبراهيم عيسى (وهو معروف بمواقفه المعارضة لنظام مبارك وللإخوان) أن الاعتراض على القانون في لحظة حرجة كالتي تمر بها مصر الآن، وما تشهده من عنف ومحاولات تخريب بالشوارع والجامعات، "هو نوع من الطنطنة والجهل السياسي الذي لم يصب مجموعات شبابية فقط ولكنه للأسف طال قوى سياسية كبيرة". وأضاف: "دول العالم الديموقراطية كافة لديها قوانين مشابهة لتنظيم التظاهر، فلا احد يسمح بالفوضى"، ما لا يمكن الخلاف عليه. وما كشفه الكاتب الصحافي هو بالفعل حجم الأحزاب السياسية والقوى الشبابية الثورية التي رفضت مسودة الدستور، فقال حزب الدستور (الذي أسسه محمد البرادعي) إنه قانون لا يليق بمصر الثورة. وفي الاتجاه نفسه جاء توجه أغلب الأحزاب المشاركة بجبهة الإنقاذ (وهي جبهة سياسية ضمت الأحزاب المدنية خلال فترة حكم جماعة الإخوان المسلمين). اما القوى الشبابية الثورية كـ "6 إبريل" و"الاشتراكيون الثوريون" و"ثوار أحرار" وغيرهم، فكانوا قد عبروا عن رفضهم لمسودة القانون بشكل عملي وهو "الدعوة للتظاهر". أما أهم البنود المرفوضة فهي تلك التي تتعلق باشتراط إخطار وزارة الداخلية بمكان وموعد وسبب التظاهرة قبل 48 ساعة، وتقديم أسماء وبيانات خمسة من المنظمين... وأنه فى حالة رفض وزارة الداخلية للتظاهرة لدواع أمنية تقوم الجهة المنظمة بالطعن أمام القضاء الإداري، وانتظار الحصول على حكم قضائي من أجل التظاهر. كما اشترط وقوف المتظاهرين على بعد 300 متر من أي منشأة. والمشكلة هي في التعامل مع الحق في التظاهر على هذه الصورة، بينما لا زال الشعب المصري يتلمس ملامح مرحلة جديدة، هي صراعية وصاخبة تعريفاً، ويفترض أنها مفتوحة على آفاق جديدة وليست بوارد تكريس القائم وكأنه عنوان الاستقرار.