يبدو أن لا أحد تساءل عن مصير عشرات السيدات اللاتي هُدمت بيوتهن ونهبت أغراضهن ولوحقن كالساحرات بعد إغلاق مواخير كل من سوسة وباجة والقيروان. تجدر الإشارة إلى أن الدولة في تونس هي التي أخذت على عاتقها تنظيم وتأطير هذه المهنة. فالمواخير المذكورة كانت تحت إشراف وزارة الداخلية، وتحمل العاملات هناك في بطاقات تعريفهن الوطنية صفة "موظفات في وزارة الداخلية". والأمر مُقنن ويندر وجوده في بقية الدول العربية. فالدولة كانت تحمي عاملات الجنس وتمنع وتُعاقب أي نشاط مماثل يُمارَس بشكل سري. إنه حدث جانبي قد لا يُثير اهتمام أحد، أو لا يتوقف البعض عنده إلا لغرض السخرية والتفكّه، واللّعن خاصة. وسائل الإعلام تعاطت مع الحدث من باب الإثارة والفرجة لا غير، قبل أن يذهب الأمر طي النسيان. هكذا تُعالَج كثيرٌ من المسائل الجادّة في تونس. يقوم الهامش بما عليه، يطرح على الساحة قضاياه المؤرِقة ثم ينسحب.
ولا يُمكن أن يطلب من الهامش أكثر من طرح القضايا، فلو كان الحل بيده لعالج قضاياه وفضّ مشاكله وقُضِي الأمر. لكن للمركز دائماً أجنداته وحساباته. هناك مشاكل يتلقفها ويحتضنها ويُراهن عليها، وأخرى يؤجلها أو يساوم بها. وفي الحالين قدر كبير مما هو مشبوه. وهنالك مشاكل يُعيد قذفها نحو الهامش من غير أن يلتفتَ إليها إطلاقاً.
محرزية لعبيدي عرضت على مُشرفة الماخور المذكور "منحة" لنسائه المئة والعشرين، المعطلات منذ أكثر من سنة، حتى يتخلين عن مطلبهن. من ذلك اللقاء المُستحيل، لم يصلنا سوى فيديو قصير جداً ومعلومات شحيحة تداولتها أغلب الأخبار، وإن كانت في غاية الأهمية. تقول إحدى السيدات المُحتجات، وقد قدمت نفسها باسم سُهير، "إن سلفيين غرباء عن مدينة سوسة أحرقوا الماخور بعد أن نهبوه وتركونا دون عمل منذ ذلك الوقت. وإن العاملات بالماخور صرن يُعانين من الجوع والفقر منذ إغلاقه". كما أكدت المرأة على أمر آخر: "نحن نعرف بأن الدولة ليس بإمكانها اليوم أن تُساعدنا مادياً، لأن البلاد تُعاني أوضاعاً اقتصادية مزرية، لذلك نطالب بإعادة فتح الماخور حتى لا نتشرّد". قد يُحسب للسيدة العبيدي استقبالها لعاملات الماخور، وقد صرّحت في ذلك الشأن "بأن كل مواطن تونسي يطلب مُقابلتي عبر مكتب الضبط، ليس لي الحق أن أقول له لا أقابلك". وهي تعرضت بسبب ذلك لعاصفة من الانتقادات والتشكيك بإسلامها...
قالت السيدة المُشرفة على الماخور للسيدة المُشرفة على أعلى مُؤسسة شرعية في تونس "إن الظروف في البلاد تغيرت، وقد استأنفت عديد المؤسسات نشاطها وحان الوقت لكي يستعيد الماخور نشاطه". وهكذا بدت تلك المرأة شديدة الدبلوماسية والحصافة، وإلى ذلك فهي تُتقن فن المزاح وتتمتع بروح المسؤولية والحس الوطني. ثم لماذا لا يستعيد الماخور نشاطه، إذا كان "التجمعيون" أنفسهم، صقور حزب بن علي، قد عادوا للنشاط بشكل سافر، ويستعدون اليوم لخوض الانتخابات، كأنما لم تكن هناك ثورة ولا من يحزنون؟ إننا لمحظوظون لأننا عشنا في زمن صار الماخور فيه يُخرّج أناساً يتمتعون بحس الوطنية والمسؤولية ويُؤمنون بثقافة العمل. والتاريخ كذلك يشهد على نضالات "المومسات" التونسيات زمن الاستعمار الفرنسي، لمّا كُن يخزنّ السلاح، ويستدرجن جنود الاحتلال إلى كمائن يصطادهم فيها المُقاومون. وليس في ذلك امتداح لمهنة "الدعارة" بالطبع، ولا هذا هو بيت القصيد.
وفي مداخلة لها على إحدى الإذاعات الخاصة، أفادت إحدى العاملات هناك، في شهادة من قلب الميدان، "بأن السيدات يخضعن لفحص طبي أسبوعي وتحاليل مُختلفة كل أسبوعين". كما تأسفت السيّدة للانفلات والفوضى اللذين عرفهما القطاع، محذرة من انتشار البغاء السري، ومُذَكِّرة بحوادث مؤلمة تكررت أكثر من مرة وتمثلت في "إلقاء بعض الشبان الليبيين للفتيات من شرفات العمارات مما تسبب في وفاتهن، كما حصل مؤخراً في حي المنزه بالعاصمة". أستعير عنوان إحدى روايات "ماركيز"، وأقول يا لسوء حظ "غانياتي الحزينات". فقد لا تكون قضية دُور البغاء اليوم مطروحة للنقاش كما يجب، في ظل تفاقم المواضيع "السّاخنة"، كالتهديدات الإرهابية والأزمة الاقتصادية.