الإفراج عن مومياء

ظلت سلمى ملتفتةً إلى الوراء تشاهد الحشد وهو يغادر، وعادت إلى حلمها الأبدي: بأن تكون غير مرئية، فتفعل كل شيء تستطيعه لأجل نفسها ولأجل البشر. ستذهب لتصفع الرجل بمايكروفونه، وتنشر الرعب في قلوب المسلحين الهمجيين، ثم تطلق سراح كل الذين في الداخل.
2021-03-04

ريم مجاهد

كاتبة من اليمن


شارك
وسام الجزائري - سوريا

يجوب شقيق سلمى مع شوقي المكاتب والأروقة في المؤسسات بحثاً عن الموقع الصحيح، الذي من خلاله سيدفع كفالة علي، وسيخرجه من المعتقل الذي هو فيه.

قال لها شوقي إنه لا مفر من الاتصال بعائلته في القرية.

حشدت الأم في القرية أبناءها وبناتها، تحصّلت على أكثر من المطلوب، تعاود الاتصال بشوقي كل يوم:

- اخرجه وضعه في السيارة ثم أعده إلي، ولك عندي تكاليف ما تعمل، عدني بذلك يا ولدي.

- أعدك يا خالة.

رافقت سلمى الشابين في رحلاتهما، لم تدرْ الكثير من الحوارات في المنزل، عرف الأب ما الذي يعمله أولاده دون حاجته لسؤالهم، ومنحتهما الأم صمتها المهيب. كان الأخ متفانياً محباً ودوداً حتى مع الذين كذبوا عليهم لعشرات المرات في المكاتب الحكومية، لكنه اتفق مع سلمى ما إن يرى علي، حتى يلكمه على وجهه جزاء ما فعله بها، ووعدته أنها ما إن تتأكد أنه خارج المعتقل حتى تنساه إلى غير رجعة.

كانت نادية لتستبدل أخاها، وقطعة من جسدها بأخ مثل الذي لدى سلمى.

أما شوقي فهو هادئ سهل المراس، يسترق النظرات إلى سلمى كلما أتيحت له الفرصة، ويشعر تجاهها بالأسى:

- كيف لها أن تكون الغامقة، ويكون أخوها فاتح اللون.. نصيب. يظلّ يفكر.

في اليوم العاشر حُدّد الزمان والمكان، قال رجل مكفهر الوجه قذر الهيئة، تختبئ أكوام من الوسخ تحت أظافره:

- سيكون هناك طابور لاستلام المعتقلين، احضروا باكراً. كان صوته فظّاً لا إنسانياً، نظرت إليه سلمى باحتقار.

حاول الشابان إقناع سلمى بأن لا داعي لأن تحضر معهم في الغد، ستكون هناك فوضى وقد يحدث عنف، لكنها طمأنتهم بأن المسلحين أقوى من كل الغوغاء، لذا لن يكون هناك شي.

في السادسة صباحاً، انطلق الشقيقان في رحلة مدتها ساعة كاملة، وكان شوقي قد ذهب بمفرده ليلتقي بهم هناك، وتقابل الفريقان أمام الموقع المفترض بهم أن يستلموا علي عنده.

مقالات ذات صلة

أمام مبنًى حجريّ قبيح مؤلفٍ من طابقين، يقف في منطقة شبه فارغة، قاحلة وترابية، يحيط به سور حجري مرتفع وبوابة هائلة، لا تتناسب وشكل وحجم المبنى، وبُعيد عشرة أمتار منه، وقف تجمّع من الناس، أغلبهم رجال بانتظار أن تفتح البوابة، أو أن يقول أحدهم شيئاً، وقريباً من البوابة وقف رجلان مسلحان يرتديان "الزنة" التي كانت في زمن ما بيضاء، وعلى أقدامهما صنادل جلدية تبدو غالية الثمن، لكن القدمين ذاتهما مغبرتان يابستان. يغطي المسلحان وجهيهما بشالات ثقيلة، ولا تستطيع سلمى الوصول لنظرات عيونهما كونهما أبعد من مجال بصرها.

استمر الحشد بالهمهمة، كانت سلمى تسمع الحوارات:

- سجناء المبنى هذا فقط من سيعودون إلى المنازل، أما البقية فقد كان هناك اتفاقات بأن يخرجوهم من السجون على شرط أن يذهبوا للقتال.

- ربما سجناء هذا المكان هم المختطفون فقط، الذين لا تُهم عليهم.

- في الشطر الآخر لا أحد يخرج سليماً، هل سمعت كيف اغتصبوا الرجال؟ أولئك الملاعين من الدول الغنية يغتصبون أي شيء يتحرك، من الكلاب إلى الرجال.

- الحال من بعضه يا رجل، هنا لا يغتصبونهم، لكنهم يبعثون بهم إلى الموت رأساً، هل رأيت أحدهم خرج حياً من قبل؟!

- موت في كل الحالات، إنهم يختطفون البنات الآن.

- يقولون أن هذا المبنى فقط محطة، لكن السجون الحقيقية مخفية، ولا أحد يعرف عنها شيئاً، مقرات تحت الأرض يا رجل.

- إن أمي تعد المنزل منذ الأمس، لقد أعدت طبخاً لوليمة، وقالت إنها ستدعو كل أطفال الحارة، إن أخي مخطوف منذ أربعة أعوام، كان الجميع يعتقد أنهم سيقومون بخطفي أنا، ولا أحد يعرف لماذا خطفوه هو، كان شاباً صغيراً حينها.

بينما ظل أبطالنا الثلاثة صامتين، كان قلب سلمى يدق كما لو كان يحتج، ويداها ترتجفان، وشوقي يشعر بقلق بالغ، يكاد يجزم أن هذا، كل هذا، لن يكون على ما يرام، أما شقيق سلمى، فقد وقف هناك وكأنه لا علاقة له بما يجري.

شاب فتي، بهيُّ الطلعة جميل، يكاد يبدو سعيداً، يرتعد قليلاً بسبب البرد، فيفرك ساعديه ويعود للنظر حوله، ويهز رأسه إذا ما التقت عيناه بعيني آخر.

فُتحت البوابة، خرج رجل قصير بدين، يحمل بيده ورقة، وباليد الأخرى مايكروفون، وأحاط به رجلان مسلحان. وعلى السور ظهر فجأةً رجال مسلحون ومقنّعون، صوبوا فوهات أسلحتهم نحو الجمهور في الخارج، تنحنح الرجل بمايكروفونه ثم قال:

- سأقرأ الأسماء التي سيتم استلامها اليوم، البقية يجب أن يعودوا غداً في الوقت نفسه، لا نريد أن نسمع أي اعتراض، وإلا ستنامون في أماكنهم إن لم يكن في المقبرة.

سرت الهمهمات مرةً ثانية، وبدأ شوقي يفرك يديه بعصبية بينما لم تتحرك سلمى، ولم تبدِ أي ردة فعل، تنحنح الرجل مرة أخرى، فأخرست الهمهمات وساد الصمت. وحال أن بدأ الرجل القراءة، كان ذوو الرجل المختار اسمه يحتفلون، بأن يحمدوا الله ويصفقون بأيديهم، جاء دور علي في الرقم خمسة، قفز شقيق سلمى، وأمسكها من كتفيها، ارتعشت هي وضحكت وهي تكاد تبكي، بينما ظل شوقي على توتره البالغ.

أُمِر الجمهور الذي كان مجيئه عبثاً بالمغادرة فوراً تحت تهديد السلاح، رفعت امرأة عجوز يديها ودعت عليهم بالهلاك، وهي تبكي، وبدأ الرجل الذي كان يتحدث عن أمه بلكم صدره بعنف، كان يمشي مبتعداً، ويلطم صدره بكل قوة، بينما يحاول رجل آخر إيقافه.

ظلت سلمى ملتفتةً إلى الوراء تشاهد الحشد وهو يغادر، وعادت إلى حلمها الأبدي: بأن تكون غير مرئية، فتفعل كل شيء تستطيعه لأجل نفسها ولأجل البشر. ستذهب لتصفع الرجل بمايكروفونه، وتنشر الرعب في قلوب المسلحين الهمجيين، ثم تطلق سراح كل الذين في الداخل. لكنها للأسف مرئية وأكثر بكثير مما تريد.

أُخرِج رقم واحد، رجل ربما أربعيني، لم تستطع سلمى القول، كان هزيلاً جداً، يمسك بخاصرته كما لو كان أحدهم لكمه للتو، يرتدي ملابس السجن الزرقاء، وهي تبدو قذرةً للغاية، كان يبحث عن ذويه وهم أمامه مباشرة، زائغ العينين، أحاط به رجلان يسندانه، والسعادة تغمر وجهيهما، بينما تأنّت المرأة في القدوم إليه ولمسه، اتجهوا نحو سيارة تتنظر قريباً منهم استقلوها ومضوا، وسلمى تودعهم بنظرات متحسّرة.

رقم اثنين لم يكن مختلفاً عن رقم واحد، عدا عن أنه كان بانتظاره رجل واحد شائب، ولم يكن يمسك بخاصرته، بل كان يعرج ويمشي بصعوبة بالغة، ولم تكن هناك سيارة بانتظارهما، احتار العجوز، وتلفّت يميناً ويساراً وهو يسنده، قفز شقيق سلمى من مكانه إليهما، واتفق مع العجوز بأنه سيذهب إلى الشارع الرئيسي عله يجد سيارة أجرة، وبلهجة متواطئة سأله محاولاً ألا يسمع الأعرج الحوار:

- هل لديك مال؟

هز العجوز رأسه، فانطلق الشاب، وبعد خمس دقائق عاد يجلس في المقعد الأمامي لسيارة بيضاء متربة. ابتسمت سلمى فخورة..

- مغادرين المكان.

رقم ثلاثة مثل واحد واثنين، وأسوأ قليلاً، لأنه تهاوى بعد خطوتين فهرع ذووه إليه، ورجحت سلمى أنه كان محمولاً، لأن رجالاً تجمعوا بجانب البوابة قبل أن يظهر رقم أربعة واقفاً يترنح.

جاء دور علي، انقبض قلب سلمى وظل منكمشاً، تتنفس بصعوبة، ويقشعر جسدها بسبب البرد وبسبب الخوف، أخذ علي وقتاً أطول من الآخرين، وكان الرجال بجانب البوابة يهمسون لبعضهم، مضت دقائق وبدا أن شوقي قد فقد صبره على الاحتمال، فبدأ يدق الأرض بقدميه ويتحرك ذهاباً وجيئة، أخيراً انفرط عقد المسلحين أمام البوابة وخرج رجلان يحملان ما يبدو أنها بطانية في داخلها جسد، تقدم الرجلان وصرخ أحدهما:

- أين هم أهل الرقم خمسة؟

تقدم شقيق سلمى مسرعاً، لأن شوقي وسلمى كانا قد تجمدا مكانهما، وضع الرجلان البطانية - الحمالة على الأرض بحرص، ثم عادا أدراجهما إلى البوابة، واختفيا.

في البطانية استلقت مومياء حية، جسد أُفرغ مما فيه، ولم يتبق غير الجلد يستر العظم والأوردة، غطّى الرأس الكبير شعر خفيف مضت فترة طويلة منذ آخر مرة حلق فيها، نتأت عظام الوجنتين بشكل مؤذٍ، وبدا شكل الأنف ضخماً وغير متسق، غارت العينان إلى الداخل، وكانتا صغيرتين بأهداب طويلة، أذناه متسختان من الداخل، وأصابعه معقوفة بشكل غريب.

تفحص شوقي المومياء، نظر إليها ملياً كأنما ليتأكد أن هذا علي، ثم ركع على ركبتيه بجانب المومياء، مد يده نحو الوجه العظمي، فلاحت شبه ابتسامة، والتمعت العينان الغائرتان، وهما تدوران على الوجوه، توقفتا لوهلة على سلمى، ثم انتقلتا إلى الشقيق الذي انطلق لإحضار سيارة أجرة، فلم يبادل علي النظرات.

حمل الشابان المومياء باتجاه السيارة، واحتارا كيف يمكن وضع الجسد في السيارة الصغيرة، لذا اقترب شوقي من علي، وسأله بلطف إن كان يستطيع الجلوس، نظر إليه علي قليلاً ثم أومأ برأسه، لذا ساعدوه أولاً على الجلوس وهو ما زال في الخارج، وحين لاحظوا أنه غير مشلول بعد، لكنه لا يستطيع حمل نفسه، قرروا إسناده في الداخل.

سلمى التي لم تقل شيئاً ولم تدلِ باقتراح، جلست في المقعد الأول بجانب السائق، وقفت الغصة في حلقها، لم تبكِ بعد، لم تصرخ طالبة الهواء لأنها تموت، لم تضرب برأسها حتى تهشمه، لم تعد إلى بوابة السجن فتهد عليهم السور أو يقتلونها دون ذلك، لم تفعل أياً من ذلك.

فقط فكرت به..

اتفق الشابان أنهم سيذهبون فوراً إلى المستشفى، قد يرأف به الأطباء ويسمحون له بالدخول، سيعرفون من عينيه أنه لا يحمل الفيروس، لكنه ربما يحمل أشياء أخرى، سألا سلمى إن كانت تريد المرافقة أو العودة إلى المنزل، التفتت من الأمام وهزت رأسها بالإيجاب.

فقد علي وعيه قبل أن يصل إلى المستشفى، فأعيد حمله بالبطانية التي أُخرج بها من البوابة، عرضه الشابان على الأطباء في ممر الطوارئ، قال لهم شقيق سلمى:

- طازج! من المعتقل إليكم فوراً!

نظر طبيب إلى الهيكل العظمي فاقد الوعي وهز رأسه يائساً:

- أنتم تعرفون أنه 99 في المئة ميت؟

في الطريق إلى المنزل، لم تبكِ سلمى كما هو متوقع، عادت هادئةً، وسألت والدها إن كانت دار جده في القرية ما زالت قابلةً للسكن. عرف الأب إلى أين تمضي في سؤالها فأومأ برأسه إيجاباً، وبالهدوء ذاته واصلت حديثها: هل يمكن أن نجرب لمدة شهر واحد؟ هذه المرة لن أقول لنذهب إلى غير رجعة، فقط شهر واحد أنا وأنت، ثم لتقرر بعدها.. وبشأن تكاليف الرحلة سأبيع أقراطي.

- بالطبع، لمَ لا؟ سنبيع أثاثنا ونرحل من هذه المدينة نهائياً، سنشتري أغناماً ونستعيد أرض جدي.

حينها بكت سلمى  

الحلقة الأولى
الحلقة الثانية
الحلقة الثالثة
الحلقة الرابعة
الحلقة الخامسة
الحلقة السادسة
الحلقة السابعة
الحلقة الثامنة
الحلقة التاسعة
الحلقة العاشرة
الحلقة الحادية عشر
الحلقة الثانية عشر
الحلقة الثالثة عشر
الحلقة الرابعة عشر
الحلقة الخامسة عشر
الحلقة السادسة عشر
الحلقة السابعة عشر
الحلقة الثامنة عشر
الحلقة التاسعة عشر
الحلقة العشرون
الحلقة الحادية والعشرون

مقالات من اليمن

للكاتب نفسه

رثاء...

ريم مجاهد 2023-07-06

"صلاح" لم يكن ابن أمي الوحيد، لكن أمي كانت - تقريباً - عالم صلاح الأوحد. هذه العلاقة التي تُسلّم بها العائلات التي تحظى بطفل/ة من ذوي الاحتياجات الخاصة... يعرف الجميع...